الركوكو او (الشناشيل البغدادية) تراث معماري وجمالي بغدادي
بتأمل بسيط وعميق في آن واحد وقبل الشروع بالكتابة في موضوعة (الشناشيل البغدادية) لابد من النظر امتدادا الى شوارع العاصمة ـ بغداد ـ خاصة القديمة منها مثل شارع الكفاح وشارع الشيخ عمر والخلفاء والبتاويين والكاظمية والاعظمية والشواكة والكريمات وصولا الى شارع الرشيد بجماليته الرائعة المتمثلة بالشناشيل بل هي تمثل خلاصة الشناشيل البغدادية بتصاميمها المختلفة المطعمة بالزخرفة الاسلامية..
وهذه الشناشيل حقيقة لا تقترب من الاخريات الموجودة في الشوارع الاخرى لان تنوع الطراز المبني على اساسه يعود الى العشرينيات من هذا القرن حيث كان يسمى بـ ( الركوكو )والمبني بطريقة كلاسيكية رائعة الجمال والقياس حيث يظهر وبشكل جلي دقة الحرفي البغدادي آنذاك وحتى الاعمدة ( الآيونيك ) بتلوينات ساحرة واحيانا تجد في بناء الشناشيل كيانا جماليا تشم فيها روائح الشعر وسحر الهندسة
المعمارية .
ويبدو ان هناك خصوصية لكل عمل من الشناشيل يعتمد بالاساس على فهم الفنان البغدادي القديم من خلال فهمه لروح التراث والفولكلور لانه يدرك جيدا طبيعة عمله وصولا الى العمل بالزخارف الاسلامية حيث منحت فضاءاته اسلوبية غاية بالغناء التراثي الاسلامي.. اضافة الى ذلك تجد الطرز الزخرفية لواجهات الابنية المستقيمة والمسطحة بشكلها العام هي طرز هجينة (عراقية ـ اوربية) من الزخرفة المحلية الى ما يسمى بـ(الركوكو) او (الارت نوفو) او (الارت ديكور) خلال الفترة المشار اليها اعلاه ونهاية الثلاثينيات ومن المؤكد بأن هذه الزخارف .
جاءت الى بغداد عن طريق التأثيرات الاوربية في هذه الفترة عبر بعض المهندسين العرب والاجانب وكذلك من خلال المجلات المعمارية التي كانت تصل الينا آنذاك. وتعد العاصمة بغداد من أهم المدن في العالم التي تحتوي على أماكن تراثية وحضارية لا تعد ولا تحصى، هذه الأماكن تعد كنوزاً لا تقدّر بثمن، من حيث الأهمية التأريخية والأثرية. حيث تتوزع هذه الأماكن والبيوت التراثية على مساحات واسعة من مدينة بغداد القديمة وعلى جانبي الكرخ والرصافة، ويعود تأريخ إنشاء بعضها إلى بدايات العصر العباسي والبعض الأخر إلى العصرالعثماني وكذلك إلى العصر الحديث. ويعد هذا الموروث الحضاري ذو الطابع المتميز والفريد منذ إولى الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والبابلية مروراً بعصر صدر الإسلام والعصرين العباسي والعثماني، اللذين كانا بداية الإنتقال الى العصورالحديثة والتنوع العمراني الحالي، حيث مزايا الأبنية تنعكس على الواقع البغدادي. زخرفة الخشب (الشناشيل) هواية البغداديين القديمة وهنا نود ان نشير الى ما كان يردده المهندس جميل (وهواحد المختصين ببناء الشناشيل وفنه) ما كان يقوله جده الاسطة (عبد الهادي) وهو أول من علمه التعامل مع أصناف الخشب القادم إلى العراق من الهند- بأن الزخرفة على الخشب أو (الشناشيل) هي صنعة بغدادية الجذور ،
انتقلت إلى البصرة جنوبا في البدء ومنها عبرت البحر فوصلت دول المغرب العربي قبل أن تترك بصماتها على مباني إسبانيا حتى الآن. وداخل الزقاق الطويل بمنطقة المربعة وسط بغداد حيث تتدلى حتى الآن أبواب وشبابيك وشرفات منذ عقود طويلة تعكس مهارة ما يطلق عليهم (أسطوات) بغداد القدامى ومنهم الأسطى عبد الهادي الذي توفي قبل أكثر من ثلاثين عاما، يقف حفيده المهندس جميل ليعلم مهنة الأجداد للأحفاد. يقول الحفيد إن الأجهزة المستخدمة فـي صناعة الشناشيل هي ذاتها التي تستخدم في صناعة الخشب، وهي المنشار والمطرقة وأدوات الحفر التقليدية التي تشبه أزميل النحاتين إضافة إلى المسامير ومـواد التثبيت اللاصـقة الخاصة بالخشب (الغراء) كما يسميها أهل بغداد. وأهم ما يميز هذه الصناعة هو الذوق وعشق الصنعة واختيار دقة الأبعاد بشكل متناه، ومعرفة اتجاهات الريح الداخلة والخارجة إلى الدار (ليس هناك شبابيك مستقلة أو أبواب مستقلة، هناك فقط امتدادات متكاملة من الخشب تعتمد صناعتها على مهارة الأسطوات فيخرج منه الباب والشباك والشرفة تاركا فسيفسائه تبهر أنظارالمارة ) .
البيوت التراثية في بغداد في منطقة القشلة تقف ساعتها الشهيرة شامخة ويقف بالقرب منها احد البيوت الأثرية التي تعد عمارته الفخمة دليلاً على قدرة البناء العراقي الجمالية ،
ومازال هذا البيت التراثي يتحدى الزمن، وما نخشاه هو أن يطاله الإهمال في زمن الإعمار والحرية. أما في محلة الشواكة، فما زالت هناك بعض البيوت الأثرية صامدة ومعاندة من أجل البقاء، وإن تحولت بعض هذه البيوت الى مقرات لبعض الدوائر الحكومية، وأماكن إخرى ومحلات وأزقة مازالت تعاني من الإهمال وطفح المجاري والتآكل، وهذا ما لاحظناه في جولتنا في محلة العاقولية في العاصمة. وفي مدينة الكاظمية ، التي تعد بيوتها إرثاُ حضارياً ومعمارياً عظيماً، أخذتنا أرجلنا إلى جولة في أسواقها العامرة التي تظللها الشناشيل التي تشرئب نحو السماء، شموخاً وحضارة، لكن اهلكها الإهمال واللامبالاة، وهناك الكثير من البيوت التي تعود الى أزمنة مختلفة مازالت هي الأخرى دون عناية أو متابعة .
وكذلك الحال في شارع حيفا.. يوجد فيه بيوت تراثية مازالت عامرة، لكنها بحاجة الى إدامته وتجديده من دون المساس بجوهره المعماري. خصائص الشناشيل ومن خصائص البيوت البغدادية الاصيلة خارجيا هي تطليعة الطابق الاول، حيث تبرز ارضيته وجداره الخارجي على الازقة مؤلفة ما يسمى محليا بالشناشيل التي تحتوي على المشبكات الخشبية. الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية تعادل (المشربيات) في البيوت القاهرية وتعادل ايضا ( الرواشين ) في بيوت جدة التراثية. وبحسب مفهوم المحلة فإن البيوت التراثية تشكل كتلا بنائية متلاحمة، حيث انها تبنى متلاصقة جنبا الى جنب وظهرا على ظهر ولا تبدي إلا واجهة واحدة هي الأمامية المطلة على الأزقة. اما من ناحية تخطيطها فإنها تتصف بنمو تدريجي متجانس مع ازقة تفصل كتلا بنائية بعضها عن بعض، وهذه الطرقات نفسها لها مستوياتها من ناحية الطول والعرض وعدد البيوت التي تؤدي اليها والاصغر منها هي الدربونة الصماء او العمياء التي لا تعطي اي منفذ، بل تؤدي الى بيوت قليلة .
ان مفهوم تصميم هذه البيوت يؤدي الى حماية احدها للأخر من الشمس المحرقة صيفا ومن زخات المطر شتاء وبهذا فإن هندسة تلك البيوت تعرض اقل مساحة سطحية لأشعة الشمس. كما ان التخطيط والانشاءات المتلاحمة والكتل البنائية المتلاصقة هي نتيجة تبني فكرة استعمال الفناء الداخلي للبيت (الحوش) وكذلك تبني فكرة / مبدأ توجيه الغرف ونوافذها نحو الداخل بدلا من الخارج (ما عدا الغرف الخارجية للطابق الاول التي تحتوي على الشناشيل التي تعطي طرقات بغداد وازقتها ودرابينها الميزة المعمارية الخاصة بها ) .
اخيرا ختاما فإن مفهوم هذه البيوت العربية والإسلامية التراثية الأصيلة وتصاميمها، بجميع اشكالها وواجهاتها ، إنعكاس في العمارة والعمران للعوامل المناخية وللظروف البيئية السائدة. لقد آن الاوان لكي نقول إن حلول دول العالم الثالث تصلح لحل بعض مشاكل دول العالم الأول المتقدم، خاصة في تبني المبادئ الاصيلة لتصميم العمارة والعمران الملائمة للمناخ والبيئة. لكن يبقى ان الشناشيل البغدادية احتفظت بخصوصيتها البغدادية الاصلية ضمن مشروعها التراثي حيث صب فيه روافد الفن العراقي خاصة ما يتعلق منه بالتراث حيث نرى بوضوح التأثر بالعديد من المفاهيم الفنية المعاصرة. وهنا لابد من التأكيد على ادامة ما تبقى وهو كثير من هذه التحف التراثية مع المحافظة على الروح البغدادية لهذه الشناشيل المنتشرة في عموم العاصمة بغداد بل وحتى في محافظات اخرى مثل الموصل وميسان والبصرة ومناطق اخرى .
صورة لاحد الشناشيل القديمة في منطقة السرجخانة في الجانب الامين من المدينة
المصدر
http://www.iraqitorath.com/%D8%A7%D9...8%A7%D9%88.htm