حين تثير الرائحة الذكريات: بحث جديد يقدم قرائن عن كيف ترتبط الرائحة بالذاكرة في الدماغ – ترجمة عدنان أحمد الحاجي
When a smell evokes a memory: new research offers clues about how the two are linked in the brain
(بقلم: مايكل شموكر – Michael Schmuker)
في حلقة من حلقات المسلسل التلفزيوني الشهير المرآة السوداء (Black Mirror) والتي سُميت بالتمساح (Crocodile) (انظر 1)، طلب أحد المحققين من أحد الشهود شم قارورة جعة. والهدف من ذلك الطلب كان تجديد / انعاش ذاكرتها بمسرح الجريمة (وذلك لأن الجريمة المزبورة قد وقعت بالقرب من مصنع جعة).
قد لا تكون هذه الممارسة حرفيًا ممارسة عادية، لكن حاسة الشم عند البشر معروفة بقدرتها على اثارة الذكريات. كلنا نعرف الشعور. نفحة من نفحات رائحة معينة يمكن أن تعيد ذاكرتك إلى مطبخ جدتك، أو ليلة مارست فيها عملًا معينًا أو إلى شاطئ بحر حين كنت هناك.
خذ في الاعتبار “تسويق الروائح” ، حيث يبث مصممو الماركات التجارية “الروائح المميزة” ، على سبيل المثال في متاجر الأزياء وردهات الفنادق ، لتقوية قدرة التعرف على علامتهم التجارية في جميع أنحاء العالم.
لطالما تساءل باحثو علم الأعصاب الذين يدرسون حاسة الشم عن العلاقة بين الحاسة والذاكرة (2). هل هذه العلاقة بين الذاكرة والشم ناتجة عن طريقة ترابط الدارات العصبونية في الدماغ؟. كشفت دراسة نُشرت مؤخرًا في مجلة نتشر (Nature) عن اكتشاف جديد مهم باتجاه الإجابة الذي طال انتظارها على هذا السؤال (3).
قبل أن نبدأ في هذه الدراسة، بعض المعلومات الأساسية عن كيف يساعدنا الدماغ على حاسة الشم. عصبونات المستقبلات في الأنف تستشعر أولًا جزيئات الرائحة. ترسل العصبونات (الخلايا العصبية) معلومات عن هذا الاستشعار بالرائحة أولاً إلى البصلة الشمية (4)، وهي بنيوية دماغية بحجم طرف الإصبع تقع فوق تجويف الأنف.
ثم ترسل البصلة الشمية هذه الإشارات إلى بنيوية دماغية أخرى تسمى القشرة الكمثرية (5). يُعتقد أن التعرف على الرائحة يحدث في القشرة الكمثرية – أي أننا نتعرف على مصدر الرائحة المحتمل ، هل هي، مثلًا، تفاحة أو موزة أو عشب مجزوز حديثًا؟
ماذا فعل الباحثون
لدراسة كيف يدمج الدماغ بين المعلومات المتعلقة بحاسة الشم والمعلومات المكانية، استخدمت سيندي بو (Cindy Poo) وزملاؤها في مركز شامباليمود للمجاهيل (Champalimaud for the Unknown) في البرتغال ستة فئران لإكمال مهمة تنقل عبر متاهة.
كان على الفئران التنقل بشكل متكرر في متاهة على شكل صليب لها أربع ممرات، كما هو موضح في الفيديو أدناه ابتداءً من حوالي دقيقتين ونصف الدقيقة. في بداية كل تجربة، ضوء يرشد الفأر في المشي في أحد الممرات، حيث سيتعرض بشكل عشوائي لواحدة من أربع روائح مميزة (حمضيات أوعشب أو موز أو خل). مكان الماء المستخدم كمكافأة يعتمد على الرائحة التي تعرض لها الفأر.
على سبيل المثال، رائحة الحمضيات تعني أن مكافأة الماء موجودة في نهاية الممر الجنوبي. لو تعرض الفأر لرائحة حمضيات في الممر الشرقي، فسيتعين عليه الذهاب جنوبًا للحصول على المكافأة. لو شم الرائحة في الممر الجنوبي في البداية، فعليه البقاء في مكانه ليحصل على المكافأة. كانت الفكرة أنه مع الممارسة، ستشير رائحة معينة للفأر موقع المكافأة.
وُضعت في المناطق المحيطة بالمتاهة علامات مرئية بارزة بحيث يتمكن الفئران أيضًا من توجيه نفسها بناءً على تلك العلامات. أما نقطة انطلاق الفئران فكانت مختلفة في كل تجربة. ولو كانت نقاط الانطلاق ثابتة، لكان بإمكانها من الناحية النظرية، حفظ تسلسل المنعطفات فقط لتجد الممر الصحيح، ولا تحتاج إلى استخدام أي ذاكرة مكانية على الإطلاق. هذا يعني أن إكمال المهمة بنجاح يعتمد على الجمع بين التنقل المكاني وحاسة الشم.
بعد حوالي ثلاثة أسابيع من التدريب، كان أداء الفئران جيدًا؛ حيث كانت قادرة على تحديد مكان الماء فيما يقرب من 70٪ من المحاولات. يشير هذا إلى أن الفئران كانت قادرة على أن تجمع بين خريطتها الداخلية للمحيط وبين مواقع الروائح لتحديد موقع المكافأة.
التأمل في نشاط الخلايا العصبية
تُعرف الخلايا العصبية في الحُصين، وهي جزء الدماغ المعني بالذاكرة والتنقل، بأنها تعمل باسم “خلايا المكان” (6). هذه الخلايا هي التي تصبح نشطة في مكان معين في المحيط (7)، مما يسمح لنا بالعثور على الأشياء. توجد خلايا مماثلة أيضًا في جزء آخر من الدماغ تسمى بالقشرة المخية الأنفية الداخلية.
الاكتشاف الأكثر إثارة للدهشة في الدراسة الجديدة هو أن مثل هذه الخلايا الانتقائية للموقع لا توجد فقط في الحُصين والقشرة الشوكية الداخلية (8) ، ولكن أيضًا في منطقة الدماغ المرتبطة بشكل أساسي بالوظيفة الشمية، أي القشرة الكمثرية، وهي المنطقة الذي يُعتقد أنها المسؤولة الأولى عن التعرف على الرائحة.
رصد الباحثون في الدراسة النشاط الكهربي للخلايا العصبية في هذا المنطقة [القشرة الكمثرية]. والمثير للدهشة أنهم وجدوا أن حوالي 30٪ فقط من الخلايا العصبية في هذه المنطقة من أدمغة الفئران استجابت لروائح معينة. و 30٪ أخرى من الخلايا العصبية أصدرت فعل جهد (fired) استجابةً لرائحة وموقع معينين.
نسبة الـ 40٪ المتبقية من الخلايا العصبية النشطة لم تستجب لروائح معينة على الإطلاق، بل بالأحرى استجابت إلى المواقع التي كانت الفئران قد شمّت فيها الروائح سابقًا. ستبدأ هذه الخلايا العصبية الانتقائية للموقع في اصدار فعل جهد عندما كانت الفئران على وشك الدخول في الممر، قبل أن تصادف أي رائحة.
بعد ذلك أراد الباحثون معرفة ما إذا كان الحُصين والقشرة الكمثرية “يتواصلان” مع بعضهما البعض حين كانت الفئران تتنقل في المتاهة بحثًا عن موقع الماء. ووجدوا أن الخلايا في كلا المنطقتين تصدران فعل جهد بشكل متزامن حين كانت الفئران تتنقل في المتاهة.
إذًا ماذا نستفيد من هذه المعطيات؟
تظهر هذه النتائج أن جهاز حاسة الشم قد يلعب دورًا في التنقل المكاني (9) ، وأن الذاكرة المكانية (10) والمعلومات الشمية يلتقيان في القشرة الكمثرية. ولكن لماذا نشأ وتطور الدماغ ليمثل الموقع والرائحة في نفس المنطقة؟
قد يكون الجواب في أن الروائح هي قرائن مفيدة جدًا على العثور عما نبحث عنه. على سبيل المثال، رائحة غابة الصنوبر تختلف عن رائحة المروج، ولجحر الثعلب رائحة مختلفة عن رائحة جحر الفأر. القاعدة تنطبق حتى في البيئات التي صنعها الإنسان: رائحة السكك الحديدية تحت الأرض مختلفة عن رائحة السوبرماركت، وكذلك رائحة المكتب تختلف عن رائحة المطعم.
لذلك قد تكون دارت أدمغتنا العصبية مصممة لإقران الروائح بالأماكن لأن هذا كان مفيدًا في ماضينا التطوري.
أجريت هذه الدراسة على الفئران التي تعتمد على حاسة الشم لتساعدها على التنقل في الأماكن أكثر مما يستخدمها الناس، لأن ادراكنا الحسي تهيمن عليه حاسة البصر. لكن هذه النتائج تعطي رؤى جديدة عن كيف ربما ترتبط حاسة الشم والذاكرة المكانية في دماغ الإنسان.
مصادر من داخل وخارج النص:
1- https://www.vox.com/culture/2017/12/...eason-4-review
2- https://www.cell.com/trends/neurosci...showall%3Dtrue
3- https://www.nature.com/articles/s41586-021-04242-3
4- https://www.britannica.com/science/olfactory-bulb
5- https://www.sciencedirect.com/topics...iriform-cortex
6- “خلية المكان (Place cell) هي نوع من الخلايا العصبية الهرمية في الحصين تصبح نشطة عندما يدخل الحيوان مكان معين في البيئة؛ ويعرف هذا المكان كحقل المكان. وهناك خلية مكان معين واحد فقط، أو عدد قليل، وحقول مكان في بيئة معملية صغيرة نموذجية، ولكن أكثر في منطقة كبيرة. ليس هناك تضاريس واضحة لنمط الحقول مكان، على عكس مناطق أخرى من الدماغ مثل هي خلايا المجاورة المكان المرجح لديك حقول بعيدة وتلك المجاورة في بيئة مختلفة، وعادة ما يقرب من نصف الخلايا مكان سوف لا تزال لديها حقول المكان، ولكن هذه سوف تكون في أماكن جديدة لا علاقة لها بمواقعها السابقة – القشرة البصرية”. مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/خلية_المكان
7- https://www.nobelprize.org/prizes/me.../2014/summary/
8- “القشرة الشمية الداخلية هي منطقة من الدماغ تقع في الفص الصدغي من الجهة الإنسية وتعمل كمحور لشبكة واسعة تخدم الذاكرة والملاحة المكانية والإحساس بالوقت، كما تُمثل الواجهة الرئيسية بين الحصين والقشرة الجديدة، ويلعب نظام الحصين-القشرة الشمية الداخلية دورًا مهمًا في الذكريات التعريفية (السيرة الذاتية، العرضية، الدلالية) وخاصة في الذاكرة المكانية بما في ذلك تكوين الذاكرة ، وتعزيزها، وتحسينها أثناء النوم. تعتبر القشرة الشمية الداخلية مسؤولة أيضًا عن المعالجة المسبقة لإشارات الإدخال في منعكس الغشاء الراف (في الحيوانات) كاستجابة للإشراط الكلاسيكي، ويحدث الترابط بين الإشارات القادمة من العين والأذن في القشرة الشمية الداخلية”. الرابط: https://ar.wikipedia.org/wiki/قشرة_شمية_داخلية
9-” الملاحة المكانية هي عملية معرفية معقدة تعتمد على حواس متعددة تتكامل وتُعالج بواسطة شبكة واسعة من مناطق الدماغ”. ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان: https://www.nature.com/articles/s41598-021-92246-4
10- “الذاكرة المكانية تتعلق بتخزين واسترجاع المعلومات داخل الدماغ اللازمة لتخطيط الطريق إلى الموقع المطلوب وتذكر مكان وجود الشيء المقصود أو مكان وقوع الحدث. إن معرفة المرء بالطريق في المحيط واتجاهه وتذكره لأماكن وجود الأشياء ضمن ذلك المحيط هي عمليات يومية أساسية تعتمد على الذاكرة المكانية”. ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان: https://www.britannica.com/science/spatial-memory
المصدر الرئيس:
https://theconversation.com/when-a-s...e-brain-174477