نور الشريف هو الفنان الأكثر إخلاصا لملحمة "الحرافيش"، جسّد شخصية بطلها في فيلمي "المطارد" و"أصدقاء الشيطان".


الأديب المصري نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1988 (مواقع التواصل الاجتماعي) "في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرّات الموعودة لحارتنا".
هكذا يستهل نجيب محفوظ رواية الحرافيش، لينطلق بهذه الفقرة إلى عالم ساحر كأنه ينتمي لعوالم "ألف ليلة وليلة"، وإن كانت "ألف ليلة" تقدم عشرات القصص التي يمكن اجتزاؤها وتقديمها سينمائيا ودراميا، فهل صمدت "الحرافيش" بقصصها المتعددة في تقديم جزء منها سينمائيا؟
لا يزال الكثير في جعبة أديب نوبل نجيب محفوظ الذي تحلّ ذكرى ميلاده اليوم في 11 ديسمبر/كانون الأول 1911، وقبل عام أعلن ورثته توقيع عقود لتحويل أشهر قصصه "أولاد حارتنا" و ملحمته الخالدة "الحرافيش" إلى أعمال درامية، وإذا كانت الرواية الأولى تعدّ خطا أحمر شائكا منع نشرها في مصر على مدى عقود، ومن ثم فإن تحويلها إلى عمل درامي يصبح أكثر صعوبة، فإن الملحمة الضخمة كانت أكثر حظا بتحويلها مرارا وتكرارا في أعمال سينمائية شهيرة وتلفزيونية، لكنها تبقى مادة خصبة للمزيد والمزيد، فما قُدّم لم يرق لمستواها الأدبي.
الرواية التي نشرها محفوظ عام 1977 تناولت حكايات عائلة الفتوة عاشور الناجي في 10 فصول، تمتد على 10 أجيال في حارة مصرية في قلب القاهرة في زمن غير محدد.
الملاحظ أن المخرجين قدموا أعمالهم السينمائية بتناول قصة واحدة من قصص الملحمة، وهو ما يفقدها ترابطها وتسلسلها بين القصص العشر في "الحرافيش"، ويجعلها كأنها قصة مستقلة، فهذه القصص وإن كانت تدور في أجيال متتالية وأزمنة متلاحقة إلا أن الحكاية واحدة والمكان واحد.
هذه هي قاهرة نجيب محفوظ، وهنا الحارة المصرية بفتواتها وصراعاتهم بالنبوت والتنافس على الفتوة الذي يهتف له الجميع.. أجواء محفوظية معتادة، لكنها في "الحرافيش" تتخذ بعدا أبعد بهذه القصص العميقة الممتدة عن حكاية عاشور الناجي وأبنائه وأحفاده وزوجاته ونسله.



رواية الحرافيش ملحمة ضخمة كانت أكثر حظا بتحويلها مرارا وتكرارا في أعمال سينمائية وتلفزيونية شهيرة (مواقع التواصل الاجتماعي)


السينما والحرافيش

انتظر المخرجون السينمائيون 8 سنوات كاملة كأنهم يستوعبون أحداث الملحمة الفلسفية المعقدة، حتى توالت أعمالهم السينمائية الواحد وراء الآخر منذ منتصف الثمانينيات.
في عام 1985 قدم الفنان نور الشريف مع المخرج سمير سيف فيلم "المطارد" عن الحكاية الرابعة من الملحمة بالعنوان نفسه، ممثلا شخصية سماحة الناجي الذي يهرب من حكم المؤبد ليسقط في الأيام الأخيرة قبل سقوط العقوبة.
وفي العام نفسه قدم المخرج حسام الدين مصطفى فيلم "شهد الملكة"، من بطولة نادية الجندي وفريد شوقي وحسين فهمي وسعيد صالح، عن الحكاية السادسة من الملحمة، ويحكي قصة "زهيرة" الفتاة الفقيرة الطموحة التي تتخلص من زوجها الفرّان وتنطلق في عالم البحث عن رجال أفضل وأكثر سطوة وقوة، وغلب على الفيلم الطابع التجاري المميز لأفلام "نجمة الجماهير" (نادية الجندي) التي كانت تحقق أعلى الإيرادات في عقد الثمانينيات.
وفي العام التالي عاد المخرج نفسه للملحمة من جديد بفيلم "الحرافيش"، من بطولة محمود ياسين وصفية العمري وممدوح عبد العليم وليلى علوي، مقدما الحكاية الثالثة "الحب والقضبان" حيث تتسبب امرأة خبيثة في الفراق بين شقيقين.
وقدّم فيلم "التوت والنبوت" الحكاية العاشرة من "الحرافيش"، من بطولة عزت العلايلي وحمدي غيث وأمينة رزق وتيسير فهمي ومحمود الجندي، ومن إخراج نيازي مصطفى، وقصة أخرى عن الثورة ضد الفتوة الظالم.


الجوع

كما قدمت سعاد حسني ومحمود عبد العزيز ويسرا مع المخرج علي بدرخان فيلم"الجوع" (1986)، حيث تحضر امرأة لثورة عارمة ضد الفتوة الظالم.واجه علي بدرخان اتهامات بأنه اقتبس فيلم "الجوع" من ملحمة الحرافيش، من دون أن يذكر ذلك صراحة، فكان جوابه أنه كانت لديه الرغبة فعلا في إخراج جزء من الحرافيش، ينتجه يوسف شاهين، لكنه بقى في حيرة، كيف يقتبس قصة واحدة من قصص الملحمة التي بدت له قصة واحدة؟
يقول بدرخان "بعد ذلك بدأت ووجدت أن الموضوع لا يتجزأ ولا يمكن تصوير جزء منفصل، الحرافيش مجموعة حكايات، نعم، إنها عمل واحد متكامل، أنا متأثّر بالحرافيش ولا أنكر أنها أعجبتنى، لكن إذا أخذت جزءًا منها فأنا أشوّهها، وذلك معناه أني لا أفهم نجيب محفوظ، وأيضًا لم أفهم الحرافيش كعمل أدبي متكامل".


أصدقاء الشيطان

بينما صدرت هذه الأفلام الخمسة في عامين فقط، جاء الفيلم السادس عام 1988 بعنوان "أصدقاء الشيطان"، من بطولة نور الشريف وإخراج أحمد ياسين عن الحكاية السابعة "جلال صاحب الجلالة"، مجسّدا شخصية الفتوة الذي تموت زوجته، فيخشى الموت بشدة، وينطلق للبحث عن طريقة للخلود مستخدما السحر والجن.
يعلّق الكاتب أحمد عبد المنعم أن "أصدقاء الشيطان" لم يستطع تقديم الحكاية الأكثر فلسفة بين قصص الحرافيش، ولم ينجح في نقل الأسئلة الوجودية التي تطارد البطل وتكاد تصيبه بالجنون، لكنه عدّ الفيلم أقوى الأعمال السينمائية التي اقتبست الملحمة.ويضيف عبد المنعم -في مقال بجريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة- أنه لم يكن للأفلام الستة طاقم مشترك، ولم تنتج على هيئة سلسلة متعاقبة، ولم يكن بينها عناصر مكررة، فذبلت القصص ببعدها عن أرضها الأصلية وخرجت الأفلام في هيئة مترهلة.



الدراما

عاد نور الشريف لملحمة "الحرافيش" في مسلسل "السيرة العاشورية" (1998)، بمشاركة هشام سليم وإلهام شاهين، مقدّما السيرة الذاتية للبطل الشعبي عاشور الناجي، الذي اكتسب اسمه بعد نجاته من وباء قضى على سكان المنطقة، فعاد ليحكم الحارة كرمز للفتوة العادل، من سيناريو محسن زايد وإخراج وائل عبد الله.
وبذلك يكون نور الشريف هو الفنان الأكثر إخلاصا لملحمة "الحرافيش"، جسّد شخصية بطلها في فيلمي "المطارد" و"أصدقاء الشيطان"، قبل أن يقدمها في مسلسل تلفزيوني، إلى جانب تجسيده أدوارا مختلفة من عالم نجيب محفوظ الثري، ليبلغ مجموع أعماله المقتبسة عن عالم محفوظ 9 أعمال.
وفي رمضان 2020 قدم المؤلف هاني سرحان والمخرج حسين المنباوي والفنان ياسر جلال مسلسلا بعنوان "الفتوة"، يمكن للمشاهد أن يميز فيه جيدا التأثر الشديد بملحمة "الحرافيش"، حتى لو تسابق صنّاعه على نفي اقتباسهم لأحداث المسلسل من حكايات عاشور الناجي وأسرته.