صممت على النهوض بعدما أكل الصداع نصف رأسي، ناولت نفسي قدح الماء الذي يقبع من الأمس
لم تكن ليلتي مريحة أبدا، استيقظت أكثر من سبع مرات أتفقد فيها الشمس التي تأبى أن تشرق، وكأنها تعاندني بغفوتها الطويلة خلف ظنون أفكاري.
صممت على النهوض بعدما أكل الصداع نصف رأسي، ناولت نفسي قدح الماء الذي يقبع من الأمس على جانب الأريكة، شربت كأس الماء حتى النهاية، وضممت جسدي الهزيل تحت الملحف، وبعد عناء ليل طويل وأنا أمسك بيدي جهاز الموبايل وبعين ناعسة لا تعرف كيف تنام لمحت خيوط الشمس تلون السماء في تمام الساعة الخامسة صباحا.
ارتحت قليلا، وكأن دفئها أدخل الاطمئنان في روحي الباردة ثم لم أشعر بنفسي إلاّ والمنبه يرن بصوته المزعج عند الساعة السابعة والنصف.
من الواضح أني غفيت ما يقارب ساعتين ونصف دونما أشعر بنفسي، فقد أنهك التفكير عقلي وروحي فالموقف الذي وضعت نفسي فيه كلفني الكثير، بضع كلمات كادت أن تنهي حياة أقوى علاقة صداقة بدأت من أيام الطفولة، شجار لا أصل له مع أعز إنسانة لي وعلى سبب تافه جدا، عوضا عن أنها ربة عملي فقد أكملت هي دراستها الأكاديمية وأًصبحت مديرة برتبة عالية إنما أنا فقد أخذني فضول العيش واكتفيت بشهادتي الثانوية..
نهضت من فراشي ثم حاولت ترتيبه على مضض واتجهت بعدها لأخذ حمام دافئ أستعيد به نشاط عقلي وجسدي... كنت أفكر كثيرا بالكلمات التي صوبتها نحوها، إنها كانت أشبه بالسهم السام الذي يخترق القلب ويمزق وتينها، ماذا أفعل يا ترى؟
لماذا تفوهت بتلك الكلمات وتنمرت عليها وفضحت ذلك التشوه الموجود في جسدها أمام الموظفين والذي لا يعلم بوجوده سوى المقربين منها جدا؟
كيف استطعت أن أجرح مشاعر أعز صديقة لي هكذا أمام الناس؟، كيف استطعت أن أنسى الأيام التي وقفت هي بجانبي بعد وفاة أبي وساعدتني أن أجد عملا في الشركة التي تديرها لأساعد نفسي وأدير شؤوني المادية مستقلة عن عائلتي؟، واما بالنسبة لعملي فبالتأكيد سأخسره، فليس هنالك أي مخلوق على وجه الكرة الأرضية يرضى بأن تهان كرامته أمام موظفينه ويسكت... بالتأكيد سأجد ورقة الطرد اليوم على المكتب.
خرجت من الحمام وارتديت ملابسي بسرعة واتجهت إلى مكان العمل وأنا أعلم جيدا بأني ذاهبة لأستلم أوراق إنهاء الخدمة من الشركة هذا طبعا إن تفضلت عليّ المديرة ولم تطردني بورقة الفصل والذي بعدها من المستحيل أن أجد عملا محترما بشهادتي الواطئة تلك! في كل الأحوال لم تهمني خسارة عملي بمقدار خسارتي لصديقة طفولتي فقد شغلني التفكير طول الطريق بكلماتي وأسلوبي الدنيء الذي واجهت به تلك الفتاة البريئة صبيحة يوم أمس...
وصلت إلى المكتب جميع الأنظار كانت تلتفت إلي بطريقة غريبة، حاولت انهاء حفلة العيون هذه وضعت حقيبتي على المكتب وحاولت الجلوس لأستجمع أفكاري وأحاول قول جملة تبدد أنظارهم عني، حتى قاطعني أحمد: المديرة تريدك في غرفتها...
حاولت أن ابتلع ريقي ولكني لم أستطع، قمت من مكاني مباشرة هاربة من عيونهم التي كادت أن تأكلني من كثرة التحديق بي، متجهة إلى غرفتها بخطوات مثقلة بالخجل.
وصلت عند الباب ولكن يدي أبت أن تطرقه، حاولت لملمة نفسي من الخجل ولكني لم أستطع السيطرة على قلبي الذي بات يخفق بسرعة.
ماذا تريد مني يا ترى؟، بالتأكيد تريد أن تهزئني وتمسحني في الأرض وترمي ورقة الطرد في منتصف وجهي... وبالتأكيد أستحق ذلك، أستحق جدا ما ستفعله بي!.
طرقت الباب بيد ترتجف حتى سمعت صوتها وهي تقول تفضل... دخلت بخطوات بطيئة وألقيت عليها تحية الصباح بوجه منكسر من الاستحياء!.
ثم أردفت قائلة بطريقة غير واعية ودون سابق تحضير: "أعتذر جدا يا أستاذة، اعتذر على فعلتي الشنيعة يوم أمس، لقد تفوهت بكلام قاسي لم أحسب له أي حساب ولا أعرف كيف خرج مني... والله لم أقصد ما قلته، إلاّ أن الشيطان التبس في لساني وجعلني أنطق بما لا أريد في ساعة عصبية!".
لم اسمع منها كلمة واحدة ولم أجد على وجهها أي ردة فعل غير ابتسامة يتيمة استقرت على زاويا شفتيها، لم أعرف سببها ربما تنتظر مني حتى أكمل اعتذاري لتبدأ هي مرحلة التنديد.
أكملت كلامي لها:
"أعتذر جدا على وقاحتي معك، أعلم جيدا بأني جرحت مشاعرك ولكني لا أريد منك شيئا سوى أن تسامحيني يا أستاذة وأنا سأترك العمل من صبيحة اليوم ولن تري وجهي مرة ثانية"
قاطعتني مباشرة:
"ماذا تقولين يا سمية، ولماذا تتركين العمل، وهو مصدر رزقك الوحيد بسبب أمر تافة يحصل بين كل الصديقات، ثم منذ متى وأنت تنادين صديقة طفولتك ب "أستاذة"؟
رمقتني بإبتسامة أكبر وأكملت قائلة:
"اعتذارك هذا كان مثل البلسم على جرحي، صحيح إنك بالأمس قد تركتي ندبة في قلبي، ولكني نسيت كل ما حصل بمجرد رؤية الندم على وجهك.. ".
قلت لها بعينين دامعتين:
"هل سامحتني حقا؟"
أجابت:
"المسامح كريم والكرم هي صفة لله، ومن أكون أنا حتى لا أسامحك يا سمية؟، إذ إن الله بعزّته وجلاله يغفر للإنسان ويسامحه على كبائر الذنوب بمجرد أن يتوب إليه، فبأي وجه أردك وأنا عبدة من عبيده؟
اقتربت منها أكثر وحضنتها بقوة وقد غلبني السكون والسكينة في آن واحد، استشعرت في حضنها الرحمة الإلهية التي تتجلى في بعض البشر، إنهم حقا عباد الله الصالحين الذين يكونون مِثله أو مَثله..
كم هو رائع أن نرى أخلاق الله تتجلى في البشر فيصبحون المرآة الصافية التي نرى فيها حقيقة العبودية والإخلاص للمعبود من خلال أخلاقهم وردود أفعالهم اليومية.
عدت إلى مكتبي وأنا غارقة في بحر فعلها الكريم معي، معلنة خسارة ظنون الموظفين البالية وهاتفة بفوز الرحمة الإلهية التي تجلت في خلقه.
من موقع بشرى حياة