وظائف التربية:
وهذه الدلالات والمعاني التي تشكل في مجملها مفهوم التربية كما تبدي في أقوال الإمام عليّ إنما تشكل (كلاً) يحتاج إلى تخصيص كما يحتاج إلى تفصيل وهو ما اصطلح علماء التربية وباحثيها على تسميته بوظائف التربية وهو ما سنحاول أن نقوم به فيما يلي:
1 – الوظيفة الإيمانية: فبحكم الموقع الذي احتله الإمام من المسيرة الإسلامية ومن رسول الإسلام وبحكم طبيعة التربية الإسلامية نفسها كان من الطبيعي أن تكون الوظيفة الأولى للتربية أن ترسخ إيمان المسلم وتعمقه وتقيمه على قاعدة من الفهم الصحيح والحب العميق والحماس الذي يشكل قوة دفع لا تلين أمام الخطوب وتستعذب النضال والجهاد من أجل الرسالة الإسلامية تاركة وراء الظهور المنافع الخاصة ونزعات الهوى الشخصي ومن هنا كانت واجبات الوالدين في القيام بالمهمة التربوية تنمية المشاعر الإيمانية في قلب الطفل ومن هنا أيضاً كان من أولى واجبات الآباء والأمهات أن يوقظوا في أبنائهم فطرة عبادة الله بواسطة العبادات التمرينية فيشجعوهم على اتباع الأوامر الإلهية والارتباط بالخالق العظيم(42).
والإيمان بالله الذي هو الركيزة الأولى لدين الله يحصل بسلوك على مرحلتين : الأولى عقلية وهي اثبات وجود الله, والثانية أسمى من الأولى وهي الإيمان بالله. في المرحلة الأولى يستفيد القرآن الكريم من قوة العقل ويدعو الناس إلى التفكير في خلق الله وفي النظام الدقيق الذي يسود الكون كي يصلوا من هذا الطريق إلى وجود الخالق الحكيم العالم مستخدمين
في ذلك الأدلة والبراهين العقلية والعلمية . أما الإيمان بالله فإنه لا يحصل بمجرد النظر في قانون العلية بمنظار العقل فحسب، بل يجب أن يسمو هذا الحساب العلمي إلى درجة أرقى وينفذ من العقل إلى الروح ويستقر في القلب عند ذلك تخرج هذه الحقيقة من صورة الاستدلال العقلي الجاف الجاف إلى حالة من الشوق والاندفاع إلى الحب الإلهي الذي ينفذ في جميع ذرات وجود الإنسان(43).
ولقد كانت تضحيات الإمام عليّ تسير جنباً إلى جنب مع شجاعته وشهامته وتبرهن على ثباته واستقامته حتى قال: ما ضعفت ولا جبنت، ان من ينشأ على الإيمان والاستقامة ويستند في جميع أموره إلى القدرة الإلهية اللامتناهية لا يخاف أبداً ولا يجبن في موقف مهما كان حرجا.
لقد شهدت أيام خلافة الإمام في الكوفة موجة من الاضطرابات والفتن وفي بعض الأحيان كان يصمم الخوارج في وضع خطة لاغتياله عليه السلام ومع ذلك فقد كان يخرج في أواخر الليل إلى نقطة هادئة من المدينة وينجي ربه وكان يخرج (قنبر) الخادم الوفي وراءه حاملاً سيفه مختفياً عن أنظار الإمام وفي احدى الليالي نظر عليّ عليه السلام إلى خلفه فرأى قنبر، فقال له: يا قنبر مالك ، قال: جئت لأمشي خلفك، فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك قال له الإمام: ان أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلاّ بإذن الله عزوجل، فارجع(44) فرجع.
2 – الوظيفة الثقافية: فالتحليل العلمي الدقيق لحقيقة المجتمع البشري يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ان قوام هذا المجتمع هو ما يحمله أفراده من مفردات وعناصر الثقافة والحضارة من معارف ومعلومات
وعادات وتقاليد ونظم وأنساق وعلوم وفنون ومن ثم تحرص الجماعة البشرية لأجل استمرارها وتواصل أجيالها على تواصل واستمرار ثقافتها ولا يتأتى هذا إلاّ بعملية نقل لها من الكبار إلى الصغار وهذا هو نفسه الذي تقوم به العملية التربوية مما يجعل منها أساساً لوجود المجتمع واستمراره.
والقارئ لكلمات الإمام عليّ يستطيع أن يلمس مدى الوعي بالدور الذي يجب أن يقوم به المربي من حيث نقل خبرات وتجارب وثقافة السابقين إلى الأجيال الجديدة لا لتستوعبها كما هي، وإنما لتنتقي وتختار منها ما يعينها على سلامة المسير وعمق الفهم وسعة الاحاطة يقول لابنه الحسن: أي بني، أني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر ذو نية سليمة ونفس صافية(45).
وللإمام نص هام يتعلق بطريقة وفلسفة النظر في التراث الحضاري للأمة(46)، نجده يركز على عاملين ثابتين في طبيعة الحركة البشرية وطبيعة الحياة على هذه الأرض(47):
أ – عامل التغير والتقلب في الحياة: فالحياة بما هي حركة وبما هي تفاعل وبما هي طاقات وقوى تتفاعل فتتكامل أو تتقاتل في داخل كل شيء ومن حول كل شيء في الكون المادي كله الحياة بما هي كل هذا
متقلبة متغيرة باستمرار هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر على حال ولا تثبت على وتيرة واحدة.
ب – عامل الزمن: فأثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لكل ذي بصيرة فالزمن يفتت الحياة باستمرار فما أن يبدأ وجود الحياة في شيء بل ما ان يبدأ وجود شيء حياً كان أو غير حي حتى يبدأ هذا الوجود بالذوبان والتفتت والضياع أن الحياة تولد في الزمن ولكن الزمن يغتالها باستمرار.
وهذان العاملان – التغير والزمن – لا يختصان بعالم الإنسان وحده، إنهما يعملان في كل شيء ويحولان دون ثبات كل شيء: الجماد والنبات والحيوان والإنسان، ويتميز الإنسان – بالنسبة إليهما – عن العوالم الأخرى بأنه – لما أوتي من عقل وادراك – يستطيع أن يعي الوجه المأساوي لعمل هذين العاملين وأثرهما في حياته وفي الوجود من حوله ووعي الإنسان لهذين العاملين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادراً على مواجهة الحياة ومباهجها المؤقتة(48).
3 – الوظيفة الأخلاقية: فإذا تداعت أخلاق أمة عاجلها الفناء لذلك اهتم الدين الإسلامي بتقويم الأخلاق اهتماماً بالغاً فوق حدود التصور والخيال وجاء بدستور متين لا يضاهيه أي دستور بشري بأي حال من الأحوال فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وإنما هذه(49) هي أداة حصر أي ان علة بعث الرسل وأرسال نبينا العظيم إنما هي تكميل مكارم الأخلاق وابلاغ الإنسان إلى آخر حد ممكن من الكمالات الأخلاقية لكي يخرج من هذه الدنيا زكياً نقياً طاهراً حرياً ليحشر (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).
وكما يسعى الإنسان في سبيل احياء مواهبه الفكرية، وأدراك الحقائق العلمية، ويحرز تقدما جديداً في كل يوم، كذلك عليه أن يسعى في سبيل تزكية نفسه وتطهيرها بالفضائل الخلقية قال الإمام العظيم: لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطالب بمكارم الأخلاق فإنها تدل على سبيل النجاح. ولهذا فإن شطراً مهما من سعادة المجتمع مرتبط بالفضائل الأخلاقية كما ان شطراً مهما من شقاء المجتمع وفساده له ارتباط وثيق بالانحطاط الأخلاقي يقول الإمام : رب عزيز أذله خلقه وذليل أعزه خلقه(50).
ومن هنا كان اهتمام أتباع الإمام عليّ بالتربية الأخلاقية اهتماماً كبيراً حتى أوصوا المتعلمين بأن يكون المعلم الذي يقوم بمهمة العملية التعليمية متصفاً بالكمالات الأخلاقية يقول العيناثي: (ومن أسعد السعادات ان يتفق لك يا أخي معلم رشيد عارف بحقائق الأمور مؤمن بيوم الحساب، عالم بأحكام الدين، بصير بأمور الآخرة، خبير بأحوال المعادـ مرشد لك إليهما، ومن أنحس المناحس أن يكون ضد ذلك، واعلم ان المعلم والاستاذ أب لنفسك وسبب لنشوئها وعلة لحياتها كما أن والدك أعطاك صورة جسدانية فمعلمك أعطاك صورة روحانية وذلك ان المعلم يغذي نفسك بالعلوم ويزينها بالمعارف ويهديها طريق الآخرة التي هي دار البقاء والدوام والخلود في النعيم واللذة والسرور الأبدي والراحة السرمدية.
واعلم يا أخي ان من سعادتك أيضاً أن يتفق لك معلم ذكي، جيد الطبع حسن الخلق صافي الذهن محب للعلم مبغض للرئاسة، قنوع متوكل غير شره، ولا مداهن ولا متعصب، وقد أخذ علمه من العلماء الأخيار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام(51).
4 – الوظيفة العقلية: فقد بعث الله محمداً صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في وقت كان الدين فيه مجموعة تقاليد لا يدعمها برهان ولا يسندها دليل وقد انعزل العقل عن التفكير والتعمق والتدبر والسؤال والاعتراض، في وقت كان شعار الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها: اطفيء مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى(52).
جاء الإسلام وهو ينادي بصوت رفيع: الدين هو العقل ولا دين لمن لا عقل له. وقد نهى عن التقليد الأعمى وعن قبول شيء دونما برهان ودليل فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (53) وقال أيضاً: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) (54).
والهدف الذي يرمي إليه الإسلام من ذلك، تكوين العقل الاستدلالي أو البرهاني عند الإنسان فلابدّ في رأي الإسلام لانشاء الفكر الحر أن ينشيء في الإنسان العقل الاستدلالي الذي لا يقبل فكرة دون بحث ولا يؤمن بعقيدة ما لم تحصل على برهان ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرية الفكرية وعاصماً للإنسان من التفريط فيها بدافع من التقليد أو التعصب أو الركون إلى الخرافة. وفي الواقع ان هذا جزء من معركة الإسلام لتحرير المحتوى الداخلي للإنسان فهو كما حرر الإرادة الإنسانية من عبودية الشهوات كذلك حرر الوعي الإنساني من عبودية التقليد وبهذا وذاك أصبح الإنسان حراً في تفكيره وحراً في إرادته(55).
ان العقل ينمو على أثر التوجيهات الصحيحة، ويظهر كماله بصورة تدريجية، ولهذا فالإسلام يعتبر التفكير واستخدام العقل والتدبر في عوالم الطبيعة أعظم العبادات وقد ورد بهذا المعنى روايات وأقوال، من ذلك قول الإمام عليّ يوصي ولده الحسن: يا بني، لا فقر أشد من الجهل ولا عدم أشد من عدم العقل... ولا عبادة كالتفكر في صنعة الله عزوجل يا بني العقل خليل المرء انه لابدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه... . وقال أيضاً: لا غني كالعقل ولا فقر كالجهل ولا ميراث كالأدب. وقوله: لا علم كالتفكر ولا شرف كالعلم(56).
وإذا كان التفكير يلعب الدور الأكبرفي الحياة الاجتماعية وإذا كان نوعه يتحدد بنوع هذه الحياة وبالاطار الفلسفي الذي يوجهها في هذه الناحية، فإنه يوفر للتربية مناخاً صحيحاً ملائماً للنمو السليم(57) ومن هنا نجد الإمام عليّ يقول: العقل ولادة، والعلم افادة، ومجالسة العلماء زيادة، ويقول الصادق: من صحب جاهلاً نقص عقله، وجاء عن الإمام الصادق قوله: كثرة النظر في العلم يفتح العقل(58).
مجالات التربية:
ولعلنا نستطيع من خلال التعرف على مفهوم ومعنى التربية وكذلك من خلال استقراء وظائف التربية كما تبدت لنا من قراءة أقوال الإمام عليّ عليه السلام أن نقف على الآفاق والمجالات التي يجب أن يقتحمها المربي والباحث في التربية والعامل بها، وعلى سبيل المثال ، إذا كانت الوظيفة الإيمانية لها ما لها من الأهمية والاعتبار في التربية السلامية عند الإمام عليّ يصبح من الطبيعي أن يكون القرآن وتكون السنّة النبوية من المجالات الأساسية الاولى لكل عامل في حقل التربية الإسلامية وما يرتبط بهما من دراسات وبحوث. ونفس الشيء يمكن الإشارة إليه بالنسبة للوظيفة الثقافية من حيث ما تقتضيه من دراسات تاريخية وحضارية واجتماعية وأنثروبولوجية وجغرافية وفنية وأدبية، وكذلك الأمر بالنسبة للوظيفة الأخلاقية من حيث ما تقتضيه من دراسات اجتماعية وفلسفية ودينية وتدريب عملي وسلوك فعلي ودراسة للعبادات الدينية . أما الوظيفة العقلية فهي إذ يمكن أن تتخلل – كمنهج – مختلف المجالات والآفاق السابقة إلاّ انها يمكن أيضاً أن تتحقق من خلال دراسة الفلسفة وعلوم النفس والمنطق ومناهج البحث والرياضيات.
الارتباط وثيق إذاً بين (الوظائف) و (المجالات) ومع ذلك فاننا نستطيع أن نضع أيدينا على عدد آخر من الآفاق والمجالات يكمل ويفصل ويحدد ما قد أوضحناه.
1 – الدراسات الفلسفية: فمن خلال اهتمام الإمام عليّ ببعض موضوعاتها ومباحثها نستطيع الأستدلال على ضرورة العناية بها ويذكر أبو زهرة ان الكلام في القدر قد كثر في عهد الإمام وكان هو الذي يرد الشبهات ويكشف الغمة عن ادراك كل ما يلتبس عليه الأمر ويتحير(59). ولم يكن أبو زهرة هو الوحيد الذي أشار إلى ذلك فقد شاركه الرأي محمود حب الله إذ أكد ان المشكلة لم تأخذ شكلاً واضحاً إلاّ في زمن (عليّ) الخليفة الرابع وكان الجواب عنها – أي مشكلة حرية إرادة الإنسان – وخاصة عند مريديه ومن قبلهم عنده هو نفسه تأكيداً لاختيار الإنسان(60). أما السيد أمير عليّ فقد ذكر كذلك وأول من تكلم في حرية الإنسان في أفعاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عليّ بن أبي طالب ... يهدينا إلى الرأي الإسلامي الصحيح في موضوع الحرية الإنسانية... (61). ولفت عمارة النظر إلى ان القائلين بالعدل والتوحيد سواء منهم المعتزلة أو الذين وقفوا في الإمامة والسياسة مع فرق الشيعة يذكرون الكثير من الأقوال والمواقف التي تثبت اشتراكه – أي الإمام عليّ – في هذا الصراع الفكري حول الجبر والاختيار ووقوفه إلى جانب القول بحرية الإنسان(62).
ومن المسائل الفلسفية كذلك التي تكشف عن الاهتمامات الفكرية للإمام عليّ مسألة الصفات المتعلقة بذات الله ووحدانيته فقد كان ينكر كل معنى من معاني التشبيه في عبارات قوية(63).
2 – الدراسات اللغوية: ويأتي في مقدمتها علم النحو الذي ترجح روايات عديدة أن يكون أبو الأسود الدؤلي هو مؤسسه ومنشئه. وبالاضافة إلى هذا فإن هناك روايات أخرى تشير إلى ان أبا الأسود نفسه قد تلقى الارهاصات والبذور الأولى من الإمام عليّ فهذا ابن الأنباري يكتب: اعلم أن أول من وضع علم العربية وأسس قواعده وحدد حدوده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأخذ عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي. وعلى نفس النهج سار القفطي الذي أشار إلى ان الجمهور من أهل الرواية على ان أول من وضع النحو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه. وروى عن الدؤلي قوله انه دخل على الإمام فرآه مطرقاً مفكراً فلما سأله عما يفكر فيه أجاب عليه السلام انه سمع لحنا فأراد أن يضع كتاباً في أصول العربية فكان رد الدؤلي انه لو فعل هذا أبقى في المسلمين هذه اللغة العربية ثم أتاه بعد أيام فألقى إلى الدؤلي صحيفة فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم وفعل وحر...) (64).
3 – الدراسات القرآنية: وفي مقدمتها علم التفسير، حيث تذكر روايات اهتمام الإمام به ضمن عدد آخر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، حتى ليعدهم البعض مؤسسي مدرسة التفسير في الإسلام(65). وقد روى عن الإمام عليّ قوله للمسلمين: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدثتكم به، سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلاّ أنا أعلم أبليل نزلت أو بنهار أم في سهل نزلت أم في جبل... (66).
4 – الدراسات التاريخية: ولقد سبق لنا ان بينا اهتمام الإمام الواضح بدراسة التاريخ دراسة تقوم على الاستيعاب والوعي. ومن المؤكد ان الإنسان العربي الجاهلي – قبل الإسلام – كان يعوزه الوعي التاريخي بالمعنى الذي عرفته الشعوب المتحضرة ذات الثقافة المدونة وذات المؤسسات السياسية والادارية الراسخة العريقة، هذا فضلاً عن أن يكون الوعي التاريخي بالمعنى الذي عرفه إنسان العصور الحديثة قد وجد لدى الإنسان العربي الجاهلي قبل الإسلام(67). ولكن الحال تغير بعد ظهور الإسلام ان القرآن الكريم والسنّة الشريفة النبوية قد كشفا للعربي تدريجاً عن عمقه في الزمان باعتباره مسلماً، وغدا القرآن والسنّة يغذيان على مهل وعي المسلم بعمقه التاريخي من خلال القصص الذي يؤرخ للأمم الماضية وأنبيائها ومواقفها منهم باعتبارهم أنبياء وحالات ازدهارها وانحطاطها وفنائها.
وللتاريخ وظيفة تتعدى شعورنا بالاستمرار والديمومة وهذه الوظيفة تربوية أخلاقية لا يعني هذا ان التاريخ يتحول إلى مادة وعظية فقط فإن البحث والنقد غرضان من أغراض التاريخ بلا شك , ولكن الوظيفة النهائية بعدهما هي كما نؤكد كثيراً تربوية أخلاقية(68). وهذه الوظيفة تستمد معالمها وطبيعتها من طبيعة النهج الذي تسلكه الأمة في بناء نفسها للقيام به في محيطها الاقليمي أو على المستوى العالمي ولذا نرى ان كل أمة ذات نهج فكري مميز لشخصيتها تجعل التاريخ مادة بانية لهذا النهج الذي ارتضته.
من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس كان الإمام عليّ عليه السلام يتعامل في توجيهه الفكري وفي وعظه، وفي تعليمه وتوجيهه السياسي مع التاريخ وكان يوجه المسلمين إلى أن يعوا التاريخ على هذا الأساس وأن يتعاملوا مع التاريخ من هذا المنطلق الذي يخدم الأخلاقية والرسالية.
5 – الرياضيات والعلوم: فقد روي عن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) قوله: (علّمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف با). ان هذا النوع من التعليم لا يتوصل إليه إلاّ من زاول التزكية، تزكية النفس وتطهيرها، ولا يعلم كيفية انفتاح ألف باب من العلم من كل باب إلاّ من أيقن أن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء، وذلك بتطهير نفسه من الدنس والرجس وما أصعب ذلك ولا يقوى عليه إلاّ الأقلون(69).
وقد قال الله عزوجل: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور). وقد أورد بعض الباحثين عدداً من الأمثلة التي رووا فيها كيف ان الإمام قد استطاع أن يحل ما عرض عليه من مسائل رياضية بطريقة فريدة قد لا تتماثل مع الطرق القائمة لدى علماء الرياضيات المتخصصين، لكنها على أية حال تصل إلى الحل من باب آخر هو صحيح. ولا يتسع المقام لذكر العديد من هذه الأمثلة ، فليرجع إليها من يريد الاستزادة، وسوف نكتفي بمثال واحد(70).
رجلان أ ، ب كان لأحدهما أ خمسة أقراص من الخبز وللآخر ب 3 أقراص ، فجاءهم رجل ثالث وأخذ يأكل معهم ، فلم يبق شيء، ودفع إليهم بعد الانتهاء 8 دراهم، فقال أ لـ ب خذ أنت 3 دراهم وأعطني 5، فأجابه ب : لا، أبيت إلاّ العدل ومر الحق، خذ 4 وأعطني 4 دراهم، فأجابه أ قائلاً: كان لي 5 أقراص وكان لك 3، فكيف تأخذ نصف المبلغ فأجابه ب: لنتحاكم عند عليّ عليه السلام.
فجاءا علياً عليه السلام وعرضا عليه القضية فخاطب الإمام الرجل ب وهو الذي كان معه ثلاثة أقراص قائلاً: أقنع بما منحك صاحبك (أ) واقبل منه 3 دراهم، فقال ب: لا والله، لا رضيت منه إلاّ بمر الحق، فقال عليّ: وليس لك في مر الحق إلاّ درهم واحد وله سبعة. فقال ب: سبحان الله يا أمير المؤمنين، هو ـ أي أ ـ يعرض عليَّ 3 دراهم فلم أرض، وأشرت عليًَّ بأخذها فلم أرض وتقول لي الآن: لا يجب لي في مر الحق إلاّ درهم واحد.
ان علياً عليه السلام لم يفكر كما يفكر الرياضيون في حل المسألة وإنما ارتجل ارتجالاً بنهج غير مألوف يمكن التحقق من نتيجته بالنهج الرياضي المعتاد(71).
وروى البعض عن الإمام قوله: (في التجارب علم مستأنف) فهو بهذا القول يوجه الأنظار إلى قيمة الطريقة التجريبية في البحث والنظر كما روى عنه انه سئل عن وزن فيل فطبق عليه المعنى المستفاد من قانون الطفو في الفيزياء وسئل عن ثقل قيد في رجل أحدهم فعين ثقله دون اخراج القيد من رجل الرجل ... إلى غير ذلك من أمثلة لا يستطيع الباحث أن يؤكدها مكتفياً بنسبتها إلى راويها(72).
6 – الدراسات الأدبية: فعند العقاد انه رضي الله عنه كان ينظم الشعر ويحسن النظر فيه، وكان نقده للشعراء نقد عليم بصير يعرف اختلاف مذاهب القول واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل على حسب المذاهب ومن بصره بوجوه المقابلة بينهم انه سئل: من أشعر الشعراء قال: ان القوم لم يجروا في حلقة تعرف الغاية عند قصبتها، فإذا كان ولابدّ فالملك الضليل. وهذا فيما يؤكد العقاد أول تقسيم لمقاييس الشعر على حسب المدارس والأغراض الشعرية بين العرب، فلا تكون المقابلة إلاّ بين أشباه وأمثال ولا يكون التعميم بالتفضيل إلاّ على التغليب.
والكلم الجوامع أو فرائد الحكمة فهي تسجل للإمام في ثقافة الأمم عامة كما تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية على مر العصور، فالكلم الجوامع التي رويت له طراز لا يفوقه طراز في حكمة السلوك على أسلوب الأمثال السائرة وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، فهذا الحديث الشريف أصدق ما يكون على الإمام عليّ في حكمته التي تقارن بحكم أولئك الأنبياء فهي من طراز الحكم المأثورة عن أشهر أولئك الأنبياء بالمثل السائر وهو سليمان بن داود. يزيد عليها انها أبدع في التعبير وأوفر نصيباً من ذوق الجمال كقوله مثلاً: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة، أو قوله\: نفس المرء خطاه إلى أجله، أو قوله: المرء مخبور تحت لسانه، او قوله: الحلم عشيرة(73).
7 – الدراسات التربوية والنفسية: فمعظم ان لم يكن كل ما أثر عن الإمام في مختلف المواقف إنما له دلالاته التربوية والنفسية مما يشكل في جملته قدوة رائعة تؤكد لنا جميعاً أهمية وضرورة الدراسة التربوية والنفسية ويطول بنا المقام لو حاولنا أن نوفي هذا الجانب حقه من البحث والدراسة ويكفينا هنا أن نشير إلى موقفه المتوازن بين الدنيا والآخرة فهو لا يريد ما ان نقطع أنفسنا عن دنيانا وان نحرمها لذات هذه الدنيا وان نغل غرائزنا وشهواتنا عن الانطلاق، ان التحرر عن طريق الحرمان شيء عظيم ونبيل، ولكن أكثر الناس لا يستطيعونه، ولا يقوون على احتماله، فها هو عليه السلام يقرر في احدى كلماته المضيئة الهادية عقم كل محاولة ترمى إلى اقتطاع الإنسان من واقعه واقع جسمه وغرائزه ورغباته كأنسان، وواقع حياته ذات المطالب والحاجات، وواقع كينونته الإجتماعية(74).
يقرر عليه السلام عقم كل محاولة ترمى إلى اقتطاعه من هذا الواقع بالتنكر لغرائزه ورغباته وحاجات حياته ولكن لماذا؟ لأن أسر هذه الغرائز والرغبات مودع في طبيعة الإنسان، ولا يسعه التفلت من أسرها إلاّ بالاستحالة إلى ذات أخرى. قال عليه السلام: الناس أبناء الدنيا ولا يلام الرجل على حب أمه. كنى بذلك عن أن دوافع الإنسان إلى اجابة حاجات نفسه وشهواتها مودعة فيه، وإذا كانت مودعة فيه فهي جزء من كيانه وهي تسهم في حبك جزء من نسيج وجوده الإنساني ولذلك فهو يحبها ويقبل عليها ويأخذ بحظ منها ولكن لا لوم عليه في ذلك فهو حينما يقبل عليها إنما يلبي باقباله هاتفاً ملحاً لا قبل له بكتم صوته(75).
وكما قلنا في مستهل الحديث في هذا الجزء ان تلك أمثلة ونماذج لآفاق نستدل من خلالها على أهمية اقتحام مثل تلك المجالات دراسة وبحثاً، تعليماً وتعلما.
3 – الآثار التربوية للإمام عليّ في الحضارة الإسلامية
نحن نعترف بداية ان العنوان الذي يحمله هذا الجزء من الدراسة هو (أكبر) من مضمونه (مضمون الدراسة)، ذلك أن استقصاءه مهمة عسيرة شاقة تحتاج إلى نفر من الباحثين يستغرقون زمناً طويلاً، ويستغرق ما يصلون إليه من نتائج ربما أضعاف صفحات هذه الدراسة في مجملها لكننا كما نشير في أكثر من موضع، لا نستهدف دائماً (استيفاء) ما نطرق من موضوعات استيفاء كاملاً وإنما نحن (نثير) من القضايا أكثر مما نسوق الراي الفاصل والنتيجة القاطعة، وحسبنا من مهمتنا هذا الهدف، آملين أن يخطو باحثون آخرون خطوات تفصل وتشرح وتتعمق مثل هذه القضايا المثارة من خلال دراستنا.
أولاً: التشيع، والشيعة في أصل معناها اللغوي اتباع الرجل وأنصاره، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وهل بيته حتى صار اسماً خاصاً لهم، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف انه شيعة (عليّ) عليه السلام . وفي القرآن الكريم في سورة الصافات آية 83: (وان من شيعته لإبراهيم)، وقال تعالى فيما اقتصه من خبر موسى بن عمران عليه السلام في سورة القصص آية 15: (هذا من شيعته وهذا من عدوه). ويقول الشيخ محمّد أبو الحسن بن موسى النوبختي في كتاب الفرق والمقالات (أصول الفرق أربع ومنها الشيعة، فالشيعة هم فرقة عليّ بن أبي طالب المسمون بشيعة عليّ عليه السلام في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم المقداد بن الأسود الكندي وسلمان الفارسي وأبو ذر جنادة وعمار بن ياسر ومن وافق مودته مودة عليّ عليه السلام وهم أول من سمي بأسم التشيع في هذه الأمة لأن اسم التشيع قديماً كان لشيعة إبراهيم، وذكر محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني في ملله ونحله: (والشيعة هم الذين شايعوا علياً عليه السلام وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصاية أما جلياً وأما خفياً واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وان خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده) (76).
والشيعة كما هو معروف يعتقدون أن ما يقوم عليه السلام أصول ثلاثة: توحيد الله ، نبوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم’، المعاد في يوم الجزاء، وأن الإسلام هو الإقرار بالشهادتين وهي كلمة لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن من قالها كان مسلماً فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم وإن قوام مذهبهم بإضافة أصلين إلى الأصول الثلاثة وهما: عدل الله، إمامة الأئمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم (77).
وغني عن البيان ما احتله الشيعة من مساحة معتبرة في التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية فمن عدد كبير من العلماء إلى عدد آخر من الفلاسفة والفقهاء والمربين، صالوا وجالوا في آفاق البحث في مختلف العلوم والفنون، وتركوا من الآثار الفكرية والعلمية ما لا يستطيع أحد أن يذكره حتى من قبل من ناصبوهم العداء. وهم بحكم (المذهبية) كان لابدّ أن يتوسلوا بالتربية والتعليم لنشر مذهبهم والدعوة له حيث ان أمراً مثل هذا لا يتأتى بالعنف والقوة ، وإنما هو بالاقناع والتمثل ، مما مكنهم من أن يتركوا بصمات واضحة على حركة التربية الإسلامية.
ثانيا: المدارس العلمية: فقد مر بنا كيف أرسى الإمام عليّ عدداً هاماً من البذور التي أنبتت فيما بعد مدارس علمية في فروع شتى من المعرفة، وإذا كانت عنايتنا في الجزء السابق قد اتجهت إلى الكشف عن بعض جهود وأقوال الإمام العظيم، يصبح من المهم في الجزء الحالي أن نشير إلى أمثلة من الرواد الأوائل الذين تتلمذوا على يديه وقبسوا من نور علمه. وليس من الضروري أن يكون تتلمذ هؤلاء قد جاء مباشراً في كل الأحوال ، إذ ان المبادئ التي وضعها الإمام عليّ والطاقة التي فجرها والنهج الذي دل عليه ، قد حفز كثيرين إلى أن يشقوا طريقهم على طريق المعرفة والعلم والتربية.
وأبرز من يحسن التنويه به في هذا المقام هو الإمام جعفر الصادق فقد انصرف إلى العلم انصرافاً كلياً فلم يشغل نفسه بدعوة للخلافة ولا قيادة لاتباعه ليقضوا على سلطان الأمويين، ولا سلطان العباسيين كما فعل أولاد عمومته محمّد بن عبد الله وإبراهيم بن عبد الله بل انصرف للعلم بكليته ولم يذكر اسمه في الأحداث التي وقعت في عصره إلاّ إذا كانت ألماً أو أسفاً أو حزناً على الذين يقتلون من أئمة الهدى من ذوي قرباه(78).
وسواء كان انصرافه عن الامرة وشدائدها تقية كما يقول الإمامية أم كان رغبة في العلم كسائر الأئمة كما يقول الجمهور قد عكف على العلم عكوفه على العبادة، وتلازم علمه مع عبادته، حتى ما كان يرى إلاّ عابداً أو دارساً أو قارئاً للقرآن، أو راوياً للحديث، أو ناطقاً بالحكمة التي أشرف بها قلبه واستنارت بها نفسه.
وقد كان مخلصاً في طلب العلم لا يطلبه ليستطيل به على الناس ولا ليماري ويجادل بل ليبين الحقائق سائغة وقد كان يحث تلاميذه واللائذين به والطائفين حول رحابه على الاخلاص في طلب العلم فكان يقول: لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري به. ولا تدعه لثلاث: رغبة في الجهل، وزهادة في العلم، واستحياء من الناس(79).
ولقد خاض في عدة علوم وبلغ في أكثرها الذروة فهو نجم بين علماء الحديث وساد علماء عصره في الفقه حتى انه كان يعلم اختلاف الفقهاء، وكان العلماء يتلقون عنه التخريجات الفقهية وتفسير الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام الفقهية، وكان يحث أصحابه ومريدية على طلب الفقه لأنه علم الدين(80). ولقد اشتهرت مناظرات الإمام الصادق حتى صار مصدراً للعرفان بين العلماء وكان مرجعاً للعلماء في كل ما تعضل عليهم الاجابة عنه من أسئلة الزنادقة وتوجيهاتهم، وقد كانوا يثيرون الشك في كل شيء، ويستمسكون بأوهى العبادات ليثيروا غباراً حول الحقائق الإسلامية والوحدانية التي هي خاصة الإسلام(81).
وقد كان رضي الله عنه مهتما بدراسة الكون وما اشتمل عليه ويذكر الباحثون ان جابر بن حيان نشر خمسمائة رسالة ذكر فيها انه تلقاها عن استاذه الصادق وقد أكد هذا المؤرخ المعروف ابن خلكان(82).
ثالثاً: الآراء التربوية: فهناك عدد من العلماء والمفكرين الذين ساروا على درب الإمام فاجتهدوا في مجال الرأي التربوي أثمر اجتهادهم عن آراء لها قيمتها بالنسبة للعمل التربوي فمن ذلك الكتيب المنسوب إلى نصير الدين الطوسي بعنوان (آداب المتعلمين).
ومما ورد فيه تأكيد (وجوب) العلم على المسلم، فالعلم الذي يفترض على المكلف بعينه يجب تحصيله نجبره عليه ان لم يحصل، والذي يكون الاحتياج به في الأحيان فرض على سبيل الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وان لم يكن في البلد من يقوم به اشتركوا جميعاً بتحصيله بالوجوب فينبغي لطالب العلم أن لا يغفل عن نفسه وما ينفعها وما يضرها في أولها وآخرها، فيستجلب مما ينفعها ويجتنب ما يضرها لئلا يكون عقله وعمله حجة عليه فتزداد عقوبته(83).
وأوجب الطوسي على طالب العلم أن يختار من كل علم أحسنه وما يحتاج إليه في أمور دينه في الحال، ثم ما يحتاج إليه في المآل، ويقدم علم التوحيد، ويعرف الله تعالى بالدليل، ويختار العتيق دون المحدثات، ويختار المتون لا الحواشي. وأما اختيار الاستاذ فينبغي أن يختار الأعلم والأروع والأسن. وينبغي أن يشاور في طلب أي علم يراد في المشي إلى تحصيله، وإذا دخل المتعلم إلى بلد يطلب لعلم فيها ألاّ يتعجل في الاختلاط بالعلماء قبل أن يستوثق من حسن الاختيار(84).
ونصح الطوسي طالب العلم بالجد والمواظبة والملازمة قيل: من طلب شيئاً وجدّ وجد، ومن قرع باباً ولجّ ولج، وقيل: بقدر ما سعى ينال، وقيل: يحتاج في التعليم إلى جد الثلاثة: المتعلم، والاستاذ، والابن إن كان في الحياة، ولابد لطالب العلم من المواظبة على الدرس، والتكرار في أول الليل وآخره، فإن بين العشائين ووقت السحر وقت مبارك(85).
ولابدّ لطالب العلم من المطارحة والمناظرة، فينبغي أن يكون بالانصاف والتأني والتأمل، فيحترز عن الشغب والغضب، فإن المناظرة والمذاكرة مشاورة ، والمشاورة إنما تكون لاستخراج الصواب، وذلك إنما يحصل بالتأمل والانصاف ولا يحصل ذلك بالغضب والشغب والمشقة، وفائدة المطارحة والمناظرة أقوى من فائدة مجرد التكرار لأن فيه تكراراً مع زيادة قيل: مطارحة ساعة خير من تكرار شهر، لكن إذا كان مع منصف سليم الطبع، وحذر الطوسي من المذاكرة مع متعنت غير مستقيم الطبع (فإن الطبيعة مسترقة والأخلاق متعدية، والمجاورة مؤثرة) (86).
وينبغي أن يكون صاحب العلم مشفقاً ناصحاً وغير حاسد، فالحسد يضر ولا ينفع، بل يسعى بنية التحصيل وينبغي على المعلم أن يحفز تلاميذه على أن يتفوقوا على غيرهم من طلبة العلم وينبغي لطالب العلم ان لا ينازع أحداً ولا يخاصمه لأنه يضيع أوقاته، فالمحسن سيجزي بإحسانه والمسيء ستكفيه مساءته(87).
وأوجب مفكرنا على طالب العلم أن يكون مستفيد في كل وقت حتى يحصل له الفضل وينبغي لطالب العلم أن يغتنم الشيوخ ويستفيد منهم ولا يتحسر لكل ما فات، بل يغتنم ما حصل له في الحال والاستقبال(88).
رابعاً: مراكز التعليم، وأول هذه المراكز الكتاتيب، لكننا لا نستطيع أن نجزم بكتاتيب اختص بها الشيعة دون غيرهم من سائر المسلمين، ولعل السبب الرئيسي لذلك ان المادة الأساسية للتعليم على هذا المستوى كانت تدور حول القرآن الكريم وهو القاعدة المشتركة بين مختلف الملل والنحل والمذاهب الإسلامية، كذلك فإن التعليم بهذه المرحلة كان يتركز أيضاً حول اللغة العربية قراءة ونحوا، وهذا الجانب أيضاً لا خلاف عليه بين المذاهب الدينية لكن ذلك لا يمنع وجود تعليم على هذا المستوى بصورة فردية خاصة في بعض بيوت الشيعة، فالإمام الصادق أوكل تعليم أولاده لمؤدب، وكان أبو داود سهل بن محمّد الشاعر مؤدب سيف الدولة ابن حمدان، وكان محمّد بن الحسين الذي عرف فيما بعد بالشريف الرضي قد أحضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل جداً لم يبلغ عمره عشر سنين فلقنه النحو وقعد يوماً معه في الحلقة فذاكره بشيء من الاعراب على (عادة التعليم..) (89).
ودأب الأئمة وعلماء الشيعة على تعليم أتباعهم في المساجد، ومن شيوخ الشيعة الذين تولوا التعليم في المسجد أبان بن تغلب الجريري قال الباقرعليه السلام لأبان: (اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك) وكان عبد الله العبدي قارئاً يقرئ في مسجد الكوفة، له كتاب يرويه عدة من أصحابنا. روى الصدوق ان عليّ بن العباس قال: حدثنا ابن الربيع الصحاف عن محمّد بن سنان وحدثنا عليّ بن أحمد بن عبد الله البرقي وعلي بن عيسى المجاور في مسجد الكوفة.. وذات مرة قال الفضل بن شاذان: كنت في قطيعة الربيع في مسجد الربيع أقرأ على مقرئ(90).
ويعتبر مسجد الكوفة في مقدمة المراكز التعليمية التي تمثل طاقة اشعاع لنهج الإمام عليّ حتى أصبح مجمع أهل العلم من الشيعة باعتباره من أهم المواقع، فالكوفة حاضرة خلافة الإمام ومهد شيعته وشيعة أبنائه من بعده، فلا غرو اذن أن تكون موطناً لعلماء الشيعة، وان يكون المسجد هو المكان الذي يقومون فيه بتعليم وتدريس علوم آل البيت، ولهذا يقول الحسن بن عليّ الوشاء: إني أدركت في هذا المسجد – يعني مسجد الكوفة – تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمّد عليه السلام. ولهذا شهد هذا المسجد الكثير من مظاهر النهضة العلمية والأدبية ونشطت فيه المجالس العلمية وحلقات الدرس، وكان الكميت الشاعر من أبرز معلمي العراق، فكان يجلس في مسجد الكوفة لتعليم الصبيان(91).
وقد اتخذ أئمة الشيعة وشيوخهم منازلهم مكاناً للدرس والتعليم فكان منزل الإمام عليّ بن الحسين يزدحم فيه طلاب العلم والوافدون عليه من كل مكان حيث يلتف حوله طلاب العلم والمعرفة. وكذلك كانت دار الإمام محمّد الباقر، فكان مقصد العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي، وما زار أحد المدينة إلاّ عرج على بيت محمّد الباقر يأخذ عنه(92). وكانت دار السيد المرتضى دار علم ومناظرة (فكان منزله داراً للضيافة ومدرسة للتعلم والمدارسة، ينقطع فيه التلاميذ والطلاب والمريدون، ويستروح في رحاله الوافدون من شتى الجهات... بل انه جعل للكثير من تلامذته مرتبات منظمة وحبوساً موقوفة عليهم...) وما كتابه الأمالي إلاّ مجالس أملاها على طلابه في داره. ولما فصل الفصيحي من النظامية فإن أفواجاً من المتعلمين راحوا يقصدونه في داره ليواصلوا القراءة عليه(93).
وظهرت طائفة أخرى من المراكز العلمية سميت بدور العلم وكانت معاهد علمية ذات صلة بالتعليم مستقلة عن المسجد أسسها أفراد من الشيعة كما أسس أفراد من السنة عدداً منها كذلك وقد أصبحت المؤسسات المذكورة تسهم بعملية التعليم بجانب الأمكنة التقليدية أمثال المساجد ومنازل العلماء. وكانت المؤسسات الجديدة هذه أنسب للتعليم بالنسبة للشيعة من المساجد، فدور العلم أنسب لوجود الكتب ووسائل المطالعة الأخرى وربما السكنى والعيش فيها من المسجد ولأن الشيعة لم يكونوا في الغالب أحراراً في تعليم قواعد مذهبهم في المساجد العامة من جهة أخرى، وحتى بعد توفر الحرية النسبية لهم في العهد البويهي أصبحت المساجد غير مناسبة في القرن الرابع الهجري لأن التعليم أصبح معقداً وقد يكون مصحوباً بجدل ومناقشات تكون سبباً في تكدير راحة المصلين في المسجد الذي لم ينشأ في الأصل لغرض تعليمي(94).
خامساً: انتشار العلماء: والعلماء إذا كان من الممكن أن نستخدم بعض التشبيهات البيانية (مصابيح) تشع نور العلم أينما حلّت، وتكاثرهم في مكان، شاهد هام يمكن من خلاله ان نستدل على مدى حرية الحركة العلمية في الموقع الذي شهد هذا التكاثر، والبذور الاولى التي ألقاها الإمام كان لابدّ أن يتواصل نماؤها عبر القرون والأعوام تعطى تقوى وتبث علماً وهدى وتربي تلاميذ ينمون هم بدورهم ليصيروا فيما بعد معلمين وأساتذة يربون تلاميذ آخرين.. وهكذا. ولقد كانت النجف الأشرف غنية بالعلماء والمفكرين الذين ربّوا أجيالاً عديدة كان لها أكبر الأثر في حركة التربية الإسلامية.
ويأتي العلامة الحلي في مقدمة العلماء الذين شكلوا قرى تربوية موجهة، وخاصة فيما تميز به من قوة الحجة ومتانة المنطق ومنهجية التفكير مما ينعكس واضحاً على مؤلفاته ، فله على سبيل المثال (منهاج اليقين في أصول الدين، والأبحاث المفيدة في تحصيل العقيدة، ونهج الحق وكشف الصدق(95))... إلى غير ذلك من المؤلفات التي بثت العديد من الأصول المنهجية والقواعد الفكرية مما يساعد على تصحيح التفكير وبنائه على أسس عقلية.
والسر في نجاح آثاره واستمرارها عقوداً عدة دون أن تفقد أصالتها وحيويتها، بل وتستمر إلى ما هو أبعد زمناً ان مدرسته الفكرية ترتكز على الاستقلال في الرأي، وأعمال العقل والنظر، قال نفر من أتباع المذاهب: أن العلامة حصر نشاطه العلمي بتأييد مذهب التشيع وصرف كل همه واهتمامه إلى انتصاره على بقية المذاهب، ووصفه بعضهم بالمتعصب وآخر بالمتحامل وثالث بطاغية الشيعة، وقد جانب هؤلاء الصواب فقد كان الرجل عالماً كبيراً لا يميل إلى التعصب يعشق البحث عن الحقيقة(96).
ومن العلماء أيضاً الشيخ مرتضى الأنصاري ويستطيع العارف الخبير أن يدرك من النظرة الأولى إلى كتبه انه لم يكن عظيماً تميز بالحفظ وقوة الذاكرة بل كان عظيماً لشخصيته المستقلة التي لا تعتمد على غيرها ويعتمد عليها الغير ولفكره الناقد الذي كان يتصدى بجرأة للقدماء والمحدثين متفرقين ومجتمعين وقد تخرج عليه أكثر الفحول مثل الميرزا الشيرازي، والميرزا حبيب الله الرشتي، والسيد حسين الترك، والشربياني، والمقمقاني، والميرزا أبو القاسم صاحب الهداية، وانتشر تلاميذه وذاعت آثاره في الآفاق، وعاش مع ذلك عيشة الفقراء المعدمين، وقد توفي عام 1281 هـ (97).
سادساً: النزعة العقلية: ولسنا في حاجة إلى أن نفيض القول في أهمية وضرورة النهج العقلي في عملية بناء الإنسان وإنما يكفي هنا أن نشير إلى أهمية هذه القضية في موضوعنا الحالي بصفة خاصة لما يتوهمه كث يرون بكل أسف من تضاد بين الدين والعقل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تربية الإنسان إنما تفضل بمقدار الجهد المبذول لتربية هذا الجانب الذي يجعل من الإنسان إنساناً ألا وهو العقل.
ولقد وصل الأمر بالثقة بالعقل إلى الحد الذي جعل الشيعة الإمامية بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، على أساس أن كل ما استقل العقل بدركه وحكم بمدح فاعله أو ذمه فلابدّ أن يكون حكم الشارع على طبقه، ولا يمكن أن يخالفه بأي حال من الأحوال سواء كان المدرك من الأصول أو الفروع، فالعقل على هذا الوجه دليل مقرر للأحكام الشرعية كالكتاب والسنّة على حد سواء، ويستحق من أطاعه المدح والثواب أو الذم والعقاب من الله تعالى لأنه رسوله الباطن إلى الناس كافة، والحجة بينه وبين عباده، ولا يخفى أن هذا الوجه يتمشى مع كل القائلين بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع من مسلمين وغيرهم(98).
ومما ذكره القاسم الرسي (المتوفي عام 246 هـ ) ان الله خلق عباده المكلفين لعبادته ، والعبادة على ثلاثة وجوه أولها: معرفة الله. والثاني معرفة ما يرضيه وما يسخطه، والوجه الثالث اتباع ما يرضيه واجتناب ما يسخطه، وقد احتج المعبود على العباد بثلاث حجج: العقل والكتاب والرسول بحجة العقل يعرف به المعبود وبحجة الكتاب تتم معرفة التعبد، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العبادة، والعقل أصل الحجتين الأخيرتين لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما، ثم يأتي الاجماع حجة رابعة مشتملة على جميع الحجج الثلاث وعائدة إليها(99).
وأكد يحيى بن الحسين الملقب بالهادي الى الحق (245 – 298 هـ ) على حرية إرادة الإنسان بأدلة عقلية، بالاضافة إلى الأدلة النقلية ومن أدلته العقلية ان الأعمال جميعاً لو كانت بقضائه وقدره وانه سبحانه شاءها وأرادها، لما كان بين الطاعة والمعصية فرق، ولكان من عمل شيئاً من الفعلين فهو لله مطيع ولإرادته منفذ ولمشيئته مؤد. ولو أن الله قضى على قوم بالمعصية لا يقدرون عمل غيرها، وقضى على آخرين بالطاعة له وبالعمل بما يرضيه، فإلى من أرسل الأنبياء وإلى من دعوا ومن خاطبوا وعلى من احتجوا وما وجه حاجة العباد إليهم وقد أرسلهم الله إلى قوم قد منعهم من طاعته(100).
والثقة بالعقل تعطي العمل التربوي مدداً بغير حدود إذ أنها تلقى مسؤولية كبرى على عمل الإنسان وسلوكه مما يقتضي اعداداً وتكويناً وتنشئة سليمة.
وماذا بعد؟
ان الناظر إلى الواقع المعاصر لمجمل الشعوب الإسلامية لابدّ أن تفزعه الصورة التي أصبحت عليها وليس من المعقول بأي حال من الأحوال ان تتجمع بين أيدينا تلك الثروة الفكرية الهائلة من كتاب وسنّة وأعمال فكرية وجهود عملية لمسنا أمثلة لها لدى الإمام العظيم عليّ بن أبي طالب ومن سار على دربه على طريق الحق، دون أن يستنهضنا هذا لمعاودة النهوض وتجاوز الواقع بكل ما يحمله من مرارة، واستيعاب خبرة الماضي بكل ما تحمله من سلبيات أو ايجابيات.
وبالتأمل في قوله عز وجل: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) يجد انها تقول له لابدّ لك لكي تغير الواقع من أن تغير نفسك من الداخل من خلال تغيير تصوراتك وأفكارك ومشاعرك تجاه القضايا التي تواجهك أو الأشياء التي تحيط بك أو الأشخاص الذين يعيشون معك وقد حاول الإسلام أن يضع للإنسان منهجاً تربوياً تغييريا، يخطط فيه للإنسان المنهج الذي يواجه فيه الكون بدقة وتأمل، ليواجه – من خلاله – الله، بوعي ومعرفة ليلتقي – على أساس ذلك – بالمسؤولية العامة عن الحياة والإنسان من خلال المفاهيم الكبيرة والشريعة الواسعة الممتدة في كل مجال من مجالاته العلمية ليلتقي التغيير الفكري بالتغيير العلمي ويحقق الصياغة الإسلامية الجديدة للإنسان على صورة الحق(101).
ولكن إذا كانت الحياة تبدأ من الداخل، في عملية انطلاق وامتداد فقد يحدث أن يخضع الداخل لتأثيرات الضغوط الخارجية للبيئة وغيرها، كنتيجة طبيعية لتأثر الإنسان نفسياً وفكرياً بما يحدث حوله، ولذلك حاول الإسلام أن يحيط الواقع الحياتي للإنسان المسلم بالعناصر الرادعة التي تحارب الانحراف من جهة وتخفف الضغط على الداخل من جهة أخرى، وبذلك كان الاتجاه الإسلامي منطلقاً نحو الداخل ليبني القاعدة النفسية للإنسان، كما كان الردع الخارجي، طريقة من طرق حماية القاعدة وتقويتها(102).
ان هذا المنطق هو الذي يجعلنا نستجيب استجابة تقوم على الإيمان والاقتناع بتلك الدعوة التي أطلقها بعض العلماء والمفكرين بالعودة إلى الذات، حيث يعني بها العودة إلى الثقافة الإسلامية والايديولوجية الإسلامية، وإلى الإسلام لا كتقليد أو وراثة أو نظام عقيدة موجود بالفعل في المجتمع، بل إلى الإسلام كأيديولوجية وايمان بعث الوعي وأحدث المعجزة بالفعل في هذه المجتمعات، ليس الأمر في الحقيقة استناداً إلى دين موروث أو احساس روحاني جاف، على أساس شعار المفكرين الذي طرح على المستوى العالمي، وعلى أساس تلك القضية التي تناولها مؤلف كتاب (المسيح يصلب من جديد)، كما رفع نفس الشعار أيما سيزار في أمريكا اللاتينية ، وفرانز فانون مواطن جزر الأنتيل(103).
والمسألة بهذه الصورة إنما هي على درجة كبيرة من العموم تحتاج معه إلى تضافر الجهود لقدر من التحديد الذي يشير إلى مسارات العمل والتنفيذ، فهل هذه الذات هي ذات دينية، هل هي ذات إسلامية، أي إسلام؟ وأي مذهب؟ نحن نعلم ان هذه الذات الثقافية عندنا ذات تجلت في العالم كذات عليمة عن طريق جامعاتنا الموجودة في الألف سنة الأخيرة وفي آدابنا طوال الألف سنة الأخيرة، وعن طريق مفاخرنا وتاريخنا وحضارتنا ومواهنا واستعداداتنا المتنوعة من عسكرية ورياضية وعلمية وفلكية وأدبية وعرفانية في هذه الألف ومائة سنة الأخيرة، بحث أستطيع أمام أوربي ينتسب إلى عصر النهضة أن أقول له: انني فرد منتسب إلى ثقافة إسلامية عظيمة وهؤلاء البشر وهذه الشخصيات وهذه الحضارة والشخصية وهذا الاستعداد للتوالد والخصب والمواصلة فيّ وفي حضارتي، لكن المهم هو أي إسلام؟ وأي مذهب؟ هل هو ما هو موجود الآن؟ هل هو ما هو موجود الآن في صميم المجتمع بصورة تكرارية وعفوية ان العودة إليه من قبيل تحصيل الحاصل(104).
فلابدّ اذن من معين آخر – غير المفاهيم المادية عن الكون – يستقى منه النظام التربوي، ولابدّ من وعي تربوي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقة للحياة، ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم، ويدرس مسئل العالم من هذه الزاوية وعند اكتمال هذا الوعي التربوي في العالم واكتساحه لكل وعي تربوي آخر، وغزوه لكل مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية، يمكن أن يدخل العالم في حياة جديدة، مشرقة بالنور عامرة بالسعادة(105).
ان هذا الوعي التربوي العميق هو رسالة السلام الحقيقي في العالم، وان هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدت نظامها التربوي – المختلف، عن كل ما نعرفه من أنظمة – من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون.
وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرية الصحيحة للنسان إلى حياته فجعله يؤمن بأن حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال وانها اعداد للإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ونصب له مقياساً خلقياً جديداً في كل خطواته وأدواره وهو رضا الله تعالى فليس كل ما تفرضه المصلحة الشخصية جائز وكل ما يؤدي إلى خسارة شخصية فهو محرم غير مستساغ بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو الرضا الإلهي والمقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال انما هو مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدس، والإنسان المستقيم هو الإنسان الذي يحقق هذا الهدفـ، والشخصية الإسلامية الكاملة هي الشخصية التي سارت في شتى أشواطها على هدى هذا الهدف(106).