هَدْرُ سَبِيْلٍ بَيْنَ وَعْدٍ ونُظُمٍ ‎‎
ناجي وهب الفرج 23 / 1 / 2022م - 2:12 م
يتنقلُ وَعْدٌ بَيْنَ ديوانياتِ حَيّهُم، يتوَجَّسُ أقْرَانهُ منهُ خِيْفَةً، ويترقبونَ مِنْهُ افتعالَ مشكلةً مِنْ لا شيء في كلِ مرةٍ يَكُونَ حاضرًا معهم.
جرتْ عادةُ الشبابِ الذينَ يَقُطُّنّونَ نفسَ الحي الذي يسكنهُ وَعْدٌ أَنْ يخرجوا كلَ يومِ خميسٍ إلى ممارسةِ هوايةِ صيدِ السمكِ، وعادةً ما يرافُقهم وَعْدٌ مع أخيهِ نُظُمٍ.
نُظُمٌ شابٌ صبورٌ مكافحٌ، يتفهمُ غيرهُ، ويحترمُ خصوصياتِ الآخرينَ، يفي بالتزاماتهِ؛ سواءً كَانَتْ هَذِهِ الالتزامات تخصُ أسرتهِ أو أصدقاءهِ، وكل مَنْ التزمَ معهُ بعهدٍ أو وعدٍ.
نُظُمٌ يؤمنُ ويتمسكُ بمقولة ”تنتهي حريتكَ عندما تبدأ حريةُ الآخرين“؛ تبقى الخصوصيات محفوظةً، وإِنْ كَانَ هنالكَ تقاطعٌ وتشاركٌ فيكونَ فيهِ فائدةٌ للجميعِ.
نُظُمٌ يحاولُ أَنْ يحتوي أخاهُ وَعْدًا، ويشركهُ معهُ في كلِ طلعاتهِ مع أصدقاءهِ.
نُظُمٌ هو الأخُ الأصغرُ لوَعْدٍ، لكنْ خبرةُ نُظُمٍ ومهاراتِ التعاملِ لديهِ تفوقُ وَعْدًا بمراحلٍ.
وَعْدٌ مغلقٌ على نفسهِ؛ لا يرى الصوابَ إلا في رأيهِ، يقفزُ على كلِ الاعتباراتِ النفسيةِ للأشخاصِ ولا يراعيها، لا توجدُ لهُ ضابطةٌ تحكمُ تصرفاتهُ ينتقل مِنُ الغضبِ إلى الفرحِ بسرعةٍ مذهلةٍ وبالعكسِ.
نُظُمٌ يدركُ تمامًا ما عليهِ وَعْدٌ مِنْ صفاتٍ، ويسعى جاهدًا لاحتوائهِ، وتغييرِ تلكَ الحديةَ في الكلامِ والتصرفاتِ لديهِ، فهو يرى نفسهُ في لحظةٍ مَا قَدْ حققَ إنجازًا مُعَيْنًا مع أخيهِ، لَكِنْ سُرعانَ مَا يَعُودُ أخوهُ إلى سابقِ عهدهِ فيغلبُ طبعهُ تطبعهُ الذي كَانَ عليهِ.
اصطحبَ نُظُمٌ أخاهُ وَعْدًا في نزهةٍ مع بعضِ الأصدقاءِ لصيدِ السمكِ في ليلةٍ مالَ الجو فيها إلى البرودةِ، أثرَ وقللَ مِنْ فرصةَ اصطيادِ الكثيرِ مِنْ الأسماكِ، لَكِنْ كَانَ صيدهم إلى حدٍ ما مقبولاً، لم يتمكنْ وَعْدٌ مِنْ الصيدِ وكانَ حظهُ الأقلَ بينَهم، أدركَ نديمٌ صَاحِبْ أخيهِ نُظُمٍ ذلكَ وبادرَ وأعطاهُ مِنْ حصتهِ وأكملَ لهُ؛ حتى تتساوى حصتهُ مع الباقيينَ ولا يشعرُ وعدٌ بالحرجِ والنقصِ مِنْ ذلكَ.
قَبِلَ وَعْدٌ ذلكَ مِنْ نديمٍ بتذمرٍ لمْ يظهرهُ في حينهِ دُونَ أنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ شكرًا لفعلِ نديمٍ النبيلِ، تدراكَ نُظُمٌ تصرفَ أخيهِ وقامَ بتقديمِ الشكرَ لنديمٍ.
عاد الأخوان إلى منزلهما بتسارعٍ، لعلهما يدركانَ عَمَتَهَما التي أتتْ لِزَيْارَتِهم بعدَ غيابها عَنْهم سنينًا في الغربةِ. كانتْ عمتهما تتفقدُ أحوالهم مِنْ حينٍ لآخر، كانَ هنالكَ بونٌ شاسعٌ بينَ ردةِ التفاعلِ بينَ وَعْدٍ وأخيهِ نُظُمٍ.
نُظُمٌ لَهِفٌ لرؤيتها بينما وَعْدٌ لمْ يعرْ هذا الأمر اهتمامًا يذكر، هكذا هو وَعْدٌ لمْ يكنْ يديرُ بالاً لكلِ مَنْ حولهِ.
في صباحِ اليومِ التالي تعرضَ نُظُمٌ لانزلاقٍ أثناءَ دخولهِ لدورةِ المياهِ، تسببَ ذلكَ في انكسارٍ في رجلهِ، اقعدهُ الفراشَ لمدةِ شهرينِ متتاليينِ.
أحسَ وَعْدٌ بالغربةِ لغيابِ أخيهِ عنهُ، جعلتهُ يفكر مليًا في أَنْ يعيدَ ترتيبَ أوراقهِ، فقدْ لاقى صدودًا مِنْ أقرانهِ في ظلِ غيابِ أخيهِ عنهُ، فقد كَانَ أخوهُ نُظُمًا مَنْ يُغَرْبِلُ لهُ علاقاتهِ مَعَ مَنْ حولهِ، فقد أدركَ مدى حاجتهِ لأخيهِ.
أزدادَ وَعْدٌ قُرْبًا مِنْ أخيهِ في فترةِ مرضهِ، وأحسَ نُظُمٌ بهذا، وتعمقتْ المشاعرُ بينهما، فوجد نُظُمٌ فرصةً ليعمقَ هذا الارتباط بينهما.
اتفقَ نُظُمٌ ووَعْدٌ على الترتيبِ بعدَ شفائهِ بالقيامِ بزيارةٍ مَعَ عمهم ثامرٍ إلى مجلسِ الشيخِ نصَّار الذي كَانَ يَسَكُنَ في أطرافِ المدينةِ؛ والذي أُشْتُهِر بالحكمةِ والسماحةِ والرويةِ والعلمِ والفراسةِ ومحبةِ الجميعِ لهُ والاستماعِ لتوجيهاتهِ.
تشافى نُظُمٌ مِنْ علتهِ، واصطحبهما العمُ ثامرُ بعدَ ذلكَ إلى مجلسِ الشيخِ، وعند وصولهم أخذَ وَعْدٌ بتأملِ أثاثِ مجلسِ الشيخ البسيط والمتواضعِ، وأثيرتْ في بالهِ تساؤلات كيف لهذا الرجل أَنْ يمتلكَ قلوبَ كلِ هؤلاءِ الناسِ؟!
مَا هي إلا لَحَظَاتٍ وإذا بالشيخِ نصَّار يدخلُ المجلسَ ويُبَادِرُهُم بالتحيةِ والسلامِ بصوتهِ الرخيمِ، تقدمَ الشيخُ نَحو وَعْدٍ بوقارٍ وربتَ على كتفيهِ، أجلسْ يا وَعْدُ، تقاذفتْ الافكارُ وَعْدًا. ماذا سيقولُ لنا الشيخُ مِنْ كلماتٍ.
لم ينطقْ الشيخُ ببنتِ شفةٍ، وأومأ لهم بالحديثِ عَنْ أحوالهم. وبعد أنْ انتهى الجَمِيعُ مِنْ الحديثِ، بادرَ عمهم ثامرُ بالطلبِ مِنْ الشيخِ بإسداءِ توجيهاتهِ لهم.
فقالَ الشَّيخُ: كلُ الدِّينِ المُعَاملَةُ وكفى. اخْتَزَلَتْ إجَابةِ الشيخ كُلَ تَسَاؤلاتِ وَعْدٍ، خيرُ الكلامِ ما قلَّ ودلَّ، تعلقَ قَلْبُ وَعْدٌ بِطَرِيقَةِ الشيخِ، عاودَ وَعْدٌ زياراتهِ للشيخِ مِمِا شَكَّلَ لهُ بدايةُ هِدَايةِ طَرِيقٍ بدلَ هَدْرِ سَبِيلٍ كَانَ عليهِ