اعرف عمق البحر قبل أن تسبح فيه
»من رواية قنابل الثقوب السوداء«
إبراهيم أمين مؤمن-مصر
السنة الثالثة
هذا العام تدفقَ الكثير جدًا من العملة الدولاريّة من المصريين المقيمين في الخارج إلى المصارف المصريّة حتى قيل إنّه لم يعد يملك أيّ مصريّ مالاً في الداخل والخارج إلّا شهادة استثمار المصادم FCC-2.
تمّ إخلاء المصادم من كلِّ العاملين تقريبًا، ولم يوجد به إلّا خبراء ومهندسو التركيبات وبعض المعاونين من الذين ينقلون لهم قطع غيار التركيبات عبر المصاعد، ومن ثَمّ وضعها في الأماكن المخصصة لها والتي سوف تستقرّ فيها إلى الأبد.
وقد تمّ توفير الدعم اللوجستيّ لقطع الغيار من كافة الدول التي يعمل خبراؤها على تصميم وإنشاء المصادم.
ما زال فهمان يجلس ويحاور المهندسين بشأن تركيبات أجهزة المصادم، وما إن ينتهوا من جهاز يضعونه في المكان المخصص له والنهائي لحين اكتمال كلّ التصاميم ليخرج FCC-2 إلى النور.
بينما فريق كاشف أطلس يعملون فيه ليل نهار.
أمّا ليناك 64 وهو الحلقة الأولى المسئولة عن تسريع البروتونات فقد انتهوا منه توًا.
وعلى بداية هذا العام"ليس يناير وإنّما أول السنة الثالثة لبناء المصادم" تمّ عقْد لقاء سريّ بين يعقوب إسحاق ورامسفيلد لإتمام مشروع الشرق الأوسط، على أن يتولى فترة رئاسيّة ثانية مقابل إتمام مشروع المنطقة حتى النهاية.
وفي ديسمبر من هذا العام تولّى جورج رامسفيلد رئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة بعد خوض انتخابات مزوّرة.
وضعوا الخطة وهي الخطوة الثالثة من المخطط الصهيونيّ.
وهذه بعض الشروحات في ورقة الاتفاق بين رامسفيلد ويعقوب إسحاق.
الخطوة الثالثة تنقسم إلى قسمين..
القسم الأول: هو تفتيت كلّ دولة عربيّة إلى دويلات صغيرة.
القسم الثاني: إثارة الخلافات بين هذه الدويلات المفكّكة فيما بينها على الحكم، ثمّ العمل على تأجيج الحروب الطاحنة بينهم بسبب ترسيم الحدود وحصص المياه الدوليّة، وبالتالي تتنازع الدول العربيّة كلّها فيما بينها وتتحوّل المنطقة كلّها إلى دمار.
وهذان القسمان هما التمهيد لدخول أمريكا وحلفائها إلى المنطقة العربيّة.
من التحديّات التي يجب على يعقوب ورامسفيلد إنجازها وهي من القسم الأول .. العمل على إثارة الأكراد على الحكّام وتبنيهم عقيدة الانفصال عن الدولة، وإثارة الشيعة على السنة في الدولة الواحدة، وإثارة بعض التيارات الإسلاميّة التي تنفصل أيضًا عن الدولة، والدعوة إلى حقِّ النصارى لإقامة دولة خاصة بهم داخل دولتهم الأمّ للخروج من الاضطهاد والحفاظ على أمنها وهويّتها ودينها، وبصفة عامة مراعاة حق الأقليات على مستوى العالم في تقرير مصائرهم .
كلُّ هذا يجب أن يحدث ثمّ يقرّه رامسفيلد ليظفر العالم بحالة من الأمن والاستقلال.
ثمّ يأتي دور التحديّات الخارجيّة وهي القسم الثاني ..
منها العمل على تأجيج الخلافات القديمة، والتي كانت تظهر بوادرها أحيانًا وتختفي مرّة أخرى على مرِّ تاريخها ألَا وهى النزاعات الإقليميّة، سوف تتأجج اليوم بفعل الوقود اليهوديّ الأمريكيّ الذي سوف تلقيه على نيران الفقر والحاجة لدى هذه الشعوب فتشتعل مطلقة أبواق الحروب، مستغلة في ذلك نقص مصادر المياه وقلة النفط في المنطقة.
وبالتالي سيعملون على تفشّي الحروب بين دول المصبّ والمنبع فيما بينهم.
كذلك من التحديّات لهذا القسم إثارة العراق على إيران والعكس، والجزائر والمغرب، وسوريا على تركيا والعكس، وكذلك السودان على مصر والعكس، و... الخ .
السنة الرابعة والأخيرة
نصب المجسات
وهي المسئولة عن رصد الجسيمات التي تنتج نتيجة ارتطام البروتونات.
-تمّ وضع الكواشف في مكانها وهي بالضبط ..
-كاشف أطلس ATLAS .
-وكذلك ال CMS كاشف الميون اللولبي المدمج.
-وكاشف أليس ALIC.
-وكاشف LHCB W ويطلق عليه "الجمال beauty".
-كاشف مُتعقّب الألياف الضوئيّة اختصارًا SciFi، يجمع مائة ألف كيلومتر من الألياف الضوئيّة ويبلغ قطر كلّ منها 0.20 ملليمتر وبزيادة عدد الألياف عمّا كان عليه في سيرن تزداد درجة كشفه لنتائج الارتطام .
كلّ هذه الكواشف ترصد البيانات الناتجة من ارتطام حزمتي البروتونات.
-تمّ نصب المغانط: وهي تقوم بتسريع البروتونات التي تسير في الأنبوبين.
-تمّ نصب الأنبوبين فائقي التخلية وفيهما تتسارع حزم البروتونات لحين التصادم.
-شبكة الحوسبة: وهي المسئولة عن إحصاء نتائج التجارب التي رصدتها المجسات.
-جهاز الليزر الفائق: هذا الجهاز لم يدخل في تكلفة المصادم ولم يصممه خبراء المصادم بل هدية أرسلتها الصين إلى مصر رغبة منهم في التعاون المصريّ الصينيّ في مجال التكنولوجيا.
-التكلفة: لقد بلغ تكلفة إنشائه مائتي وتسعون مليارًا من الدولارات، تشمل مرتبات الخبراء والعمال.
وأصبح من الواضح أنّ الشعب المصريّ على حافة الهلاك بسبب مجاعة قد تضرب البلاد خلال بضعة أشهر.
فمعظمهم الآن ينامون على الأرصفة عرايا بعد بيع خيامهم وجحورهم وملابسهم المرقعة .
ينامون على الأرصفة ويسيرون في الطرقات بالفانلة والشورت المرقعين .
خلال الأربع سنوات الماضية تمّ إنشاء مصادم فهمان، مصادم الهادرونات المستقبلي FCC-2.
وهذه فترة قليلة جدًا لبناء مصادم بهذا الحجم بسبب توفر إيجابيات ساعدت على إنجازه بهذه السرعة.
منها حبّ الشعب لمهديّ، وتطور الآلات في هذا الزمن، وتسارع الخبراء من كافة أنحاء العالم للمشاركة في بنائه رغبة من كبار ساساتهم أن يكون لهم دور فعّال فيما بعد في حسم الحرب المحتملة عن طريق اكتشاف سلاح جديد من هذا الصرح العلميّ، وكانوا يأملون منهم صناعة سلاح يفتك بالأسلحة النوويّة.
أمّا أقوى عامل على الإطلاق هو رباط الجيش المصريّ بجانب المصادم.
لقد كان دور الجيش المصري دورًا ثلاثيًا، ففضلاً عن الإسهام الذي فرضه مهديّ عليهم فقد كان الدرع الحصين بمخابراته ضد أيّ فوضى قد تحدث خلال عمليات الحفر والبناء وتصميم الأجهزة.
و كانوا يعملون ويحملون على أكتافهم الثرى ويصطفون أفواجًا ويسيرون سير العسكريين، كانوا خدمًا للفنيين من مصممي المصادم لكن الواحد منهم يحمل عزة وشرفًا ليس لهما نظير.
وقد كان مهديّ يتابع أعمالهم في موقعهم عن طريق عمل زيارات على فترات متباينة ليشدّ من أزرهم ويبثّ فيهم روح العزيمة والإصرار، كذلك كان يتابعهم عبر كاميرات المراقبة التي تصوّر الموقع كلّه.
وقد كان كثيرًا يطأطئ رأسه تعبيرًا عن الرضا حتى كاد أن يقول لهم إنّي راضٍ عنكم فهل أنتم راضون عنّي.
وكان يشعر في نفسه أنّه أبوهم وأخوهم حتى عندما يُجرح أحدهم كانت مشاعره النبيلة هي التي تضمد جراحهم.
الافتتاح الكبير للمصادم FCC-2
في مشهد عظيم حضره الرئيس مهديّ وصحب معه أعضاء المجلس العسكريّ وبعض رؤساء العرب الذين نجت بلادهم من الفوضى، كما أنّهم نجوا أيضًا من كمين الصراعات الإقليميّة وحصص المياه، شأنهم في ذلك شأن مهديّ.
كما حضر وزراء وسفراء ودبلوماسيّون من قارتي آسيا وأوروبا.
وفضلاً عن الخبراء الذين شيدوا المصادم تحت قيادة الفذّ فهمان فطين المصريّ، فقد حضر خبراء آخرون أكثر عددًا، وبذلك تجاوز عددهم عشرة آلاف فرد.
هذا الجمع السياسيّ والعلميّ حضر للافتتاح والذي ستتمّ فيه أول تجربة على أعظم مختبر علميّ شُيد في التاريخ.
وعلى شاشات التلفاز يشاهد الاحتفال معظم رؤساء الدول الأوربيّة والأسيويّة الذين أرسلوا خيرة خبرائهم لعلّهم يساعدونهم في حربهم المحتملة على أرض العروبة.
يتعشّم أكثرهم أن يأتوهم بتقنية طائرة مقاتلة محجوبة عن الرؤيا، أو ابتكار شيء يسير بسرعة الضوء كالانتقال الفوريّ البعيد.
وعلى طول مائة وعشرين كيلومتر احتشدتْ الجماهير المصريّة من جميع أنحاء الجمهوريّة، خرجوا من الأكواخ والخيام والكهوف والمنازل التي يقطنونها إلى الحضارة التي كادتْ تلامس السماء والممتدة من أنفاق تحت الأرض حيث يوجد المصادم FCC-2.
تظهر معظم الأطفال في صحبة أمهاتهم وآبائهم، تستخرج الأمهات رغيف الخبز ويقطّعنه أرباعًا، وأمهات أخريات يقطّعنه أخماسًا وأعشارًا ثمّ يناولنه في أيادي أطفالهنّ.
وملابس الرجال والأطفال والشيوخ لا تكاد تستر أجسادهم وخاصة الرجال والشباب، أمّا الأطفال فكان آباؤهم وأمهاتهم يقطعون من ملابسهم ليوصلوها في ملابس أطفالهم على هيئة رقع.
وتظهر فئة لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة، هيئاتهم حسنة، يستقلّون سياراتهم التي لا يُسمع أصواتُ هديرها بسبب دبيب أقدام أصحاب الكهوف.
شرعوا كلّهم للاحتفال، فكانوا يصفّقون بأيديهم ويصفّرون بشفاههم ويقرعون الأرض بنعالهم.
من بعيد يشاهد الساسة والخبراء التمثال الرابض فوق النفق، ترفرف أجنحته لا تكلّ ولا تملّ، إنّه تمثال فطين المصريّ الذي لولاه ما بُني هذا المصادم.
ويحدّق فهمان الواقف بمقدمة لفيف الخبراء والفيزيائيين إلى أبيه المنتصب فوق المصادم وهو يتمسّح بخطابه باكيًا، يقول: صدقت أبتِ ها أنا بجانب رئيس بلدي يحوطني برعايته.
والآن، الآن، حانتْ لحظة التقدّم، يتّجه مهديّ والسياسيّون إلى البوابة الرئيسة للمصادم لافتتاح المختبر.
يتبعهم فهمان ومن معه من الخبراء.
الآن.. الآن..
حانتْ لحظة الافتتاح ، فُتحت البوابة الرئيسة، فتقدّم وزير الدفاع ليفسح الطريق للرئيس مهديّ ووزراء وسفراء ودبلوماسي البلاد الغربيّة والعربيّة، بيد أنّ الرئيس مهديّ نظر إليه بازدراء وأدار سبابته نصف دائرة في الهواء مفتوحة باتجاه الأرض وقال: »غبن، غبن يا سيادة الوزير. «
ثم قال مستدركا: »ألمْ تنحدر مصر بسبب هذا على طول القرون الماضية؟! ألم نقبعْ في دهاليز التخلف ونغرقْ في بحار لجيّة بسبب هذا يا سيادة الوزير؟!«
لم يفهمْ الوزير ما يروم إليه الرئيس مهديّ فسأله دهشًا:
»ما أغضبك سيادة الرئيس؟«
فردّ مهديّ متأثرًا: »أتريد أن نهوى بعد أن اعتلينا السحاب، أغضبني نسْب الفضل إلى غير أهله، أغضبني تقدّم مَن وجب عليه أن يتأخر، وتأخّر مَن وجب عليه أن يتقدّم. «
ثمّ أومأ بيده إلى فهمان وقال: »هذا الشبل.«
ثمّ أومأ بها عاليًا نحو التمثال فقال: »من ذاك الأسد.«
ثمّ نظر إلى فهمان وقال: »تقدم يا ولدي ونحن خلفك، حُقّ لك أن تتقدّمَ بعد أبيك الشهيد. «
فترك فهمان موقعه من بين الأساتذة ويُبكيه خطاب أبيه الذي ألصقه على صدره، وتقدّم ليفتح باب العلم والحضارة، ليفتح المصادم.
وتقدّم من بعده الرئيس مهديّ وبقيّة الجمْع.
وتمّ الافتتاح وتأهبّوا لعمل تجربته.
من الخارج التفّ بعضُ الأساتذة حول المسرع ليناك 64 لوضْع دفقات البروتونات للعمل على الطاقة المنخفضة له حتى يطمئنوا عليه.
اعرف عمق البحر قبل أن تسبح فيه
تجربة الافتتاح
إنّ الهدف الآن هو فحص تركيبات FCC-2 وقدرتها على أداء عملها على أكمل وجه.
ليناك 64 والكواشف وشبكة الحوسبة وبقيّة أجزاء المصادم.
وهي تجربة فحص، ولذلك سيكون العمل عليه الآن بأقلّ طاقة ممكنة.
العالم كلّه الآن ينتظر أوّل تجربة له لتصلهم عبر شبكة حوسبة ممتدة لمعظم دول العالم، هم بالأساس لا يعتنون بالتجربة الأولى لعدم جدواها في تقديم جديد في الفيزياء، كما لا يعتنون بعمل ارتطامات ذات طاقة أقل من مائة تيرا إلكترون فولت والتي حققها مصادم سيرن FCC-1، ولكنّ أنظارهم تتطلع لإحصاء النتائج عندما يعمل بطاقة أعلى من هذه القيمة.
يتم دفع دفقات البروتونات أولاً من خلال ليناك 64 تستقبلها بعد ذلك مغانط عملاقة ذات حقول مغناطيسية هائلة قدرتها ستون تسلا.
بعد عدة خطوات تدخل الدفقات إلى داخل FCC-2 على هيئة قسمين، واحد في اتجاه عقارب الساعة والآخر عكسها، تتسارعا حتى تصلا إلى سرعة تقارب سرعة الضوء، ثمّ يحدث التصادم عند كواشفه.
تتحطم حزمتا البروتونات إلى جسيمات أصغر أثناء التصادم ويستطيع الكاشف رصد بعضها قبل أن تعاود تجميع نفسها من جديد، ثمّ ترسل البيانات إلى شبكة من الأنظمة الحاسوبيّة.
البروتونات التي لم تتصادم تظلّ سائرة حتى تصل إلى القسم المخصص بإخماد الحزم.
ومن بعد هذه التجربة تبيّن أنّ كل مكوناته تعمل بكفاءة عالية.
اِطمئنّ فهمان والرئيس مهديّ على حالة المصادم وتناقلتْ وكالة الأنباء العالميّة خبره بعد ذلك، وتناول الصحفيون الحديث مع فهمان والأساتذة الذين عاينوا التجربة، ودارتْ عدة حوارات تدور حول المصادم وماذا يمكن أن يقدّم من جديد، وكان من بين الأسئلة التي سُئلت لفهمان: »دكتور فهمان، هل تظنّ أنّ المصادم قد يفكُّ ألغاز نظريّة الأوتار الفائقة الخاصة بالأبعاد الكونيّة؟«
فردّ فهمان: »نظريّة الأوتار الفائقة منذ أن تمّ الكشف عنها والعلماء يحاولون إثباتها ولكنهم يفشلون في كل مرّة، لعلّ سبب فشلهم هو عدم توفر مصادم يعمل بطاقة كبيرة لينتج أصدقاء جددًا من الجسيمات. وكانوا يأملون الكشف عن جسيم الجرافيتون الافتراضيّ المسئول عن نقل الثقالة بيد أنّه كما قلتُ بأن قدرة المصادمات ضعيفة ولم تسعفهم لتحقيق آمالهم. أنا متأكد أنّ عبور الأبعاد التي أخبرتنا بها نظرية الأوتار تكمن في هذا الغرافيتون، وسأكتشفه إن شاء الله، سأكتشفه من أجل أن أحمي هذا العالم من الفناء.«
وانفضّ الاحتفال، الاحتفال بأعظم تكنولوجيا على أرض مصر.