النفوس الشاكرة في كلام أمير المؤمنين (ع)
السيد فاضل علوي ال درويش
ورد عن أمير المؤمنين : من شكر الله سبحانه وجب عليه شكر ثان إذ وفّقه لشكره، وهو شكر الشكر» «غرر الحكم: 9119».
في جلسة تأمل في أنفسنا وما حولنا نبصر من الحقائق والمعارف ما يدلنا على عظمة الباري وما من به علينا من نعم لا تعد ولا تحصى، والفكر الواعي يتآزر مع الوجدان والجوارح في النظر إلى النعم الإلهية فيصل إلى نتيجة تحمل معاني الرد المناسب من العباد تجاه المنعم المتفضل، فالعلاقات الإنسانية والآداب العامة تدعو إلى مقابلة الإحسان والمساعدة من الغير بالامتنان والشكر فكيف بالمحسن علينا بكل شيء، وهذا الشكر ينطلق من العقل من خلال القناعة بالتفضل الإلهي فلا يغفل صاحبه عن مقابلة النعم بالشكر، وكذلك الوجدان النشط تتحرك فيه المشاعر الصادقة والإحساس بالعظمة الإلهية، وأما الجوارح فتقابل كل نعمة بما يتناسب معها ولا يقتصر الأمر على جارحة اللسان فقط، فاللسان يكون صادقا في قول «شكرا لله» إذا لم يجحدها بنحو العملي، وإكرام كل نعمة وشكرها وضعها في المكان المناسب الذي يرتضيه المنعم المتفضل، فمن غير المعقول أن ندعي أننا من زمرة الشاكرين للنعم الإلهية لمجرد ترداد اللسان بهذه اللفظة، بينما نعمة المال نقابلها بالبخل أو الإسراف، أو نعمة الوقت والعمر المسمى لنا يكون شكرنا له بتضييعه في اللهو واللعب فضلا عن تحوله لمحطات من معصية الله تعالى دون حياء أو خجل.
ما ينبغي الالتفات له هو أن الإنسان يمكنه أن يتحول إلى كيان شاكر وممتن للنعم الإلهية وآخر جحود ملؤه التغافل والتناسي والإعراض عن استذكار النعم الإلهية، فهناك قلب شاكر لأنعم ربه يستشعرها وتخامر نبضاته كلما مر بإحداها بينما هناك قلب متبلد الأحاسيس لا يتلمس شيئا منها، وهناك جوارح ما إن تلاقي بنحو مباشر إحدى النعم إلا وتنطلق في ميدان الشكر وأداء حق النعمة، فهنيئا لمن أدى حق نعمة الجوارح فصان لسانه من الهفوات والزلات وقول السوء، وأعرضت أذناه عن استماع الحرام من غيبة وكذب واستنقاص الآخرين، ونفس مؤمنة لا تحرك جارحة اللسان لوحدها بالشكر دون أن تخامرها حقيقة شكر الله تعالى وأداء الحقوق بنحو عملي، فشكر نعمة المال هو صون مصدره ومصرفه من الحرام والتحرز عن الشبهات مع أداء الحقوق الشرعية والإنفاق منه على المحتاجين بعد توفير مستلزمات الحياة الكريمة لأفراد أسرته، وكذلك يتجلى الشكر الحقيقي لله عز وجل وتعظيم شأنه في حالات العسر والبلاء والمرور بأوقات المحن والشدائد، فهناك من تنشط نفسه في ساحة الشكر في ساعة الرخاء وعدم المعاناة من أي أسباب الضيق والألم، بينما تتبدل أحواله في ساعة المصاعب فيستجر الآلام ويندب حظه وينسى ربه، بينما المؤمن وصول مع ربه لا ينساه في كل أحواله، فإذا حل به البلاء تيقن أنه وقع تحت قبضة سنة من السنن الإلهية وهو الابتلاء، فيستعين بدعاء ربه بتفريج كربه وحل أزمته بعد أن يعمل جاهدا على الخروج من الأزمة والبحث عن حلول، مستضيئا بومض الأمل بالله تعالى الذي لم يفتقده في أي لحظة، متيقنا بأنه في كل أحواله يقع تحت اللطف والرحمة الإلهية، إذ أن البلاء في ظاهره ألم ولكنه في باطنه يحمل بشائر العطاء الإلهي، فالمؤمن تصقل نفسه في العسر فيتمخض عنها بصفات الحكمة وضبط النفس والصبر والتخطيط المستقبلي وهذه من صفات الإنسان الناجح، فيشكر الله تعالى حتى في أشد ساعات الألم كما نراه في سيرة الأنبياء والأئمة حيث يبصرون الأمور كلها بعين المعرفة والشكر للمنعم المتفضل، وينعكس هذا الشعور بالامتنان للواحد القهار بتحصيل راحة البال والرضا عما تدبره يد السماء من أحواله كلها، فلا تراه إلا حامدا شاكرا لأنه يرى الأمور بمنظار آخر يختلف عن أهل الدنيا، فما يمر به من هموم يراها مرحلة اختبار وعليه الاستعانة بالله تعالى لتجاوزها، ولذا لا يجتر آلام الماضي ولا تبقى قابعة في ذهنه بل يرحلها ويمحيها استعدادا للعمل لمستقبل مشرق وأفضل، كذلك ينطق لسانه بما تشعر به نفسه فإذا سئل عن حاله وهو متألم ينطلق بكلمات الشكر والثناء على محامد ربه، بخلاف أهل الدنيا الذين ما إن تمسهم ملمة ومحنة حتى هبوا ينطقون بالشكوى من ربهم وهم لا يلتفتون.
أمير المؤمنين يشير إلى أن المؤمن لا يمكنه يوما أن يوفي نعمة شكر الله تعالى والإحساس بها أبدا، وذلك أن شكر الله تعالى توفيق من الله تعالى بأن لم يجعله من الجاحدين أو اللاهين، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى شكر أسماه أمير المؤمنين بشكر الشكر وهكذا دواليك