قصة استشهاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)
التي يرويها المُسيّب بن زهير
مع بيان استخدام الإمام لولايته التكوينية
مع بيان كلبة هارون الرشيد المسمومة
عَنْ تَمِيمٌ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَصْرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ :
إِنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ لَمَّا ضَاقَ صَدْرُهُ مِمَّا كَانَ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ فَضْلِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَمَا كَانَ يَبْلُغُهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِ الشِّيعَةِ بِإِمَامَتِهِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي السِّرِّ إِلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ خَشِيَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمُلْكِهِ ، فَفَكَّرَ فِي قَتْلِهِ بِالسَّمِّ ، فَدَعَا بِرُطَبٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ أَخَذَ صِينِيَّةً فَوَضَعَ فِيهَا عِشْرِينَ رُطَبَةً ، وَأَخَذَ سِلْكاً فَعَرَكَهُ فِي السَّمِّ وَأَدْخَلَهُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ، وَأَخَذَ رُطَبَةً مِنْ ذَلِكَ الرُّطَبِ فَأَقْبَلَ يُرَدِّدُ إِلَيْهَا ذَلِكَ السَّمَّ بِذَلِكَ الْخَيْطِ حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ السَّمُّ فِيهَا ، فَاسْتَكْثَرَ مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهَا فِي ذَلِكَ الرُّطَبِ وَقَالَ لِخَادِمٍ لَهُ : «احْمِلِ هَذِهِ الصِّينِيَّةَ إِلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ ، وَقُلْ لَهُ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكَلَ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ وَتَنَغَّصَ لَكَ بِهِ ، وَهُوَ يُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّهِ لَمَّا أَكَلْتَهَا عَنْ آخِرِ رُطَبَةٍ ، فَإِنِّي اخْتَرْتُهَا لَكَ بِيَدَيَّ ، وَلَا تَتْرُكْهُ يُبْقِي مِنْهَا شَيْئاً وَلَا يُطْعِمُ مِنْهَا أَحَداً» . فَأَتَاهُ بِهَا الْخَادِمُ وَأَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ . فَقَالَ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : «ائْتِنِي بِخِلَالٍ» . فَنَاوَلَهُ خِلَالًا وَقَامَ بِإِزَائِهِ وَهُوَ يَأْكُلُ مِنَ الرُّطَبِ ، وَكَانَتْ لِلرَّشِيدِ كَلْبَةٌ تَعِزَّ عَلَيْهِ فَجَذَبَتْ نَفْسَهَا وَخَرَجَتْ تَجُرُّ سَلَاسِلَهَا مِنْ ذَهَبٍ وَجَوْهَرٍ حَتَّى حَاذَتْ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، فَبَادَرَ بِالْخِلَالِ إِلَى الرُّطَبَةِ الْمَسْمُومَةِ وَرَمَى بِهَا إِلَى الْكَلْبَةِ ، فَأَكَلَتْهَا فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ ضَرَبَتْ بِنَفْسِهَا الْأَرْضَ وَعَوَتْ وَتَهَرَّتْ قِطْعَةً قِطْعَةً ، وَاسْتَوْفَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بَاقِيَ الرُّطَبِ وَحَمَلَ الْغُلَامُ الصِّينِيَّةَ حَتَّى صَارَ بِهَا إِلَى الرَّشِيدِ ، فَقَالَ لَهُ : «قَدْ أَكَلَ الرُّطَبَ عَنْ آخِرِهِ نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ» . قَالَ : «فَكَيْفَ رَأَيْتَهُ» ؟ قَالَ : «مَا أَنْكَرْتُ مِنْهُ شَيْئاً يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ» . ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ خَبَرُ الْكَلْبَةِ وَأَنَّهَا قَدْ تَهَرَّتْ وَمَاتَتْ ! فَقَلِقَ الرَّشِيدُ لِذَلِكَ قَلِقاً شَدِيداً وَاسْتَعْظَمَهُ وَوَقَفَ عَلَى الْكَلْبَةِ فَوَجَدَهَا مُتَهَرِّئَةً بِالسَّمِّ ! فَأَحْضَرَ الْخَادِمَ وَدَعَا لَهُ بِسَيْفٍ وَنَطْعٍ وَقَالَ لَهُ : «لَتَصْدُقَنِّي عَنْ خَبَرِ الرُّطَبِ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ» ؟! فَقَالَ : «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي حَمَلْتُ الرُّطَبَ إِلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَأَبْلَغْتُهُ سَلَامَكَ وَقُمْتُ بِإِزَائِهِ ، فَطَلَبَ مِنِّي خِلَالًا فَدَفَعْتُهُ إِلَيْهِ ، فَأَقْبَلَ يَغْرِزُ فِي الرُّطَبَةِ بَعْدَ الرُّطَبَةِ وَيَأْكُلُهَا حَتَّى مَرَّتِ الْكَلْبَةُ فَغَرَزَ الْخِلَالَ فِي رُطَبَةٍ مِنْ ذَلِكَ الرُّطَبِ ، فَرَمَى بِهَا فَأَكَلَتْهَا الْكَلْبَةُ وَأَكَلَ هُوَ بَاقِيَ الرُّطَبِ ، فَكَانَ مَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ» . فَقَالَ الرَّشِيدُ : «مَا رَبِحْنَا مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّا أَطْعَمْنَاهُ جَيِّدَ الرُّطَبِ وَضَيَّعَنَا سَمْناً وَقَتَلَ كَلْبَتَنَا !! مَا فِي مُوسَى حِيلَةٌ» ؟!
ثُمَّ إِنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) دَعَا بِالْمُسَيَّبِ وَذَلِكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانَ مُوَكَّلًا بِهِ ، فَقَالَ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : «يَا مُسَيَّبُ» ! فَقَالَ : لَبَّيْكَ يَا مَوْلَايَ . قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : «إِنِّي ظَاعِنٌ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ، لِأَعْهَدَ إِلَى عَلِيٍّ (الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ) ابْنِي مَا عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي وَأَجْعَلَهُ وَصِيِّي وَخَلِيفَتِي وَآمُرَهُ بِأَمْرِي» . قَالَ الْمُسَيَّبُ : فَقُلْتُ يَا مَوْلَايَ كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْتَحَ لَكَ الْأَبْوَابَ وَأَقْفَالَهَا وَالْحَرَسُ مَعِي عَلَى الْأَبْوَابِ ؟ فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : «يَا مُسَيَّبُ ضَعُفَ يَقِينُكَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِينَا» ! فَقُلْتُ لَا يَا سَيِّدِي . قَالَ : «فَمَهْ» ؟! قُلْتُ : يَا سَيِّدِي ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُثَبِّتَنِي . فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ» . ثُمَّ قَالَ : «إِنِّي أَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي دَعَا بِهِ آصَفُ حَتَّى جَاءَ بِسَرِيرِ بِلْقِيسَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ سُلَيْمَانَ قَبْلَ ارْتِدَادِ طَرْفِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِي عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ» . قَالَ الْمُسَيَّبُ : فَسَمِعْتُهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَدْعُو فَفَقَدْتُهُ عَنْ مُصَلَّاهُ ، فَلَمْ أَزَلْ قَائِماً عَلَى قَدَمَيَّ حَتَّى رَأَيْتُهُ قَدْ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ وَأَعَادَ الْحَدِيدَ إِلَى رِجْلَيْهِ ! فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِداً لِوَجْهِي شُكْراً عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ . فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِي : «ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُسَيَّبُ وَاعْلَمْ أَنِّي رَاحِلٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ثَالِثِ هَذَا الْيَوْمِ» . فَبَكَيْتُ فَقَالَ لِي : «لَا تَبْكِ يَا مُسَيَّبُ فَإِنَّ عَلِيّاً ابْنِي هُوَ إِمَامُكَ وَمَوْلَاكَ بَعْدِي ، فَاسْتَمْسِكْ بِوَلَايَتِهِ فَإِنَّكَ لَا تَضِلُّ مَا لَزِمْتَهُ» . فَقُلْتُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ .
ثُمَّ إِنَّ سَيِّدِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) دَعَانِي فِي لَيْلَةِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لِي : «إِنِّي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ مِنَ الرَّحِيلِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِذَا دَعَوْتُ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبْتُهَا وَرَأَيْتَنِي قَدِ انْتَفَخْتُ وَارْتَفَعَ بَطْنِي وَاصْفَرَّ لَوْنِي وَاحْمَرَّ وَاخْضَرَّ وَتَلَوَّنَ أَلْوَاناً فَخَبِّرِ الطَّاغِيَةَ بِوَفَاتِي ، فَإِذَا رَأَيْتَ بِي هَذَا الْحَدَثَ فَإِيَّاكَ أَنْ تُظْهِرَ عَلَيْهِ أَحَداً وَلَا عَلَى مَنْ عِنْدِي إِلَّا بَعْدَ وَفَاتِي» . قَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرٍ : فَلَمْ أَزَلْ أَرْقُبُ وَعْدَهُ حَتَّى دَعَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِالشَّرْبَةِ فَشَرِبَهَا ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ لِي : «يَا مُسَيَّبُ ، إِنَّ هَذَا الرِّجْسَ السِّنْدِيَّ بْنَ شَاهَكَ سَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَوَلَّى غُسْلِي وَدَفْنِي وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَبَداً ! فَإِذَا حُمِلْتُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ فَالْحَدُونِي بِهَا وَلَا تَرْفَعُوا قَبْرِي فَوْقَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ مُفَرَّجَاتٍ وَلَا تَأْخُذُوا مِنْ تُرْبَتِي شَيْئاً لِتَتَبَرَّكُوا بِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ تُرْبَةٍ لَنَا مُحَرَّمَةٌ إِلَّا تُرْبَةَ جَدِّيَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَهَا شِفَاءً لِشِيعَتِنَا وَأَوْلِيَائِنَا» . قَالَ : ثُمَّ رَأَيْتُ شَخْصاً أَشْبَهَ الْأَشْخَاصِ بِهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) جَالِساً إِلَى جَانِبِهِ وَكَانَ عَهْدِي بِسَيِّدِيَ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَ هُوَ غُلَامٌ ، فَأَرَدْتُ سُؤَالَهُ فَصَاحَ بِي سَيِّدِي مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَقَالَ لِي : «أَلَيْسَ قَدْ نَهَيْتُكَ يَا مُسَيَّبُ» ؟ فَلَمْ أَزَلْ صَابِراً حَتَّى مَضَى وَغَابَ الشَّخْصُ ثُمَّ أَنْهَيْتُ الْخَبَرَ إِلَى الرَّشِيدِ فَوَافَى السِّنْدِيَّ بْنَ شَاهَكَ ، فَوَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ بِعَيْنَيَّ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَغْسِلُونَهُ فَلَا تَصِلُ أَيْدِيهِمْ إِلَيْهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُحَنِّطُونَهُ وَيُكَفِّنُونَهُ وَأَرَاهُمْ لَا يَصْنَعُونَ بِهِ شَيْئاً وَرَأَيْتُ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَتَوَلَّى غُسْلَهُ وَتَحْنِيطَهُ وَتَكْفِينَهُ وَهُوَ يُظْهِرُ الْمُعَاوَنَةَ لَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِهِ قَالَ لِي ذَلِكَ الشَّخْصُ : «يَا مُسَيَّبُ مَهْمَا شَكَكْتَ فِيهِ فَلَا تَشُكَّنَّ فِيَّ ، فَإِنِّي إِمَامُكَ وَمَوْلَاكَ وَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْكَ بَعْدَ أَبِي يَا مُسَيَّبُ مَثَلِي مَثَلُ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَمَثَلُهُمْ مَثَلُ إِخْوَتِهِ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» . ثُمَّ حُمِلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) حَتَّى دُفِنَ فِي مَقَابِرِ قُرَيْشٍ وَلَمْ يُرْفَعْ قَبْرُهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ ، ثُمَّ رَفَعُوا قَبْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَنَوْا عَلَيْهِ . (البحار : ج48، ص222. عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1، ص100.)