بسم الله الرحمن الرحيم
1 – المقومات البنائية لشخصية الإمام عليّ
هو عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، فهو أول هاشمي يولد من أبوين هاشميين إذ كان بنو هاشم قد تعودوا أن يصهروا إلى أسر أخرى من قريش قبل أن يتزوج أبو طالب من بنت عمه فاطمة بنت أسد(1).
وروت فاطمة أنها أثناء حملها قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبي طالب: ان كانت حاملاً أنثى فزوجنيها، فلما وضعت في الكعبة جعلت حملها في غشاوة فأمر أبو طالب ألا تفتح حتى يأتي محمّد فيأخذ حقه فلما جاء محمّد وفتح الغشاوة أخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده وسماه علياً وأصلح أمره ثم انه لقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام(2).
هكذا فتح عليّ بن أبي طالب عينيه أول ما فتحهما على ابن عمه محمّد الذي أصبح فيما بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ... منه تعلم أولى الكلمات وأولى الخطوات.
وعندما أصابت قريشاً أزمة عنيفة كانت أشد وطأة على أبي طالب لكثرة عياله فاقترح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على عمه العباس الذي كان أيسر بني هاشم ان يتكفلا اثنين من عياله فكان نصيب محمّد علياً، فلم يزل عليّ معه حتى بعثه الله عزّوجلّ رسولاً نبياً فاتبعه عليّ رضي الله عنه وآمن به وصدقه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حضرت الصلاة – وهي التعبد قبل أن تفرض الصلاة ليلة الاسراء – خرج إلى شعاب مكة وخرج معه عليّ بن أبي طالب فيصليان فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا(3).
نشأ عليّ بن أبي طالب اذن في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه حتى اختاره الله إلى جواره وفي هذا يقول عليّ لقومه : (تعلمون موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني فراشه ويمسني جسده ويشمني عرقه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلا في فعل وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بهذا الاقتداء) (4).
وقد بلغ من عمق تأثير عليّ بن أبي طالب على الناس انه اشترى عبداً فعلمه الإسلام وأعتقه ولكن العبد لزمه حتى إذا مات النجاشي ملك الحبشة واضطربت الأمور من بعده اكتشف الملأ من الحبشة ان هذا العبد هو ابن للنجاشي قد خطفه تجار الرقيق وهو غلام وباعوه في مكة فجاءه الملأ من الحبشة يعرضون عليه ملك الحبشة خلفاً لأبيه النجاشي لكنه رفض الملك وأثر البقاء على الإسلام في صحبة عليّ(5).
وربما صح من أوصاف عليّ في طفولته انه كان طفلاً مبكر النماء، سابقاً لأنداده في الفهم والقدرة لأنه أدرك في السادسة أو السابعة من عمره شيئاً من الدعوة النبوية التي يدق فهمها والتنبه لها على من كان في هذه السن الباكرة فكانت له مزايا التبكير في النماء كما كانت له أعباؤه ومتاعبه التي تلازم أكثر المبكرين ، ولا سيما المولودين منهم في شيخوخة الآباء(6).
وتدل أخباره – كما تدل صفاته – على قوة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والآفات فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل ولا يمسك بذراع الرجل فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفس واشتهر عنه أنه لم يصارع أحداً إلاّ صرعه ولم يبارز أحداً إلاّ قتله وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه رجال ويحمل الباب الكبيريعيى بقلبه الأشداء ويصيح الصيحة فتخلع لها قلوب الشجعان(7).
وكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يصاب ويزيدها تشريفاً أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها عليّ بغير كلفة ولا مجاهدة رأي وهي التورع عن البغي والمروءة مع الخصم قوياً أو ضعيفاً على السواء وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال(8).
وتقترن بالشجاعة – ولا سيما شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم – صفة لازمة لها متممة لعملها قلما تنفصل عنها وكأنها والشجاعة أشبه شيء بالنصح للماء أو بالاشعاع للنور فلا تكون شجاعة الفروسية إلاّ كانت معها تلك الصفة التي نير إليها وهي صفة الثقة أو الاعتزاز فهي من شجاعة الفارس المقاتل(9).
كان ملاك الأمر في أخلاق عليّ عليه السلام انه كان لا يتكلف اظهار شيء ولا يتكلف اخفاء شيء ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه وكانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقته الكبرى من الشجاعة والبأس والامتلاء بالثقة والمنعة، وكانت تسلك معه مسلك الحقيقة والمجاز على السواء كأنه يعني ما يصنع وهو لا يعنيه وإنما يجيء منه على البديهة كما تجيء الأشياء من معادنها(10). بل كانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقة أخرى هي قرينة للشجاعة في نفس الفارس النبيل وقلما تفارقها ونعني بها خليقة الصدق الصراح الذي يجتريء به الرجل على الضر والبلاء كما يجتريء به على المنفعة والنعماء فما استطاع أحد قط أن يحصى عليه كلمة خالف بها الحق الصراح في سلمه وحربه وبين صحبه أو بين أعدائه ولعله كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء مما كان بين الأعداء لأنهم أرهقوه باللجاجة وأعنتوه بالخلاف فما عدا معهم قول الصدق في شدة ولا رخاء حتى قال فيه أقرب الناس إليه انه رجل يعرف من الحرب شجاعتها ولكنه لا يعرف خدعتها وكان أبدا عند قوله: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك والاّ يكون في حديثك فضل على علمك وأن تتقي الله في حديث غيرك) (11).
وكان زواج عليّ من فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علامة ما بعدها علامة تؤكد ميزة تاريخية تربوية اختص بها الإمام العظيم وقد تعددت روايات الزواج لكننا نستطيع رغم هذا أن نعمل العقل لنرجح أي الروايات أقرب إلى المعقول فمن المعقول مثلاً ان يؤثر النبي علياً بفاطمة وهما ربيبان في بيئة واحدة ومن المعقول أن يؤثر زواجها من عليّ على مشاركتها في بيت أبي بكر وعمر لزوجات الشيخين ومن المعقول أن يتردد عليّ لخطبتها لفقره ولا يخالف المعقول ولا المألوف أن يقدم بعد تردد لشعوره بأنه مخصوص بها وانه ينبغي عليه أن يقطع الشك باليقين ويعمل من عنده ما لابدّ من عمله ولا يخالف المعقول ولا المألوف كذلك أن يتأخر الزواج إلى ما بعد الهجرة، لأن حياة المسلمين في مكة – قبل الهجرة إلى المدينة – لم تكن حياة أمن ولا استقرار ولم يكن من النادر أن يهاجر المسلمون بزوجاتهم إلى بلد بعيد كالحبشة كلما ملكوا وسائل الهجرة فمن كان متزوجاً قبل اشتداد العنت على المسلمين فلا حيلة له في الزواج ومن لم يكن فليس أخلق به من أرجاء الزواج إلى حين(12).
ولما انتظمت الحياة في السكن الجديد الذي أوى إلى ظل النبي على مثال من حياة النبي في بيته ما لبث البيت الصغير أن سعد بالذرية وقد رزق الأبوان الفقيران نصيباً صالحاً من البنين والبنات الحسن والحسين ومحسن وزينب وأم كلثوم(13).
وكان أسعد ما يسعدان به عطف الأب الأكبر الذي كان يواليهم به جميعاً ولا يصرفه عنه شاغل من شواغله الجسام في محتدم الدعوة والجهاد، وقد أوشكت كل كلمة قالها في تدليل كل وليد أو الترحيب به أن تصبح تاريخاً محفوظاً في الصدور والأوراق وكان يدلل الطفل منهم ويستدرجه فربما شوهد وهو يعلو بقدمه الصغيرة حتى يبلغ بها صدر النبي والنبي يرقصه ويستأنسه ويدعب صغره وقصره بكلمات حفظها الأبوان ولم يلبث أن حفظها المشرقان وربما شوهد النبي عليه الصلاة والسلام ساجداً وطفل من هؤلاء الأطفال راكب على كتفيه فيتأنى في صلاته ويطيل السجدة لكيلا يزحزحه عن مركبه بل وربما كان على المنبر فيقبل الحسن والحسين يمشيان ويتعثران فيسبقه حنانه إليهما وينزل من المنبر ليحملهما وهو يقول(14): (صدق الله العظيم) إنما أموالكم وأولادكم فتنة.
وإذا كانت المواجهة بين عليّ عليه السلام ونسله وبين معاوية ونسله قد كان ما كان لها من أثر على حركة التاريخ الإسلامي، فلابد أن يستتبع ذلك آثار عدة على التاريخ التربوي مما يدفعنا إلى الإشارة إلى بعض النظرات في موازنة بين الأثنين كوسيطين تربويين فالهاشميون من ارومة واحدة مع الأمويين ترتفع إلى عبد مناف ثم إلى قريش في أصلها الأصيل ولكن الأسرتين تختلفان في الأخلاق والأمزجة وان اتحدتا في الارومة فبنو هاشم في الأغلب الأعم مثاليون أريحيون ولا سيما أبناء فاطمة الزهراء، وبنو أمية في الأغلب عمليون نفعيون ولا سيما الاصلاء منهم في عبد شمس من الآباء والأمهات(15). ذلك ان بني هاشم كانوا يعملون في الرئاسة الدينية وبنو عبد شمس يعملون في التجارة أو الرئاسة السياسية وهما ما هما في الجاهلية من الربا والمماكسة والغبن والتطفيف والتزييف فلا عجب أن يختلفا هذا الاختلاف بين أخلاق الصراحة وأخلاق المساومة وبين وسائل الإيمان ووسائل الحيلة على النجاح(16).
وقد تنافس هاشم وأمية على الزعامة قبل أن يولد معاوية فخرج أمية ناقماً إلى الشام وبقى هاشم منفردا بزامة بني عبد مناف في مكة ثم علا نجم أبي سفيان بن حرب بن أمية في الحجاز فأصبحت له زعامة مرموقة إلى جانب الزعامة الهاشمية فلما ظهرت الدعوة المحمدية أخذته الغيرة على زعامته فكان في طليعة المحاربين للدعوة الجديدة(17).
وكان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كما يخبرنا هو يوجه عناية فائقة إلى التاريخ عناية جعلت من التاريخ عنصراً بارزاً فيما وصل إلينا من كلامه في مختلف الموضوعات التي كانت تثير اهتمامه وعناية الإمام بالتاريخ ليست عناية القاص والباحث عن القصص كما انها ليست عناية السياسي الباحث عن الحيل السياسية وأساليب التمويه التي يعالج بها تذمر الشعب وإنما هي عناية رجل الرسالة والعقيدة والقائد الحضاري والمفكر المستقبلي(18).
والإمام ليس مؤرخاً ولذا فليس من المتوقع أن نجد عنده نظرة المؤرخ وأسلوبه في سرد الوقائع وتحليلها والحكم عليها وإنما هو رجل دولة حاكم ورجل عقيدة ورسالة وهبها كل حياته فهو يتعامل مع التاريخ باعتباره حركة تكوّن شخصية الإنسان الحاضرة والمستقبلة لذا فهي تشغل حيزاً هاماً وعلى درجة كبيرة من الخطورة في عملية التربية والتحرك السياسي وهذا ما يجعل منه رجل رسالة وحاكماً كالإمام عليّ حريصاً على أن يدخل في وعي أمته التي يحمل مسؤولية قيادتها نظرة إلى التاريخ تجعله قوة بانية لا مخربة ولا محرّفة(19).
كان رجل رسالة هي الإسلام رسالة استوعبت الحياة كلها تنظيماً وتشريعاً ومناهج وهي رسالة ذات طابع عالمي ممتد في الزمان إلى آخر الزمان أراد الله تعالى لها أن تكون ديناً للإنسان كل إنسان تقوده نحو التكامل الذي يحقق له التوازن والتسامي.
وهي رسالة تقوم على العلم والمعرفة وترفض الجهل لأنه يتيح لأعدائها أن يتسللوا في ظلماته إلى قلوب أتباعها المؤمنين بها وعقولهم فيشوهون ويحرفون عقائدها وشرائعها ومناهجها ويظللون بعد ذلك اتباعها المؤمنين بها وذلك حين يلبسون لهم الحق بالباطل والصواب بالخطأ(20).
ومن هنا كان من أكبر هموم رجل الرسالة الاستعداد الدائم في هذا المجال لأجل أن يجعل المسلمين على معرفة كاملة بالإسلام وفي حالة وعي متجدد وتام لحقيقة الإسلام وجهره ومناهجه وغاياته ليكون المسلم المستنير بالمعرفة في حصانة من الحيرة والتضليل، على بينة من أمره، وليكون الإسلام بمنجاة من التشويه والتحريف، ويكون كل مسلم مستنير ديدبانا على دينه الذي هو معنى وجوده وشرف وجوده ومن هنا كان عليّ عليه السلام في حركة تعليمية دائمة لمجتمعه وخواص أصحابه الذين كانوا علماء ينشرون علمهم ووعيهم بين الناس بالحديث والخطابة وجلقات الدرس والتعليم(21).
والإمام كمربي أمة قد فكر في المجتمعات التي حكمها وفكر في أفضل الطرق والوسائل التي تنمي حياتها الاجتماعية وترتفع بها إلى ذروة من الرفاهية والوفرة والأمن مع ملاحظة انها تدين بالإسلام وان شؤون اقتصادها وحربها وسلمها وعلائقها الإجتماعية تخضع لقوانين الإسلام وأنها يجب أن تأخذ سبيلها إلى النمو في اطار إسلامي بحت وقد هداه تفكيره الى نتائج باهرة في التنظيم الإجتماعي فالحكم وضرورته والنزعة القبلية وعقابيلها وشغب الغوغاء ونتائجه ودعامات المجتمع ومقوماته والطبقات الإجتماعية وآليتها كل ذلك خصه الإمام بمزيد من البحث والتفكير وطبق النتائج التي اهتدى إليها على المجتمعات الإسلامية ولولا ان أعداءه شغلوه على أن يفرغ لمهام العمل السلمي لكسب التاريخ الحضاري للمسلمين مكاسب رائعة(22).
وإذا كان الإسلام قد جعل الفضيلة هي مصدر القيمة الإجتماعية وأراد اتباعه أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب صوناً للمجتمع من أخطار التفاوت الطبقي فإنه لم يغفل أمر الواقع النفسي للإنسان ولذلك لم يكل أمر تحقيق القيمة العليا إلى الإنسان وحده وإنما جعل لها سنداً من القانون ليكون لها من القوة ما يحمل الأغنياء الأقوياء وغير الأغنياء على
التمسك بها(23) فشرع الله تعالى أحكاماً تحول دون تكوّن الثروات بطريق غير عادل وغير مشروع – وتحول بين أصحاب الثروات بعد أن تتكون لديهم الثروة بطريق مشروع وبين أن يستخدموها في استغلال الآخرين.
ولقد وعى الإمام ان الإنسان الجائع المستغل المحروم المصفد بالأغلال لا يستطيع أن يكون فاضلاً وان من اللغو أن يوعظ بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، وأن أنساناً كهذا ينقلب كافراً، كافراً بالقيم والفضائل والإنسان . ووعى ان المجتمع القائم على سيادة فريق وعبودية فريق، وعلى استغلال الأسياد العبيد والأحرار للمصفدين بالأغلال مجتمع لا يمكن أن توجد فيه فضيلة ولا يمكن أن يوجد فيه فضلاء انه ليس إلاّ مجتمع لصوص ومجرمين وعبيد تسير أفراده الأحقاد والمكر والاستغلال.
على أساس من هذا الوعي جعل الإمام الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الإجتماعي(24).
2 – التربية: أهمية ومفهوماً ووظيفةً ومجالاً:
أهمية العمل التربوي:
إذا كان الإيمان بالله يضع يدنا على معرفة المصدر الأول الذي صدر عنه الكون، والإيمان باليوم الآخر يحقق المعرفة بمصير الوجود ويضع أيدينا على النهاية التي ينتهي إليها الكون إلاّ ان الإيمان وحده لا يكفي لتحقيق الارتباط بالله سبحانه بصيغته الصالحة، لأنّ ذلك يرتبط بطريقة في الحقيقة بطريقة اشباع فطرة الإيمان وأسلوب الأستفادة منها كما هي الحال في كل طاقات الإنسان وقواه واستعداداته الفطرية فإن التصرف السليم في اشباعها هو الذي يحقق المصلحة النهائية للإنسان كما ان السلوك وفقاً للفطرة أو ضدها هو الذي ينمي تلك الفطرة ويعمقها أو يضمرها ويخنقها فبذور الرحمة والشفقة تموت في نفس الإنسان من خلال سلوك سلبي وتنمو في نفسه من خلال التعاطف العلمي المستمر مع البائسين والمظلومين والفقراء، ومن هنا كان لابدّ للإيمان بالله والشعور العميق بالتطلع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق من توجيه يحدد طريقة اشباع هذا الشعور ومن سلوك عملي يعمقه يرسخه ويعمقه على نحو يتناسب مع سائر المشاعر الأصلية في الإنسان وبدون توجيه قد ينقلب هذا الشعور ويمني بألوان الانحراف كما وقع ذلك بالنسبة إلى الشعور الديني غير الموجه في أكثر مراحل التاريخ وبدون سلوك موجه ومعمق قد يزول هذا الشعور ولا يعود الارتباط حقيقة فاعلة في حياة الإنسان وقادرة على تفجير طاقاته وإمكاناته الصالحة(25)، ومن هنا تأتي أهمية العمل التربوي في رسالة الإمام عليّ.
وقد أثر عن الإمام أحاديث عدة في فضل العلم وقيمته منها على سبيل المثال قوله لتلميذه كميل بن زياد: يا كميل احفظ عني ما أقول لك، الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الأنفاق. يا كميل محبة العالم دين يدان به تكسبه الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد وفاته فمنفعة المال تزول بزواله يا كميل مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة(26). وقال كذلك: الجاهل صغير وإن كان شيخاً والعالم كبير وإن كان حدثاً. وقال: لا كنز أنفع من العلم. وأيضاً: لا علم كالتفكير ولا شرف كالعلم(27). وقوله: كفى بالعلم شرفاً انه يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه من ليس من أهله وكفى بالجهل خمولاً انه يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه(28).
ولم يقتصر حث الإمام على طلب العلم والتفقه في الدين على فئة دون فئة بل شمل جميع المسلمين يقول الإمام: أيها الناس اعلموا ان كمال الدين طلب العلم والعمل به وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال أن المال مقسوم بينكم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه سيفي لكم به، والعلم مخزون عليكم عند أهله قد أمرتم بطلبه منهم فاطلبوه واعلموا ان كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلوب وان كثرة العلم والعمل به مصلحة للدين سبب إلى الجنة والنفقات تنقص المال والعلم يزكو على انفاقه. قال ابن عبد البر: ان قول عليّ بن أبي طالب: قيمة كل امرئ ما يحسنه، لم يسبقه إليه أحد قال: وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها وقد طار له الناس كل مطير ونظمه جماعة من الشعراء اعجاباً به وكلفاً بحسنه(29).
وقد عبّر الإمام عليّ عن ان العمل التربوي وطلب العلم إنما هو وسيلة لخير الإنسان نفسه ومن أجل صالح البشرية مما ينحى جانباً القول بأن طلب العلم إنما يكون للعلم نفسه يقول في ذلك عليه السلام: فالله سبحانه قبل أن يخلق الإنسان خلق الكون ورتبه أحسن ترتيب ونظمه أجمل تنظيم ومهد الأرض وأتم مرافقها على أكمل الوجوه فخلق فيها الهواء الطلق ، وأجرى فيها العيون والأنهار وأعد أنواع الأطعمة والأشربة ومن كل الثمرات وأنبت فيها النبات والزهو مختلفا ألوانه. وبعد أن أتمها وجمع فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين أخرج إليها الإنسان وأسكنه فيها على أن يكون خليفته في أرضه يحيا في كنفها ويعيش في خيراتها ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه ومقاصده وفق أحكام الله سبحانه وإرادته.. (30).
واستناداً إلى هذه الثقة بخير الوجود وعدله وإلى عظمة الحياة والاحياء يخاطب عليّ بن أبي طالب الأجيال بما يوقظهم على ان الحياة حرة لا تطيق من القيود إلاّ ما كان سبباً في مجراها وواسطة لبقائها وقبساً من ضيائها وناموساً من نواميسها.
معنى التربية:
عندما نفتش فيما بين أيدينا من النصوص فإنها قد لا تسعفنا بطريق مباشر في أن نجد شرحاً بالصورة التي نأمل فيها ونتوقعها لكننا نستطيع بعمليات استدلال واستنباط ان نجد عدداً غير هين من النصوص التي تتضمن بعض الدلالات والمعاني التي من شأنها في المجموع العام أن تشير إلى مفهوم يقرب العملية التربوية من ذلك المعنى الذي يجعلها عملية تنمية الشخصية الإنسانية في جوانبها المختلفة فمن ذلك قول الإمام: فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثم علمت وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك(31).
فخلو الإنسان من المعارف حال ولادته يفيد معنى الاكتساب بمرور الخيرات والأحداث عبر حياة الإنسان وان هذا الاكتساب لا يجيء سهلاً هينا وإنما يقتضي عمليات مجاهدة وبحث حيث أن الحقيقية لا تستبان لأول وهلة.
والتربية عملية إنسانية بالدرجة الأولى حيث خلق الله الإنسان قادراً على التعلم قابلاً له بحكم ما في فطرته من مرونة وقدرة على التكيف فقد جاء عن الإمام قوله: إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقى فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك(32). وقد تناول الإمام جعفر الصادق هذا المعنى بالشرح والتحليل فكان مما قاله: فصار – أي الطفل – يخرج إلى الدنيا غبياً غافلاً عما فيه أهله فيلقي الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلاً قليلاً وشيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال حتى يألف الأشياء ويتمرن ويستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف والاضطرار إلى المعاش بعقله وحيلته وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية. ويعلل الإمام الصادق ذلك بقوله: فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلاً بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم(33).
وقد أبان الإمام عليّ عليه السلام ركيزتين أساسيتين لا قيام للتربية بدونهما ألا وهما ما أسميناه بمرونة الفطرة الإنسانية وكذلك الميل الفطري لدى الإنسان إلى التقليد يقول: يا بني أني لما رأيتني قد بلغت سناً ورأيتني أزداد وهنا، أردت بوصيتي إياك خصاً لا منهن أني خفت أن يعجل بي أجلي قبل أن أفضي إليك بما في نفسي وأن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا فتكون كالصعب النفور، ومن هنا بدأ بتربيته التربية الصاحة ليوفر له أسس الشخصية السوية لتستقبل بجد رأيك ما قد كفاك أهل التجارب بغيبة وتجربة فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة(34).
فقد أكد الإمام عليّ أهمية الركيزتين بتعبيره البليغ عن التقليد قوله: فتكون قد كفيت مؤونة الطلب ويعني بذلك أنه سيسأله أو سيسأل غيره حتماً في هذه الأمور فلذلك بادره هو قبل أن يبادر إليه غيره وتعبيره عن مرونة الطفل اليافع قوله: أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا فتكون كالصعب النفور فإن قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها شيء قبلته مشيراً بذلك إلى فترة النضوج ومرحلة التكامل الإنساني(35).
والتربية لابدّ لها من أساس عقيدي ونبع تغترف منه ما يعين المربين على سلوك الطريق المستقيم ومصدر تهتدي بما فيه لتحدد أهدافها وتعين وسائل الوصول إلى هذه الأهداف ومختلف البدائل التي تخطط لها في سبيل ذلك وغنى عن البيان ان هذا الأساس العقيدي وذلك النبع الفياض والمصدر الملهم قائم في كتاب الله عز وجل كتاب ربكم فيكم مبيناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه وعبره وأمثاله ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه مفسراً مجمله ومبيناً غوامضه بين مأخوذ ميثاق في عمله وموسع على العباد جهله وبين مثبت في الكتاب ومعلوم في السنة نسخة وواجب في السنة أخذه ومرخص في الكتاب تركه وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله ومباين بين محارمه من كبير أوعد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه وبين مقبول في أدناه موسع في أقصاه(36).
فليس كتاب الله فقط هو الأساس الذي تستند إليه عملية التربية في الإسلام كما يرى الإما وإنما هناك كذلك سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كان القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة يشكلا نبع التبرية فإن خبرة الحياة وحركة الدنيا مصدر هام لابدّ من حسن التعامل معه لتكتمل العملية التربية فوفقا لسلوك المتعلم فيها وما يمر به من أحداث تكون حياته أن خيراً فخيراً وان شراً فشراً , ان الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غني لمن تزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة ، فمن ذا يذمها وقد أذنت بنيها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً وترهيباً وتخويفاً وتحذيراً فذمها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون يوم القيامة وذكرتهم الدنيا فتكذكروا وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا(37).
وقد حرص الإما م عليّ على أن يوثق الصلة بين التربية النظرية والتربية التطبيقية ببيان أهمية العمل بما نعلم ويظهر هذا فيما ورد نقلاً عنه حيث قال: الدنيا كلها جهل إلاّ مواضع العلم والعلم كله حجة إلاّ ما عمل به والعمل كله رياء إلاّ ما كان مخلصاً والاخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم به(38). وتجيء كلماته أكثر صراحة في قوله: العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ ارتحل
عنه، وقوله لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر قوام الدنيا بأربعة عالم مستعمل علمه وجاهل لا يستنكف أن يتعلم فإن ضيع الالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم(39).
وتلعب الأسرة دوراً أساسياً في تشكيل البذور الأولى للشخصية مما يجعلها أول وأخطر وسيط تربوي بحيث يشكل الوعي بها وبأهميتها مقياساً هاماً للحكم على الفكر التربوي في مذهب من المذاهب أو عند علم من أعلام التربية ومن هنا نلمس حرص الإسلام على ضمان القواعد الراسخة والأسس القويمة التي لابدّ أن تقوم عليها الأسرة بحيث تكون بالفعل خير نموذج يحتذى به الأبناء وأروع قدوة ترسم المنهج المطلوب قال عزوجل حكاية عن عباده الصالحين الذين يعون ذلك حق الوعي ويسعون بالفعل إلى تحقيقه: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً) وفي مقدمة قواعد التربية كما رسمها الإسلام أن توجد عملياتها التربوية القدوة الحسنة والمثل الأعلى للخير والصلاح(40).
ومن هنا يعتبر الأب هو المسؤول الأول عن تربية أبنائه تربية قويمة حتى يمكن أن يكونوا قرة أعين له في مقبل الأيام يقول الإمام عليّ لولده الحسن: ... وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي. فالولد ليس بعضاً من الأب بل هو نفسه يحكي وجوده وكيانه فعليه أن يهتم بشؤونه التربوية وأن يعني في تهذيبه وكماله ليكون فخراً له وفي ذلك يقول الإمام كذلك: ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق ، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل بين ذي النقية والنية وان أبدأك بتعليم كتاب الله... (41).
يتبع........................يتبع