الحرة
ثلاثة أيام واللبنانية ثريا فوّاز تبحث عن سلاحها الوحيد لمواجهة مشكلة في قلبها، لكن في النهاية خسرت معركتها قبل أن تحصل عليه، أطبقت عينيها للأبد بعدما أعادت تسليط الضوء على مشكلة قديمة متجددة في بلد تنخره الأزمات، ألا وهي فقدان الدواء من الصيدليات.
أطلت أزمة نقص الأدوية برأسها في السوق اللبناني منذ عام 2020، لتتعمق مع الأيام، لاسيما مع تخزين الأدوية من قبل محتكرين، وتهريبها لا بل حتى بيعها في السوق السوداء، قبل أن تصدر الحكومة في شهر نوفمبر الماضي قرارا رفع الدعم الجزئي والكلي عن معظم الأدوية، وذلك بعد التصريحات المتكررة لحاكم مصرف لبنان المركزي، رياض سلامة، بعدم توفر الدولارات اللازمة لاستمرار الدعم.
قرار الحكومة اللبنانية اتخذ في ظل العجز المالي، الذي يعاني منه البلد منذ عام 2019 من جراء الأزمة الاقتصادية، حيث اعتبرت منظمة العفو الدولية، في ديسمبر الماضي، أن "السلطات اللبنانية تتقاعس عن حماية الحق في الصحة والحياة للمواطنين في خضم أزمة مستمرة جعلت المرضى غير قادرين على تحمل تكاليف الأدوية الأساسية، أو الحصول عليها".
وأضافت المنظمة: "رُفع الدعم وارتفعت معه أسعار الأدوية في لبنان أربع مرات مقارنة بعام 2019 في بدايات الأزمة الاقتصادية، ولا يزال النقص في الأدوية شديدًا. على الرغم من أنّ الحكومة كانت تدرك ضرورة رفع الدعم، أقلّه منذ العام الماضي، إلا أنها تقاعست عن وضع خطة حماية اجتماعية لضمان استمرار توفر الأدوية الأساسية. وقد تحدثت منظمة العفو الدولية إلى 13 صيدلياً وطبيباً ومدير مستشفى، ومرضى يعانون من أمراض مزمنة أو أمراض أخرى، واتفقوا جميعاً على أنّ تأمينهم للمال لا يضمن حصولهم على الأدوية الأساسية".
مسألة حياة أو موت
فقدان الأدوية من الصيدليات دفع اللبنانيين لمحاولة تأمينها، سواء من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، عبر نشر ما يحتاجونه منها، أو اللجوء إلى أقارب ومعارف لهم في الخارج، وإلا لا سبيل أمامهم سوى التوقف عن تناولها، وبعد رفع الدعم اعتقد اللبنانيون أن الأدوية ستكون في متناول اليد، لاسيما مع الارتفاع الكبير في أسعارها، ليصدموا بالواقع، وبأن عدداً منها لا يزال مفقوداً، عدا عن أن أسعارها أصبحت كالبورصة، تختلف من صيدلية إلى أخرى.
واجهت ثريا ما يخشاه كل مريض لبناني، وهو عدم العثور على الدواء الذي يحتاجه، وبحسب ما قاله زوجها علي حسن لموقع "الحرة" "منذ فترة عانت زوجتي من تسارع في دقات القلب، وصف لها الطبيب دواء betaloc لتنظيمها، لكن عندما أرادت شراء عبوة جديدة منه لم تعثر عليه، وللأسف لا بديل له، بحثنا في كل الصيدليات، وبعد أن كانت تساعد المرضى بالعثور على دوائهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي عجزت وعجزنا عن تأمين دوائها، ثلاثة أيام لم تتناوله إلى أن حلت الكارثة أثناء تواجدنا داخل مطعم".
رئيس لجنة الصحة النيابية، عاصم عراجي، أكد في حديث لموقع "الحرة" أن "لبنان يواجه أزمة فقدان دواء كبيرة على الرغم من ارتفاع سعره"، شارحاً "للأسف يتم تقاذف المسؤوليات بين مصرف لبنان المركزي ومستوردي الأدوية، الذين يشيرون إلى أن لهم أموالاً مع المصرف والأخير يشدد على جدولته لها، وأحياناً يتحججون بأن المصرف لا يوقع الاعتمادات المطلوبة في وقتها، والأخير يؤكد التزامه بدفع الأموال المخصصة للدعم، وبعد عدة جلسات استجواب في لجنة الصحة النيابية للطرفين لم نصل إلى نتيجة".
ولفت عراجي إلى أن "مصرف لبنان يدعم شهرياً استيراد الدواء بـ35 مليون دولار، منها 25 مليون دولار للأدوية السرطانية، المستعصية والمزمنة، و10 مليون دولار للمستلزمات الطبية، حيث أن الدعم استمر مئة بالمئة على أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، أما أدوية الأمراض المزمنة فالرخيصة منها بقيت مدعومة بنسبة 25%، والمتوسطة 45% أما مرتفعة السعر فاستمر دعمها بنسبة 65%، وقد طالبنا بدعمها بشكل أكبر شرط وقف التهريب والتخزين، من خلال مراقبة الوزارات المختصة لذلك، لكن كان جواب المصرف المركزي أن لا أموال لديه للاقدام على ذلك".
كلام الدكتور عراجي، أكده نقيب الصيادلة جو سلوم، حيث قال "عدد كبير من الأدوية مفقود اليوم من الصيدليات اللبنانية، كل شيء يمكن التخلي عنه وتقنينه باستثناء صحة المواطن" مشدداً "لا يوجد دواء أساسي ودواء غير أساسي، فأي دواء هو مسألة حياة أو موت".
انتصار "الموت"
وعن أسباب فقدان الأدوية من الصيدليات قال سلوم لموقع "الحرة" "عدم ترشيد الدعم، وذهاب الأموال المخصصة لذلك هدراً، لنواجه الآن غياب التمويل وغياب السياسة الدوائية، نعم وزير الصحة الدكتور فراس أبيض يعمل جاهداً لتأمين الدواء، لكن المنظومة الدوائية كانت تحتاج الى معالجة جذرية منذ زمن، من خلال وضع خطة واضحة مستدامة، يترافق ذلك مع دعم الصناعة المحلية".
والأسبوع الماضي أعلن وزير الصحة العامة فراس أبيض أن "الانفراجة في أزمة الدواء باتت أكثر قربًا"، وفيما يتعلق بتوقيت ضخ الأدوية في السوق أكد "الأسبوع المقبل أو الذي يليه على أبعد تقدير".
وفي السادس من الشهر الجاري كشف أبيض أن "موضوع الدواء جرى حلحلته مع مصرف لبنان، وسنشهد انفراجاً على صعيد الدواء في الأيام المقبلة، حيث ستتوفر الأدوية بشكل كبير خلال الاسبوعين المقبلين، لكن ذلك لن يحل مشكلة السعر"، مشيراً إلى أن "القرارات الاخيرة المتخذة، ستفتح المجال لدخول أدوية جنريك، بجودة عالية وبأسعار تتحملها الناس، كما أننا سندعم مراكز الرعاية الصحية الاولية التي تقدم الدواء للمريض بشكل شبه مجاني".
وكانت ابنة صور تتناول الطعام مع عائلتها حين شعرت بآلآم في بطنها، وشرح علي "نحن وفي المطعم علمنا أن إحدى الصيدليات في الجنوب أمنّت الدواء لها بعدما طلبت من مريض سبق أن اشترى عبوتين منه اعادة واحدة، وعلى أساس أن نتسلمها في صباح اليوم التالي، لكن تفاجأنا بما حصل معها من جلطات دموية لم نتوقعها في حينه، وذلك بعد أن كانت تتبادل أطراف الحديث معنا، تضحك وتلتقط الصور الجماعية".
تم نقل الوالدة لثلاثة أبناء (أصغرهم يبلغ من العمر ثماني سنوات) إلى المستشفى، حاول الأطباء إنعاشها لكن الروح فارقت جسدها، وقال علي "ماذا عساي أن أعلّق بعد خسارتنا الكبيرة لانسانة متفانية، كرّست نفسها لبيتها وأولادها في بلد لا يقيم فيه المسؤولون أي اعتبار للمواطنين، ولا ألومهم وحدهم، بل كذلك ألوم الشعب لأنه غير جيد بحق بعضه البعض".
تقاذف المسؤوليات
وتواصل عراجي مع وزير الصحة الذي أطلعه على أن مشكلة فقدان الأدوية ستحل خلال الأسبوع الجاري، لكن كما قال "لا أعوّل كثيراً على مصرف لبنان ومستوردي الأدوية كونهم في السابق لم يلتزموا بوعودهم، فبعد أربعة أشهر من فقدان الأدوية من السوق أكدوا أنهم يحتاجون إلى أشهر مماثلة لتعبئته، ومع هذا لا نزال نواجه ذات المشكلة".
من جانبه أكد نقيب مستوردي الأدوية في لبنان، كريم جبارة، على أن "الأدوية المدعومة تحتاج إلى موافقة مسبقة من وزارة الصحة والمصرف المركزي اللذين يلتزمان بالمحفظة المحددة للأدوية والمقدرة بـ 25 مليون دولار، من هنا يحاولان ادارة المبلغ المخصص بأفضل طريقة ممكنة، حيث يقع على عاتقهما تحديد الأولويات، الكميات والأصناف التي يمكن لشركات الأدوية استيرادها".
وعند حصول المستورد على الموافقات المسبقة، يتواصل، كما قال جبارة لموقع "الحرة"، مع الشركات المصنّعة في الخارج لتأمين الشحنة في أسرع وقت ممكن، مع العلم أن المصرف المركزي لا يدفع الأموال إلى المستوردين، بل إلى المصنعين في الخارج".
لكن هل مبلغ الـ25 مليون دولار كاف لتغطية احتياجات اللبنانيين؟ عن ذلك أجاب جبارة "كلا، وإلا لما سمعنا عن مشكلة فقدان الدواء، ومع هذا لا يمكننا أن نلوم وزارة الصحة التي تحاول القيام بكل ما في وسعها ضمن المحفظة المتوفرة لديها"، وفيما إن كانت الأدوية غير المدعومة متوفرة جميعها قال "على الأرجح، وما لا يتوفر منها، هناك بديل عنها".
في حين لفت سلوم إلى أنه يسعى لتأمين البطاقة الدوائية "لضخ أموال داخل القطاع الصيدلاني من جهة، ومن أجل المحافظة على نوعية الدواء وجودته في لبنان من جهة أخرى"، وعن اختلاف سعر الأدوية بين صيدلية وأخرى أجاب سلوم "كصيدليات نلتزم بالمؤشر الصادر عن وزارة الصحة، لكن أحياناً قد يطلب الصيدلي دواء قبل صدور المؤشر، أي على السعر القديم، والنقابة تتأكد من ذلك من خلال هيئة التفتيش التابعة لها".
وفيما إن كان سلوم يخشى من أن تستفحل الأزمة خلال الأيام المقبلة، قال "أتمنى أن يحل الأمر سريعاً، يجري الحديث حالياً عن حلول واعتمادات جديدة، لكن كلها حلول مؤقتة وأعاود التشديد على ضرورة ايجاد حل نهائي".
وعن الحلول برأي الدكتور عراجي شرح "إذا لم يتم التوصل إلى استقرار سياسي فكل الحلول التي يتم اللجوء إليها ترقيعية، فعندما يصل المواطن إلى مرحلة يشتري فيها دواء السكري بـ600 ألف ليرة ودواء الالتهابات بـ400 ألف ليرة، يعني أننا نعاني من عدم استقرار صحي واجتماعي، وللأسف أصبح الدواء يسعّر بحسب سعر صرف الدولار من هنا نجد بورصة أسعار تختلف من صيدلية إلى أخرى، الأمر يتطلب تشديد الرقابة على الصيدليات، وقد سمح وزير الصحة لنقابة الصيادلة القيام بذلك، إلا أن بعض الجهات رفضت".
أما جبارة فأشار إلى أنه "سبق أن شددنا على ضرورة البحث عن تمويل إضافي لحاجة السوق، من خلال التواصل مع المعنيين في الخارج، ومع الصناديق الداعمة للبنان، ليس فقط لقطاع الدواء بل لكل القطاع الصحي" مشدداً "ليس بالضرورة أن يكون التمويل لاستيراد الأدوية، بل من الممكن اعطاء المال مباشرة للمريض كي يتمكن من شراء الدواء بعد رفع الدعم عنه، أو اعطائه للجهات الضامنة، أو كما يحصل الآن تخصيصه لعملية الاستيراد، لكن ما هو أكيد أننا نحتاج الى تمويل".
وشدد جبارة "الوضع ليس سهلاً، لبنان يمر بأزمة اقتصادية، ولا اختلاف بين عدم قدرة المريض على دفع الفاتورة الاستشفائية وبين عدم قدرته على شراء الدواء".