هل لخزائن الله حدود ؟ وإذا كانت لا تنفذ أو تقل فلماذا؟

بسم الله الرحمن الرحيم



الجواب : هناك خلاف بين المفسرين في معنى خزائن الله تعالى وما تعنيه، لكن من المؤكد أن المقصود بـ "الخزائن" هنا ليس الخزائن المادية الموجودة عند الملوك والسلاطين . نعم، هذا هو التصور الأولي لدى الإنسان! وهو إفراز طبيعي ناتج عن الذهن البشري ذا التكوين الحسي، فأنس الإنسان بالأمور المادية وطبيعة ما يمتلكه من أدوات حسية تجعله يتوهم ذلك .
إن المهمة الحقيقية لمفسَّر كتاب الله الكريم هو وضع معجم دقيق يُحدِّد فيه دلالات المفردة القرآنية ومستويات وعوالم تلك المفردة ؛ فهذه المهمة العميقة هي وحدها الكفيلة بالحد من التفسيرات العشوائية والاعتباطية التي قد يقع فيها البعض .
وبالعودة إلى المفردة مورد السؤال (خزائن الله) نرى أن القرآن الكريم فرِّق بين مستويين من التعبير : الأول (ما عندكم)، والثاني : (ما عند الله)، وأعطى حكماً للموجودات والأشياء التي تدخل في دائرة (ما عندكم) مختلفاً عن الحكم الذي أعطاه للموجودات التي تدخل في دائرة (ما عند الله)؛ حيث يقول سبحانه: (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ)(1) ، ومع ربط هذه الآية مع قوله تعالى: (وَإنْ مِنْ شَيْء إلاّ عِنْدَنا خزائنه)(2) يتّضح أنّ تلك الخزائن ما هي إلا تعبير عن مستوى من الوجود للأشياء يختلف عن الطبيعة الوجودية التي نتداولها لها. ولعلّ أوضح نصّ قرآنيّ يدلّ على وجود عوالم متعدّدة هو هذه الآية الكريمة الأخيرة.
ومعنى الخزائن كما جاء في مجمع البحرين: (خزائن الله: غيوب الله، سُمّيت خزائن لغيوبها واستتارها. وخَزَن المال: غيّبه، يُقال: خزنت المال واختزنته من باب قتل: كتمته، وجعلته في المخزن، وكذا خزنت السرّ إذا كتمته)(3) . وعندئذٍ يكون معنى (خزائن الله) هو نفسه المعبَّر عنه في الآيات القرآنية بـ (الغيب)، نظير قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)(4)، وقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول)(5) .
وهكذا ينتهي التحليل المضموني في خاتمة هذه النقطة إلى أنّ الخزائن الإلهية التي تذكرها الآية هي جميعاً فوق عالمنا المشهود، وبحكم انتسابها إلى ما عند الله (وَمَا عِندَ اللهِ بَاق) فهي ـ من ثَمَّ ـ أمور ثابتة قارة، لا تزول ولا تتغيّر عمّا هي عليه، وخزائن كلّ شيء كائناً ما كان أمور ثابتة غير زائلة ولا متغيّرة. وهذه الجهة لا تقبل الشركة وتختصّ به تعالى وحده . فالربوبية ـ التي هي المُلك والتدبير ـ لا تقبل تفويضاً، ولا تمليكاً انتقالياً. وهذه الجهة الثانية للأشياء هي التي يسمّيها القرآن الكريم بـ (الملكوت)، وهو ما أشارت له نصوص أهل البيت () الواردة في شرح مفهوم الملكوت(6) .
ومن أهمّ خصائص (خزائن الله) طبقاً لما يستفاد من غرر الآيات القرآنية الأمور التالية:
الأوّل: ما من شيء في عالمنا المشهود إلاّ وله وجود في تلك الخزائن (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)، وبالتالي فتقييد الخزائن ـ كما جاء في بعض المحاولات التفسيرية لدى بعض المفسرين ـ بأنه المطر أو غيره من الأشياء، ما هو إلا تضييق لأفق النص القرآني الثري .
الثاني: أنّ هذه الخزائن متعدّدة، حيث ذكرت الخزائن بصيغة الجمع، وأقلّ الجمع اثنان. وهذا يفيد أنّ ما من شيء في عالمنا إلاّ ويعبّر عن مرتبة من الوجود، له فوقها خزائن، فيكون للشيء مراتب ثلاث، هي مرتبة هذا العالم ومرتبتان في تلك الخزائن، وفق قاعدة أنّ أقلّ الجمع اثنان .
الثالث: أنّ تلك الخزائن ليست هي في عالمنا المادّي المشهود، بل هي من عالم آخر فوق عالمنا؛ لقوله: (إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) حيث أضافت الخزائن إلى الله سبحانه .
أمّا عدد تلك الخزائن التي تحوي هذه الوجودات جميعاً، فهو أمرٌ ينأى عن تحديده العقل، ويحتاج القول فيه إلى دليل قطعيّ من القرآن أو الرواية يبيّن عدد تلك الخزائن (العوالم).
هذا وهناك تفاصيل أكثر أعرضنا عن ذكرها رعاية للاختصار .. والله الموفِّق لسبيل الصواب.

___________________________
(1) النحل: 96 .
(2) الحجر : 21 .
(3) الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، تحقيق : أحمد الحسيني، مكتب النشر الثقافة الإسلامية، ط 2 ، 1408 هـ ، ج 1 ، ص 643 .
(4) الأنعام : 59 .
(5) الجن : 26 ـ 27 .
(6) انظر مثلاً : الصفّار، أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، مكتبة المرعشي النجفي ـ قم، 1404هـ ، ص 107 ، 108 .