رحل سامي كلارك الموسيقي والمغني الذي سمح لنفسه أن يشاطرنا رحلتنا وأن يلج ذاكرتنا ويعرّش فيها
ربما بات من الصعب علينا إيجاد مساحة من الجمال نسترد فيها شيئا من الكثير الذي فقدناه بمرور الأيام، فنحاول بين الحين والآخر كلما اقتربنا من التعب أن نسرق قليلا من الوقت بحثا عن البساطة وسط كل تعقيدات العالم الحديث وصعوباته، ثم لا نجد ملاذا لفتح بوابة الحنين إلا عبر أغنيات ما زلنا نتمتمها كي نقنع أنفسنا بأننا قد نفوز بالحب العظيم على هذا الكوكب الصغير، أو أننا على الأقل لم نفقد القدرة على الفرح إذا ما عثرنا يوما على كنزنا المدفون في جزيرة بعيدة.
المغني سامي كلارك -الذي رحل مؤخرا- يثير فينا هذا النوع من النوستالجيا والتوق إلى الماضي، ولم ينشأ هذا الحنين إثر وفاة شريكنا الأول فيها، وتشهد على ذلك نسب المشاهدات والمشاركات العالية لشارتي "غريندايزر" و"جزيرة الكنز" أو أي حفل أو لقاء تلفزيوني غنى فيه كلارك.
هذه الشراكة لم تقتصر على برامج الأطفال، وإنما تعدتها إلى عشرات الأغنيات التي لم يتوقف بثها على محطات الراديو أو التلفزيون على الرغم من مرور عقود على إصدارها، فكثير يرغب في الرقص حتى الصباح، أو له حبيبة يريد تذكيرها باللقاءات الأولى.
ولأننا اعتدنا على أن لكل حكاية جميلة نهاية رحل سامي كلارك الموسيقي والمغني الذي سمح لنفسه أن يشاطرنا رحلتنا وأن يلج ذاكرتنا ويعرّش فيها حتى صار من السهل عليه توحيدنا في جوقة كبيرة واحدة تردد عشرات الأغاني التي كتبها على الرغم من اختلاف أعمارنا وانتماءاتنا.
موهبة فريدة تصبو للنجاح
ولد سامي كلارك في قرية ضهور الشوير اللبنانية يوم 19 مايو/أيار 1948، واسمه الأصلي سامي حبيقة، لكنه اختار لاحقا أن يلقب نفسه بسامي كلارك لسهولة لفظه في اللغات الأخرى.
برزت موهبته الموسيقية بعد انضمامه إلى الفرقة الموسيقية العسكرية عقب التحاقه بالخدمة الإلزامية حين كان يبلغ من العمر 18 سنة، مستفيدا من تشجيع والدته التي كانت تجيد العزف على آلة البيانو، ثم سرعان ما دفعه حبه للفن إلى مخالفة رغبة والده في دراسة الحقوق.
بدأ كلارك بتأليف الألحان وكلمات الأغاني منذ أن كان طالبا، ثم أسس مع عدد من أصدقائه فرقة موسيقية أطلقوا عليها اسم "روبنز"، قبل أن يكتشفه الراحل إلياس الرحباني على مسرح "الجامعة اليسوعية" في بيروت، وطلب منه الذهاب معه إلى اليونان للمشاركة في مهرجان عالمي، وبالفعل كتب له الرحباني عام 1970 أغنية بالفرنسية "جاميس" (Jamais) تحكي قصة شاب لبناني يسافر برفقة غيتاره، والتي حققت نجاحا لافتا آنذاك، كذلك لاقت أغنية "موري موري" التي كتبها الرحباني أيضا نجاحا باهرا.
كنز كلارك الثمين
ومنذ ذلك الحين نال سامي كلارك العديد من الجوائز المحلية والعالمية تكريما لمسيرته الفنية الطويلة التي تضمنت 9 برامج تلفزيونية للهواة و12 برنامجا إذاعيا، كما شارك في 3 أفلام سينمائية، هي "الممر الأخير"، و"حسناء وعمالقة"، و"لعبة النساء"، بالإضافة إلى أكثر من 800 أغنية وعشرات الأناشيد الوطنية، بحسب مقابلة له نشرت في جريدة الديار عام 2019.
كل ذلك جعله واحدا من أبرز الفنانين اللبنانيين، ولا سيما أنه غنى بعدة لغات أجنبية، كالفرنسية والإنجليزية والروسية والإيطالية والألمانية واليونانية، ونجح في مزج اللغة العربية مع اللغات الأخرى بأسلوب سلس غير متكلف، مما ساهم في تقريبه من الجمهور.
كما قام بغناء شارات بعض مسلسلات الكرتون في ثمانينيات القرن الماضي، مثل "غريندايزر"، و"جزيرة الكنز"، بالإضافة إلى بعض الإعلانات.
رحيل مبكر
عُرف عن سامي كلارك صدقه ووفاؤه تجاه فنه وعائلته وأصدقائه على حد سواء، وفي السنوات الأخيرة من عمره اتجه نحو الأعمال الخيرية والإنسانية، وبقي يحيي الحفلات في عدد من الدول العربية وكندا والولايات المتحدة واهبا ريعها للمساعدات الإنسانية والجمعيات الخيرية.
كما عمل كلارك منذ تفشي وباء كورونا على تنظيم أرشيفه الفني وتوزيع بعض أغاني الراحل زكي ناصيف التي تتناول موضوع الاغتراب نتيجة موجة الهجرة الكبيرة التي حصلت جراء الانهيار الاقتصادي وانفجار مرفأ بيروت، إلى جانب إعداد بعض الأغاني التي كتبها له إلياس الرحباني ولم تصدر من قبل، فضلا عن كتاب بعنوان "قصة غنية" يروي فيه سيرته وقصصه مع كل أغنية له، لكن كل تلك المشاريع لم تكتمل، حيث وافته المنية يوم الأحد الماضي بعد تعرضه لأزمة قلبية، ليترك إرثا كبيرا من الأغاني التي سترافقنا لسنوات طويلة.
يارا عيسى - الجزيرة نت