من تجليات الإدارة النبوية في المجتمع الإسلامي
كانت إدارة النبي (صلى الله عليه وآله) الاجتماعيّة والعسكريّة في أعلى مستوياتها، فكان يلاحق كافّة الأمور. طبعًا كان المجتمع صغيرًا، المدينة وأطرافها، وبعد ذلك أضيف إليه مكّة ومدينة أو مدينتان أخريان، إلّا أنّه كان مهتمًّا بأمور الناس وكان منظّمًا ومرتّبًا. وقد أجرى في ذاك المجتمع البدوي، والإدارة والحساب والمحاسبة والتحفيز والتنبيّه بين الناس. هذه هي الحياة الاجتماعيّة للرسول التي يجب أن نقتدي بها جميعًا، من مسؤولي البلد وأفراد الشعب[1].
العمل لإيجاد العدل بين الناس
النقطة الأخرى في الدعوة الإسلاميّة، عبارة عن إيجاد العدل بين الناس. من جملة خصوصيّات الجاهليّة، أنّها نظامٌ ظالم. كان الظلم، عرفًا رائجًا... فعمل الإسلام على النقطة المقابلة، جاء بالعدل، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[2]. فهو من خصوصيّات المجتمع الإسلاميّ والعدل وليس مجرد شعار، بل يجب على المجتمع الإسلاميّ أن يتحرّك نحو العدل، وإذا كان العدل مفقودًا عليه أن يوجده. فإذا ما كان في العالم نقطتان متقابلتان إحداهما العدل والأخرى الظلم، وكلتاهما غير إسلاميّة، فالإسلام يُظهر موافقته على نقطة العدل تلك، حتّى لو كانت غير إسلاميّة. الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أرسل المهاجرين إلى الحبشة، أي إنّه هو الذي أرسلهم ليكونوا في حماية ملكٍ (غير مسلم)، وذلك بسبب العدل. بعبارةٍ أخرى أبعد الناس عن البيئة التي يعيشون فيها وعن مكان حياتهم بسبب الظلم الذي كان يمارَس عليهم[3].
خلاصة معنى ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[4] أن يعيش الناس في بيئةٍ عادلة ومجتمعٍ عادل ونظامٍ عادل، لهذا الأمر جاء الرسول، جاء لإيجاد عالَمٍ عادل ومجتمع ونظام عادلَين. طبعًا في النظام العادل يجد البشر الفرصة للوصول إلى التكامل والتعالي، ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. ويقول بعد ذلك: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾[5]. هل يكفي مجرّد الحديث والموعظة وأن نقول للناس تعالوا لإقامة نظامٍ عادل؟ لو فرضنا أنّ النّاس تمكّنوا من إقامة نظام عادل، فهل سيسمح الذئاب والسارقون والمجرمون ببقاء هذا النظام العادل؟ لذلك أنزلنا الحديد. لماذا أنزلنا الحديد؟ عندما نرجع إلى كتب الحديث، نجد الإمام عليه السلام عندما فَسّر الآية، ووصل إلى ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾، قال "السلاح"، السيف، السهم، الأسلحة التي تُصنع من الحديد. يتحدّث الله تعالى عن السلاح، إلى جانب الحديث عن دعوة النبوة، يتحدّث عن الأسلحة والقوة القاهرة، إلى جانب الموعظة التي فرضها على الأنبياء، وإلى جانب تأسيس النظام التوحيدي والإلهي.
المداراة
عاش الناس مع النبي (صلى الله عليه وآله) عشر سنوات ليل نهار، ذهبوا إلى منزله وزارهم في منازلهم، وكانوا معًا في المسجد وفي الطريق، وسافروا معًا وناموا وجاعوا وفرحوا... إنّ هؤلاء الناس الذين عاشوا معه عشر سنوات، كانت تتعمّق في قلوبهم محبّته والاعتقاد به يومًا بعد يوم. عندما تخفّى أبو سفيان، أثناء فتح مكة، ودخل معسكر النبيّ بحماية وتشجيع من العباس - عم النبيّ - ليحصل على الأمان، شاهد النبيّ يتوضّأ صباحًا، والناس مجتمعون حوله لالتقاط قطرات الماء التي تنزل من وجهه ويديه! قال حينها: إنّه رأى كسرى وقيصر - الملكين الكبيرين والقويّين في العالم - إلّا أنّه لم يشاهد فيهما هذه العزّة[6].
المشهد الآخر من حياة الرسول، سلوكه وتصرّفه مع الناس. لم ينس على الإطلاق الخُلق والطبع الشعبي والمحبّة والرفق بالناس والسعي إلى إرساء العدل بينهم. كان يعيش كما الناس وبينهم، كان يجلس وينهض معهم، كان صديقًا ورفيقًا للغلمان وطبقات المجتمع المتدنّية، كان يتناول الطعام معهم ويجالسهم، ويُظهر لهم المحبة والمداراة. لم تغيّره السلطة ولا الثروة الوطنية. لم يختلف سلوكه في المرحلة الصعبة عنه في مرحلة انتهاء الصعوبات. كان مع الناس ومن الناس في كافّة الأحوال! كان يرفق بهم ويريد لهم العدل[7].
الشخصية القياديّة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية