فئران الخلد شبه العمياء "ترى" الحقول المغناطيسية بأعينها


أثار الخلد أنسيل حيرة العلماء لأنه دائما ما يحفر جحوره بعناية في الاتجاه المغناطيسي الجنوبي الشرقي (هيديستر-ويكيبيديا)
في كآبة الأنفاق الجوفية، تحفر فئران الخلد الصغيرة جحورها المخبأة بأمان في أعماق الأرض بعيدا عن أعين المتطفلين. ومع أنها لا تستطيع الرؤية، فإن لديها تفضيلا فطريا لجعل جحورها في القطاع الجنوبي الشرقي من ساحة دائرية.


سبب حيرة العلماء

فأر الخلد أنسيل (Fukomys anselli) هو نوع من القوارض موائله الطبيعية في غابات السافانا الرطبة، وهو مستوطن في زامبيا، ويتغذى على الدرنات والجذور النباتية.
والخِلد نوع اجتماعي من الحيوان شديد التعاون، يعيش في مستعمرات من حوالي 10 أفراد، ويبني أطول نفق معروف لأي حيوان ثديي يصل طوله إلى 2.8 كلم لمستعمرة واحدة من 10 أفراد فقط.
إن عيون فأر الخلد أنسيل لا تكاد تبصر، إذ لا يمكنها رؤية الألوان أو تكوين صور حادة، وتتمثل مهمتها الرئيسية في التمييز بين الضوء والظلام، ولكن الغريب الذي أثار حيرة العلماء أن هذا النوع من فئران الخلد دائما ما يحفر جحوره بعناية في الاتجاه الجنوبي الشرقي المغناطيسي.
وحتى في الظلام الدامس، يبدو أن هذه القوارض قادرة على استشعار وتحديد هذا الاتجاه، ولا يزال سبب ذلك غير واضح.
ومؤخرا، اكتشف باحثون من جامعة ديسبورغ إيسن (University of Duisburg-Essen) في ألمانيا، أن العيون ضرورية للاستقبال المغناطيسي في هذه الثدييات، وأن إزالة العيون منها لا تؤدي إلى تغييرات في السلوكيات الروتينية، بما في ذلك الحركة والتغذية والتواصل الاجتماعي.
وقد نُشرت دراستهم في دورية "جورنال أوف ذا رويال سوسيتي إنترفيس" (Journal of the Royal Society Interface) يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي، وتوفر نتائجهم دعما قويا للفرضية القائلة إن فئران الخلد ترى المجالات المغناطيسية بأعينها الدقيقة.


قلع العيون

تحتوي هذه الكائنات الغامضة على ذيل صغير قصير في أحد طرفيها، ولها أسنان كبيرة تبرز على الشفاه المغلقة في الطرف الآخر، ويوجد فوق أسنانها عيون صغيرة يبلغ قطرها 2 ملم فقط.
هذه العيون لا تستطيع رؤية الكثير، بل لا دور في الرؤية غير تحديد الفرق بين الضوء والظلام.
وقال الباحث الرئيسي في الدراسة كاي كاسبار طالب الدكتوراه في قسم علم الحيوان العام بجامعة ديسبورغ إيسن الألمانية، لمجلة نيو ساينتست (New Scientist) "إن الخلد لا يتوجه بالرؤية.. الرؤية غير مهمة بشكل أو بآخر بالنسبة له".
وقد وجدت دراسة سابقة أن تعطيل وظيفة العين باستخدام التخدير دمّر قدرة فئران الخلد على بناء جحورها في مواقعها، ولكن هذه الدراسة لم تتمكن من استبعاد أن التخدير قد دخل مجرى الدم وأثر على أعضاء أخرى، لذلك، قرر كاسبار وزملاؤه تجربة نهج أكثر تحديدا لتأكيد موقع المستقبلات المغناطيسية.
ولسوء حظ خلد المختبر، تضمن ذلك إزالة أعين بعض الأفراد الخاضعة للدراسة جراحيا، وهو ما يعرف بعملية "قلع العين"، ويتم فيها إزالة العين مع ترك عضلات العين والمحتويات المدارية المتبقية سليمة.



يبني فأر الخلد أنسيل أطول نفق معروف لأي حيوان ثديي، ويصل طوله إلى 2.8 كلم لمستعمرة واحدة من 10 أفراد فقط (يواكيم مولر-فليكر)


حقول مغناطيسية

لقد عرفنا منذ فترة طويلة أن الحيوانات مثل الطيور يمكنها استشعار الحقول المغناطيسية، لكن الآليات البيولوجية الكامنة وراء هذا السلوك لا تزال لغزا إلى حد كبير.
واقترحت دراسات سابقة عن فئران الخلد أنها تستخدم المجال المغناطيسي للأرض للتوجيه، وأن مستقبلاتها الحسية المغناطيسية تقع في العين.
ولاختبار هذه الفرضية، قام الباحثون بتقييم الاتجاه المغناطيسي في فئران الخلد بعد الإزالة الجراحية لأعينها، مع مقارنتها بمجموعة من فئران الخلد الطبيعية (كمجموعة ضابطة).
وأظهرت الحيوانات الضابطة تفضيلا كبيرا لحفر جحورها في الجنوب الشرقي المغناطيسي، وعلى النقيض من ذلك، قامت فئران الخلد المنزوعة العيون بحفر جحورها في اتجاهات مغناطيسية عشوائية، مما يشير إلى ضعف إحساسها المغناطيسي.
وأوضح الباحثون أن هذا الإحساس بالمجال المغناطيسي للأرض يعمل بشكل مستقل عن الضوء، ويتأثر بالنبضات المغناطيسية القوية، ولكن ليس بالترددات الراديوية.



تستخدم فئران الخلد مجال الأرض المغناطيسي للتوجيه، وتقع مستقبلاتها الحسية المغناطيسية في العين (هيديستر-ويكيبيديا)


نتائج الدراسة

وأكدت الاختبارات بعد 1.5 سنة من العملية الجراحية، أن السلوكيات اليومية للأفراد المنزوعة العيون لا تختلف عن سلوكيات فئران الخلد الأخرى بالمختبر. وكتب الفريق في ورقته البحثية "كانت جميع الحيوانات التي تم استئصال عيونها أفرادا منغمسين تماما في مجموعات عائلاتهم، والعديد منها تمت تربيتها بنجاح".
وبمجرد إثبات ذلك، أنشأ الباحثون أرضا متداخلة لناء الجحور حيث يمكنهم التحكم بدقة في المجال المغناطيسي. ثم اختبر الفريق بناء جحر الحيوان في 4 اتجاهات مختلفة للمجال المغناطيسي، لاستبعاد الاستجابات القائمة على التضاريس.
ووجدوا أن الحيوانات الضابطة أظهرت تفضيلها الواضح المعتاد لبناء جحورها في الجزء الجنوبي الشرقي المغناطيسي، في حين أن تلك التي لا عيون لها قامت ببنائها في مواقع عشوائية.
وكتب الفريق "خلصنا إلى أن إزالة العين أدت إلى ضعف دائم في الشعور المغناطيسي.. دراستنا هي الأولى من نوعها للتعرف على العضو المغنطيسي في الثدييات".
وتشير الدلائل حول المستقبلات المغناطيسية لفئران الخلد إلى أن آليتها تعتمد على "المغنتيت" أو أكسيد الحديد الأسود.
ويقترح كاسبار وفريقه فحص العينين عن كثب تحت المجهر الإلكتروني ومن خلال التحليل الطيفي، للعثور على المستقبلات المغناطيسية المراوغة لهذه الثدييات العجيبة.