خور أبو امغوي بين الأسطورة القطيفية والحقيقة الواقعية – بقلم الباحث عبد الرسول الغريافي

تعال مِنِّيه.. تعال مِنِّيه.. تعال مِنِّيه!
هذا هو النداء الجذَّاب صوته والمرعبة نتيجته! إنه النداء الذي يطلقه العفريت أبو امغوي بلهجات قطيفية مختلفة لينادي به كل عابر حسب لهجته المحلية بفضل خبرته ودرايته عن عابري المقطع بين تاروت والقطيف، فالويل ثم الويل لمن استمع لندائه واستجاب له واستسلم طوعا له وتبع صوته فمصيره حتما هو الهلاك غرقا.
أبو امغوي هذا الذي يسكن في وسط خور يعرفه أهالي تاروت خاصة وأهالي القطيف عامة بخور أبو امغوي نسبة لساكنه أبو امغوي، أما صفات هذا العفريت فإن رواياتها جاءت مختلفة على ألسنة الذين زعموا أنهم رأوه وسمعوه ممن عاصروا زمن العبور مشيا وذلك قبل إنشاء أول جسر ومابعده من الجسرين الآخرين بين جزيرة تاروت والقطيف، أما الصفة التي اتفقوا عليها فهي مناداتة لكل من يدخل المقطع بغية عبور البحر مشيا بين جزيرة تاروت والقطيف والعكس وذلك حين ينحسر مد المياه ليصبح البحر في حالة تعرف بالفبر أو الثبر وهي حالة الجزر.
إن سبب مناداته لكل عابر حسب لهجته التي يتداولها كأن ينادي البعض بلهجة أغلب أهالي القطيف هاتفاً: “تعال مِنِّيه”، أو حين يناديهم بقوله: “تعال مِنَّه” أو أحياناً “تعال مِنَّا” فهي وإن كانت جميعها بمعنى “تعال من هنا” إلا أن مناداة العابر كل بلهجته تزرع الثقة التامة في نفسه ليكون قريبا إلى قلبه ومطمئا إليه فيسهل أمر الاستجابة لندائه وإن كانت حقيقة الأمر ماهي إلا كما يحسبه الظمآن ماء! فبهذا يضمن كسب ثقة العابر التامة والتقرب منه، وبالطبع أنه ملم ومتقن بلهجات أهالي القطيف كما أنه يمتلك الفراسة في اكتشاف أي لهجة يتداولها هذا العابر ليظن أن من يناديه هو رفيقه في هذا الطريق.
كما ويتفق الجميع على أن لونه أحمرٌ قانٍ بلون الدم وقد أكتسب هذا اللون لأنه يقتات على شرب دماء ضحاياه حين يناديهم فيستجيبون له بسبب خداعه وإغرائه لهم فيغويَّهم ويضلهم عن سواء السبيل ثم بعد ذلك يتجهون صوبه فما هي إلا لحظات حتى يظفر بفريسته ليمتص دمها ثم يلقي بها جثة هامدة ليقدمها وجبة شهية للأسماك.
إن هذه الإسطورة في مجتمعنا تشبه اسطورة “دراكولا” الغرب إلى حد كبير بحسب مادلت عليها كثير من الخرافات والأساطير الغربية والعالمية المختلفة ولكنها بالطريقة الخاصة بمجتمعنا فحين يتمعن المتأثرون بأفلام الدراكولا فإنهم سيصنفون أبو امغوي على أنه “دراكولا القطيف!”
البعض يؤكد أن هناك أصوات تشبه “تعال منيه” ولكنها غير حقيقيه فهي أصوات عشوائيه تحدث أثناء احتكاك الرياح بالموج فتصدر أصواتا شبيهة بأصوات الإنسان الذي ينادي بتلك العبارة السابقة الذكر مايجعل العابر يتوهم أنه سمع صوت ذلك النداء (وبحسب لهجته بالطبع).
تعيش في الخليج العربي أصناف من الدلافين يعرفونها الخليجيون بمسمى الدغوس ومفردها “دغس” وكانت المنطقة البحرية التي تحيط جزيرة تاروت وما حولها -بما في ذلك خور أبو امغوي- بيئة مناسبة لتواجد الدلافين فيها أحيانا لذلك فإن البعض ممن عاصروا تلك الحقبة الزمنية من المتعلمين والمثقفين لاينكرون سماع أصواتا غريبة أثناء المرور بمحاذاة خور أبو أمغوي فهي بلا شك أنها أصوات تلك الدلافين وذلك بعد تأكدهم من رؤيتها في هذه المنطقة، فيعلل هؤلاء بأن البعض أثناء العبور يتوهمون عند سماعهم لهذه الأصوات أنها اصوات نداء رفقاءهم في الدرب الذين سبقوهم بمسافة عدة أمتار من أجل الإطمئنان عليهم أو تسريعهم في المشي ولربما اتجهوا نحو مصدر الصوت فغيروا جادتهم المعتادة فيقع البعض منهم في شرك مايعرف بدردور خور أبو امغوي. والدردور بلهجة البحارة المحلية معناه تيار يشبه دوامة مائية تقودهم إلى الهاوية فتقع الكارثة.
وبما أنه من المعروف عن الدلافين أنها حيوانات بحرية أليفة وذكية وتأنس مصاحبة البشر ولها أصوات متميزة فإن البعض يجزم في القول أن الدلافين عندها قدرة على تقليد أصوات الناس وأنها تستطيع أيضا أن تردد بعض العبارات القصيرة مثل عبارة “تعال منيه”.
لازلت أتذكر ومنذ أيام الطفولة إحدى المناسبات التي أقيمت في مجلس منزلنا (ديوانية الأهل) حين كان الوقت عصراً بعد الغذاء مباشرة وهو وقت شرب الشاي والقهوة، لقد كانت الواجهة الجدارية الغربية للمجلس مغطاة بأكملها بدولاب خشبي (كبت) بني اللون وله درفات عديدة وكان يحتوي على أوراق معاملات الأهل التجارية وبعض الأدوات التي تستخدم من أجل خدمة الضيوف ورواد ذلك المجلس كما وقد كانت هناك بعض المجلات وقليل من الكتب.
في ذلك الوقت وفي تلك المناسبة كان أبو مهدي “رحمه الله” يستند على ذلك الدولاب البني فمد يده داخل الأرفف ليتناول مجلة أمريكية قديمة من تلك المجلات التي اعتاد جلبها عمال ارامكو من الظهران، لقد بدأ “أبو مهدي” بتصفحها مع أنه لايجيد حتى القراءة العربية ولكن بغرض التسلية فهي مليئة بالصور الملونة الجميله، لقد كان أبو مهدي يمارس سبع الصنائع وعنده دكان صغير وكان أغلب الناس يعرفون عنه أنه بحّار ماهر إذ أن مهنة البحارة هي أقرب وأشهر مهنة له، وكان من المعروف عنه أيضا أنه (أبو نواتق) أي أنه يختلق بعض المواقف وينسج سوالف من صنع الخيال ويحب النقاش والجدال.
في تلك اللحظة كان الجالسون في هدؤ تام وإذا به يصرخ (من قمّعة رأسه) وهو ينظر إلى الجميع قائلا: “صادوه! افتكينا منه وافتكت العباد من شره!” عندها اشرأبت الأعناق إلى أبي مهدي لتلقي الخبر! فمن هذا الذي صادوه؟
بعدها استرسل أبو مهدي في كلامه قائلا: “شوفوا أبو امغوي صادوه الأمريكان وحطوه في قرابيه”، والمقصودة بالقرابية هي جرة زجاجية كبيرة لحفظ بعض السوائل.
عندها أخد أحد الجالسين الى جانبه تلك المجلة من يده ليتحقق من الأمر، فكانت النتيجة هي أن الصفحة التي ينظر إليها أبو مهدي ماهي إلا صفحة إعلانات ودعايا أمريكيه وبها جرة كبيرة في داخلها مخلوق نباتي أحمر اللون يميل شكله إلى لون الطماطم بحسب ماتخيله وصممه الفنان فهو على هيئة وحش أحمر قد أكتسب لونه من حبات الطماطم التي كان يفترسها، وكان في أسفل الجرة إسم إحدى الشركات المنتجة لعصير الطماطم، هذا كما وضحه ذلك الرجل الذي كان بجانبه ولكن أبو مهدي رد عليه قائلا: لكن لونه أحمر ويشبه أبو امغوي!
فرد عليه قائلا: “ماعليك منه هذا بس دعاية لعصير الطماطه، وبعدين ويش علينا من أبو امغوي هالأيام يابو مهدي ماحد يخاف منه ألحين ولا فيه أي خطوره وصار للناس سنين كثيره من نسوه ونسوا أذيته للناس من يوم مابنوا الجسر والناس تروح لتاروت على الجسر بالسيارات”.
فرد عليه أبو مهدي: ” اللي ارتاحوا منه ونسوا متاعبه هم العّباره بس احنا يالبحاره بعدنا نعاني منه اذا رحنا نصيد، ابو امغوي هذا اتعرض لي في هالخور أكثر من خمس مرات ولا صادني ولاقدر علي لكن تعبني!”
عندها ضج المجلس بالضحك والتعليقات. نلاحظ هنا أن أبو مهدي قد ضم صوته إلى ماتقوله الأسطورة في أن أبو امغوي هو عفريت أحمر اللون.
هناك من يشير إلى طريقة عبقرية سهلة للتخلص من شر أبو امغوي عند عبور المقطع وذلك عن طريق سد كلتا الأذنين لكي لايسمع صوت أبو امغوي وهو يناديه (تعال منيه) فيتبعه ويضل الطريق!
ألستَ معي في أن هذه الأسطورة شبيهة بحكاية تضمنتها ملحمة الإلياذا والأوديسا (The Iliad and the Odyssey؟)
لقد شارفت الذاكرة على نسيان بعض حكايات الطفولة وكادت تضمحل من الذاكرة نهائيا كحكايات أبو امغوي ومن بينها أيضا حكاية سد الأذنين ولكن سرعان ما تذكرتها عندما كنت أقرأ ملحمة الإلياذا والأوديسا كمقرر دراسي، ففي طريق عودة بطلها ومن معه من طرواده إلى أثينا والتي استغرقت عشر سنين كانت مليئة بالمعاناة والمغامرات في عرض البحر ومنها خطورة المرور على الكهف الذي تسكنه عازفات القيتارات الساحرات واللواتي يسحرن كل من يمر بسفينته على كهفهن حين يكون جاهلا لحقيقة أمرهن فإنه يقع في شرك سماع اللحن السحري الذي يؤثر عليه ويجبره على النزول ليقع ومن معه فريسة في أيدي هؤلاء الساحرات، ولكن القائد البطل اوديسوس قرر بإصرار أن يسمع اللحن الساحر ورفض أن يسد أذنيه فما كان منه إلا أن أمر الجنود والبحارة بأن يوثقوا جسمه في سارية السفينة بالحبل وأن لايفكوا وثاق الحبل مهما تضرع لهم ومهما وجه لهم من أوامر عسكرية رسمية حتى يجتازوا كهف الساحرات العازفات، وبالفعل نجح في طريقته وتمكن من سماع اللحن الساحر دون التعرض لأخطارهن وعرف السر في ذلك.
كلتا الإسطورتين تحكيان جور شياطين البحار على الإنسان عند عبوره البحر وكلتاهما أيضا تحكيان سد الأذنين لما للسماع من أخطار تؤدي إلى هلاك السامع بعد الإستجابة والخضوع لأباطرة الشر. فكرة جمعت بين إسطورتين هما من نسج الخيال وإن كان للواقع فيهما نصيب ولكن بطريقة غير مباشرة.
ماهي حقيقة (أبو امغوي)؟
أما الجانب الواقعي الحقيقي في خور أبو امغوي فهو خور خطير يعترض المارة من الناس عند عبورهم مشيا وذلك في المنطقة البحرية الواقعة بين القطيف وجزيرة تاروت والعكس وهذا الطريق يعرف بالمقطع حيث يقطعه الناس مشيا في وسط البحر من تاروت الى القطيف عند مدخل الفرضة، وكان ذلك قبل إنشاء أول جسر من القطيف إلى جزيرة تاروت ولاشك أنهم كانوا يعبرونه عندما يكون البحر في حالة الجزر (المايه فبر/ثبر).
أما في حالة المد (المايه سقي) فإن العبور يكون من فرضة القطيف إلى الرفيعة أو إلى دارين بواسطة العبرات (مفرد عبره) أو بالهوري أو القلص وجميعها قوارب خشبية صغيرة صنعت محليا وأعدت خصيصا لنقل الركاب من وإلى جزيرة تاروت وكان هناك من اشترى أمثال هذه القوارب خصيصا ليحترف مهنة نقل الركاب.
ورجوعا إلى عبور البحر مشيا فإنه يتحتم على عابر المقطع أن يسلك طريقا معروفا من المفترض أن يتبع خلاله علامات بنيت في وسط البحر وهي (نقايل) أي أعمدة بنيت من الجص والفروش (الأحجار البحريه) ويعلو كل نقيلة سارية عالية من مرابيع الخشب أو الچندل ليهتدي بها عابر البحر مشيا، وأما الطريقة الثالثة للعبور فهي عن طريق الإستعانة بالحمير وأغلب تلك الحمير هي التي تجر العربات المعروفة بالقواري التي يصممها النجارون المحليون وهي وسيلة يستعان بها فقط وقت القراح (عندما تكون المايه فبر) أي وقت الجزر وقد كانت تستعمل كوسيلة للنقل الجماعي وللعوائل ولنقل الأمتعة والبضائع وأيضا لنقل السائحين الأجانب من الأوروبيين والأمريكان بعد استقرار جاليات كبيرة منهم للتنقيب عن البترول والآثار وكذلك بعد انشاء شركة أرامكو وماجاء بعدها من الشركات.
وأما بالنسبة لإستعمال الحمير المرس فلا شك أن استعمالها بدأ منذ قديم الزمان وقبل صناعة القوراي، ولكن من يعلم! فربما كانت هناك صناعات محلية لأنواع أخرى من العربات قد صنعت في سالف الزمان وبعجلات خشبية مثلاً أو غيرها.
أما مصطلح حمير المرس في اللهجة القطيفية فهو يعني الحمير التي تستعمل للركوب ولحمل الأمتعة دون استعمال القواري أو العربات. وجدير بالذكر أن هناك طريقة خاصة لنقل النساء على حمير المرس عند عبور هذا المقطع فحين تعبر امرأة أو امرأتان المقطع على ظهر الحمار فإنه توضع على جانبيه مرحلتان كل مرحلة على جانب، والمرحلة هي زنبيل كبير عرضه بحجم جانب الحمار من الرقبة إلى الذيل ولكل مرحلة عروتان، ووظيفة المرحلة هنا هي لكي تضع المرأة كل رجل من رجليها في مرحلة وهذا يساعد على توازن جلوسها دون التمايل ويمنعها أيضاً من السقوط وكذلك لتسترها وخصوصا حين تبتل ملابسها، كما أنه يُربط حبل من أحد طرفيه في عنق الحمار بطول يتجاوز النصف متر يشبه العنان ولكنه بطرف واحد والطرف الثاني تمسكه المرأة بعد أن تربط عقدة في نهايته لكي لايفلت من يدها وتعرف هذه العقدة بالبلبوص، والبلبوص هو كل عقدة تربط في نهاية حبل للإستعمال البحري وذلك من أجل مسكها أو أي شُرَّابة (كركوشة) في نهاية الحبل لمسكها.
لقد كانوا أثناء عبورهم يمرون على هذا الخور المسمى أبو امغوي وقد سمي بذلك لأنه عندما يضل احدهم الطريق الصحيح فإنه يتجه لذلك الخور دون أن يشعر بذلك فيتعرض للغرق والهلاك في هذا الخور والذي غرق فيه الكثير ممن أرادوا عبور المقطع من أهالي القطيف وتاروت وكان آخر من غرق فيه قبل انشاء الجسر شخص من عائلة السماهيجي وآخر من عائلة ادخيل وثالث من عائلة المسجن عرف بآل (عزيزه).
والخور في عرف أهالي مناطق الخليج عبارة عن منخفض بحري يشبه النهر أو منخفض مغلق أو أنه بقعة مائية منخفضة عن مستوى البحر ولاتجف مياهها حتى وقت الجزر (الفبر/الثبر) وعندما يبدأ المد فإنها تكون أعمق من مستوى القاع البحري المجاور.
والخور أيضا هو مصب نهري (river delta) ويعرف أيضا بمصطلح (estuary). ويعرفه البعض من المتخصصين بأنه مسطح مائي ساحلي يأخذ شكل خليج مصغر شبه مغلق يصب فيه نهر أو مجرى مائي من جهة ويتصل بالبحر من جهة أخرى.
فالخور هو لفظ من أصل عربي تناولت تفسيره المعاجم والقواميس العربية المعتمدة، وإليك استعراض سريع لبعض ماجاء من تعاريف له في بعض القواميس والمعاجم العربية حيث يُعرِّفه المعجم الوسيط بانه مصب الماء في البحر وهو المنخفض بين مرتفعين والجمع منه خُوَرْ أو خيران. وهو أيضا المنخفض من الأرض بين مرتفعين، وكذلك هو مصب الماء في البحر أو لسان من البحر يكون في البر على شكل خليج صغير.
وجاء في معجم اللغة العربية المعاصر بأنه منخفض من الأرض بين مرتفعين أو هضبتين وكذلك هو مصب الماء في البحر. وجاء في معجم الغني: خوَّرت الأرض أي ارتخت من كثرة المطر. وفي الرائد: منخفض من الأرض بين مرتفعين، وأما لسان العرب فيوضح بأنه أرض خواره لينة سهلة والجمع خور والخور مصب الماء في البحر وقيل هو مصب المياه الجارية في البحر إذا اتسع وعرِض والخور عنق من البحر يدخل في الأرض وقيل هو خليج من البحر والخور مثل الغور: وهو المنخفض المطمئن من الأرض. (وكذلك الأهوار كلها متشابهة في الشكل والمعنى).
وفي تاج العروس: الخور مثل الغور: المنخفض المطمئن من الأرض بين النشرين. والخور الخليج من البحر. قبل مصب الماء في البحر وقيل هو مصب المياه الجارية في البحر اذا اتسع وعرِض، والخور عنق من البحر.
؛؛والآن لكي تتعرف على خور أبو مغوي أكثر تعال معنا نصطحبك في رحلة بحرية ولكن مشياً على الأقدام عبر المقطع؛؛
فلا يعتريك أي شيء من الخوف وكن مطمئنا لأنك ستسلك معنا الجادة الصحيحه في عبور المقطع، وأرى من الأفضل أن نبدأ الرحلة من تاروت إلى القطيف وليس العكس وذلك لأن الرحلة من تاروت هي أكثر حتمية لأهالي تاروت فهم الأكثر ابتلاء لأنها العبور من الجزيرة إلى اليابسة أولأ وثانيا لأن جميع أهالي تاروت يضطرون إلى الذهاب إلى القطيف ومنها إلى المناطق الأخرى وليس العكس فهناك الكثير من أهالي القطيف لم يروا تاروت في تلك الآونه، ولأن أهالي تاروت أيضا هم الأكثر معاناة لما يلاقونه أثناء عبور المقطع الحتمي والمفروض عليهم للوصول إلى اليابسة وهي المدينة.
؛؛إذاً سنبدأ الرحلة من هناك وسننطلق من بداية المقطع من الرباط وهو الحدود الغربي للجزيرة والمواجه للجهة الشمالية الشرقية للقطيف؛؛
هذه الواجهة الغربية لجزيرة تاروت عبارة عن بساتين من غابات النخيل المطلة على البحر مباشرة، فحدودها الجنوبي الغربي مغطى ببساتين نخيل أرض الجبل كنخل الجديده وسعلول وكذلك المشحوف الذي يقع فيه مسجد صغير يعرف بمسجد الرواحين بالإضافة إلى مسجدين آخرين صغيرين هما مسجد تغريب والجديده وجميعهم قد صلى فيهم البحارة وكذلك من أرادوا عبور المقطع قبل المغادرة إن أدركهم وقت الصلاة. إن رحلات أهالي حي أرض الجبل بتاروت تبدأ بالاتجاه إلى الغرب من وسط حي أرض الجبل أي من الطريق القديم الذي يبدأ من شمال غرب سوق سمك تاروت حاليا مرورا بين بساتين النخيل ثم الوصول مباشرة إلى الرباط الذي يشكل الحدود بين يابسة جزيرة تاروت والبحر المتاخم لهذا الحدود والذي يقابل نهاية منطقة الدخل المحدود في أيامنا هذه.
عند الوصول إلى البحر وبعد السير عدة أمتار في المياه الضحلة باتجاه الغرب يتم الإتجاه إلى اليمين إجباريا حيث الجهة الشمالية والمشي في البحر بمحاذاة بساتين النخيل وهذه المسافة بين النخيل والبحر يعرفها أهالي القطيف بالدستور أو الجارم، إن اتخاذ هذا الإتجاه نحو الشمال يجنبا متاعب الوقوع في خور أبو امغوي وكذلك للإلتقاء بالطريق الرئيسي للجزيرة والمعروف بالمقطع.
لعل تسمية الرباط بهذا الإسم جاءت من ربط الجزيرة بالمدينة – القطيف. وأما الطريق المعتاد لبقية سكان جزيرة تاروت فبداية رحلاتهم عادة هي من نفس شارع أحد اليوم والذي يقع على جانبه الشمالي في هذه الأيام بريد تاروت وبعض الورش، وأما على يسارنا من الجنوب فهناك مقبرة قديمة وتليها في آخر حدود الجزيرة محطة بنزين وفي الأمام تصادفنا أول إشارة مرور بعد الجزيرة في شارع أحد، فعند هذه الإشارة تماما كانت نقطة بدء الإنطلاق لعبور المقطع لأنها بداية البحر الذي يحف تاروت من الغرب -كما أشرت.
وقبل انطلاق رحلتنا أود أن أشير هنا إلى ما قام به البعض من المتطوعين في تلك الأيام من بناء صرح هو بمثابة بوابة جصية ولكنها واقعا عباره عن مرفق عام يطلق عليه أهالي منطقة القطيف عامة مسمى البرَّوده وهو بناء خاص لوضع أواني مياه السبيل الفخارية التي يشرب منها العابرون الماء وهناك متطوعون آخرون يقومون بمليء تلك الأواني كلما نقصت مياهها، فمباني البرُّودة تشكل أيضا معلما بمثابة محطة المغادرة والوصول من وإلى الجزيرة فمنها يبدأ الأنطلاق لعبور المقطع والتي هي اليوم بدء شارع أحد ولكن حذارِ أن تسير لتقطع البحر في نفس مسار شارع أحد فإنه وإن كان اتجاهه إلى الغرب إلا أنه سيميل بك إلى الجنوب شيئا فشيء صوب الدخل المحدود اليوم ثم الخزامي ومابعدها من أرض المزروع فيوصلك من حيث لاتشعر إلى البقعة التي تكمن فيها أخطار الغرق فهنا يقع خور أبو امغوي.
علينا إذاً بعد نزول البحر مباشرة وهو في حالة الجزر (الفبر) أن نمشي بضعة أمتار نحو الغرب فقط ثم ننعطف بعدها إلى اليمين بالإتجاه نحو الشمال (بإتجاه الصناعية اليوم) وهذه المنطقة تعرف بالمحدرة وهي بمحاذاة يابسة الجزيرة المطلة على البحر وبها بساتين النخيل التي تكثر فيها الزرائب التي تُربَي فيها الماشية والأغنام فيكون المشي بمحاذاتها حتى الوصول إلى اصحين الزلق (وهي منطقة زلقة لاتثبت عليها الاقدام)، عندها وقبل الوصول إلى اصحين الزلق يتم تغيير الإتجاه نحو الغرب (بإتجاه القطيف) وهنا تكون بداية رحلة المقطع المباشرة الحقيقية من تاروت.
فبعد الأستمرار في المسير وقطع شوط كبير منه وأثناء اتجاهك للغرب فإنك عند مد بصرك يمينا إلى الشمال الغربي سترى احظور كثيرة (بالظاد) وهي مكامن لصيد الأسماك بنيت من جريد النخل والشبك وتعرف منطقة هذه الحظور بحظور الطين المقابلة لمنتصف المقطع من جهة الشمال وهي حظور الرامس ومكانها اليوم الجزء الشمالي الغربي من ورش الصناعية بالتركيه وكانت أيامها بقعة بحرية موقوفة لأعمال الخير تحت إدارة وملكية أهالي تاروت إذ أنها تستعمل لصيد الأسماك بالحظور المقامة عليها ومن حولها مناطق كثيرة للصيد وكذلك هيرات اللؤلؤ كالبطحيات وأم الحمير ودويبل والبدرية والخترشية.
وتقابلنا من البداية ومع انعطافنا نحو الغرب علامات إرشادية يجب اتباعها من أجل أن نسلك الجادة الصحيحة وهذه العلامات عبارة عن (نقايل) أي أعمدة أو اسطوانات بنيت أساساتها في قاع البحر وقد ارتفعت اطوالها عن مستوى منسوب البحر وهو في حالة المد وعلى رؤوسها أشاير خشبية من الچندل والتي يعلق على بعضها أحيانا الفوانيس ليلا وهي التي تقودنا إلى الطريق السليم حتى الوصول إلى فرضة النقادي بالقطيف، ويقدر عددها بنحو ثلاثين نقيله (عمودا).
إن الخبراء في عبور هذا المقطع دائما يقدمون لنا النصائح بقولهم: (أول ماتخبط الماي وانت مواجه الغرب يجيك الخور على يسارك في الجنوب الغربي ومايته دردور مايقدر يقطعها حتى السَّباح المتمكن لأن مايتها جَدْله ومن علاماتها انها بقعة سوداء داكنه ومظلمه فلازم تتجنبها وتاخذ اليمين وتتوجه صوب الشمال).
بعد اجتياز مايقارب عشرين علامة من هذه الإسطوانات تقابلنا الركسة الصغيرة والتي علينا أن نخوض في غمراتها أثناء اتجاهنا إلى الغرب وهي منخفض مائي أعمق من المعتاد، وتقابلنا بعدها ركسة الحلوة أو ماية الحلوه القادمة من الشمال الغربي والمتدفقة في البحر، وتراها وكأنها نهر يشق طريقه وسط المياه المالحة بلونها المختلف وهي مياه عذبة صافية قد جلبتها سابات القطيف الشمالية من العيون المتدفقة هناك لتتصل بالبحر وتصب فيها تلك المياه التي تشق طريقها وسط مياه البحر المالحة.
وأما في حالة الجزر (الفبر) فإن (العيوچ) تظهر على جانبي هذا التدفق لهذه المياه لتكسبها رونقا باهرأ للعيون وكأن جريانها نهر بين ضفتين، والعيوچ أو العيچ مفردها عيچه وهي الشواطئ الرملية والطينية التي تفصل عادة بين النخيل والبحر، ولعل أصلها هو “العيك” وواحدتها “عيكه” كما جاءت في لسان العرب وتاج العروس أنها الشجر الملتف (انتهى)، فهي أرض بحرية طينية تنبت فيها بعض الشجيرات والأحراش البحرية.
في هذه المنطقة وأثناء الإستمرار في الإتجاه غربا وقبل إن تنعطف بنا الأعمدة الإرشادية (النقايل) يسارا باتجاه الجنوب شيئا فشيء فإننا نجد أنفسنا في منطقتين تعرف إحداهما بالدام الشملي ثم يليه بعد ذلك الدام الجنوبي وهي مناطق غنية بالصيد الوفير.
ولعل أصل كلمة دام المحلية قد جاءت من دام الماء أو الدأم وكذلك الدأماء والفعل منه تدأم، فالدأماء كما جاء في المختار الصحاح ولسان العرب والمعجم الغني فهي تعني البحر. بعدها نصل إلى غمالية الخنيزية ومكانها اليوم تبدأ من مقدمة الدخل المحدود الغربيه والممتدة الى منطقة الحد الفاصل بين المزروعين غربا وكذلك قبل حي الخزامي وهي منطقة تشكل بيئة خصبة لتكاثر الربيان فيها صيفا وشتاء، ولعل هذا هو سبب تسميتها بالغمالية إذ يذكر المعجم الرائد والمعجم الوسيط معنى الغمل هو التستر والتغطية وجاء في لسان العرب مغمولا اي مغطى وكل شيء كبس وغطي وأيضا هو الوادي الضيق الكثير الشجر وجاء في تاج العروس بأنه وادي ضيق كثير النبت.
وفي نهاية غمالية الخنيزية وأثناء الإتجاه جنوبا تواجهنا الركسة العوده (الكبيره)، فإن كانت المياه في الركسة الصغيرة يصل مستوى الماء فيها إلى خصر العابر أو مابعده (هذا في حالة الجزر/ الفبر) فإن المياه في الركسة العودة تصل أحيانا إلى مافوق الرقبة لدرجة أنه عند العبور فيها بالحمير يضطر الراكب لرفع رأس الحمار إلى الأعلى بحبل أو بيديه لمنع تعرضه إلى الغرق.
وتمتد الركسة العودة (الكبيرة) من الشمال إلى الجنوب. عند الوصول إلى هذا المنعطف الذي يوجهنا إلى الجنوب وهو مكان زاوية التقاطع التي تنقلنا من شارع أحد إلى شارع القدس أي عند الإشارة المحصورة بين البنك السعودي البريطاني وبين برج مصلحة المياه في هذه الأيام.
عند هذا الموقع تكون الرحلة قد شارفت على الإنتهاء ولم يبق على الوصول إلى نهايتها إلا قطع المسافة البحرية التي مكانها اليوم بداية طريق الجزيرة الممتد من إشارة المرور التي يتقاطع عندها أيضا شارع القدس مع شارع أحد عند البنك السعودي البريطاني إلى الإشارة التي تليها جنوبا والتي يتقاطع عندها شارع الجزيرة مع شارع الفتح هذا والمقابلة تماما لمصنعي ثلج العرجي أولاً ومصنع أبو السعود الذي يليه من الشرق ثانياً، وإلى الغرب منهما (بعد الشارع) يقع مركز الخدمة الإجتماعية الذي يقابله الدفاع المدني.
وكانت هذه المنطقة حين كانت بحرا تسمى (اخريس الجمرك) وهو عميق نوعا ما حتى في وقت الجزر (الفبر) إذ تصل (الماية) فيه إلى السرة. بعدها وعند الإقتراب من اليابسه تقابلنا بقية الجادة المعترضه في هذا المقطع والأخيرة والممتدة من الغرب إلى الشرق وتعرف بالرچوة أو الركوة وهي منطقة مياهها ضحلة وتتجه بنا إلى القرب من الجمرك عند الفرضة أي عند مصانع الثلج الذي كان في تلك الأيام (مربط) مؤقت لحمير السِّيف وهي حمير مرس (بلا قواري) وبالأخص حمَّارة عاملة الحوار الذي يمتلك (اسطولا) كبيرا من الحمير تنتظر وصول البضائع حتى من كلكتا حيث ينقلها الحمَّالية على ظهور هذه الحمير، وأما من يقودها إلى أسواق القطيف فهم العاملة (الحمَّارة).
عند هذا الموقع تنتهي هذه الرحلة الشاقة بعد الوصول لهذه المحطة وذلك بعد معاناة ومغامرات ومجازفات دامت على مدى أزمنة طويلة حتى توقفت في نهاية الخمسينات من قرن العشرين الماضي بعد بناء الجسر الصخري البسيط دون وجود أي قناطر أو قنوات تتخلله لتسمح بمرور الماء من تحته وإن هذا الجسر لايتسع لمرور أكثر من سيارتين تعبر من خلال مسارين ضيقين احدهما للذهاب وآخر للإياب والذي يصعب تجاوز السيارات فيه، وقد ظل على هذه الحالة حتى منتصف ثمانينات قرن العشرين الماضي.
وداعاً خور أبو امغوي.. وداعاً جبل لحريف.. وداعاً مرتفعات امعلا الملاحه
بعد محاولات دامت طويلا وبعد مكاتبات ومخاطبات الأهالي إلى الجهات الرسمية المختصة، ونتيجة لتلك المعاناة فقد بزغت فكرة انشاء جسر يربط جزيرة تاروت بالمدينة القطيف ولعله كانت هناك محاولات من قبل ذلك ولكنها ذهبت أدراج الرياح فبعض تلك المحاولات قد باءت بالفشل، ولكن بعد جهد جهيد ومحاولات عدة فقد تمخضت تلك الجهود عن ولادة جسر بسيط يربط الجزيرة بالمدينة.
ففي نهاية الخمسينات من قرن العشرين الماضي -وتقريبا لا تحديدا- في عام ١٣٧٩هجري الموافق ١٩٥٨ بزغ نور ذلك الجسر وبدأت تدب حركة الحياة التنقلية فوقه حيث بدأت السيارات تشق طريقها من وإلى جزيرة تاروت وحتى العربات (القواري) التي تجرها الحمير غيرت مسارها من السير في وسط مياه البحر فوق طين المقطع بعد مجازفات وعناء تغير إلى السير فوق ذلك الجسر السهل اليسير قطع مسافته.
إن ذلك الجسر المتواضع هو شارع أحد اليوم، لقد تم تشييد ذلك الجسر الذي أصبح شارع أحد اليوم على نفس مسار المقطع تقريبا من وإلى تاروت وبدأ من حيث بدأت رحلات الناس حين كانوا يقطعونه مشيا على الأقدام وفي وسط البحر إلا أنه كان يدخل جزيرة تاروت مباشرة حين يصل الرباط من جهة اشارة مرور شارع أحد الأخيرة في هذه الأيام ودون الإضطرار إلى الإتجاه نحو الجهة الشمالية لأنه لاحاجة لتجنب خور أبو امغوي بعد اليوم لأن الجسر هو الذي يقطعه ويمتد فوقه تقريبا.
حريٌّ بي أن أذكر هنا لقاء غريب قادتني الصدفة إليه وكأنه لقاء أعد التخطيط إليه مسبقا، ففي شتاء ٢٠٢٠ وقبيل أيام الحجر بسبب انتشار وباء كورونا (كوفيد١٩) وأثناء تواجدي في إحدى فعاليات مهرجان قد أقيم في تاروت طلب مني أحد الأصدقاء أن اجيب على تساؤلات سائح أمريكي قد حضر هذا المهرجان.
فعرَّفني بنفسه أنه يدعى ديفيد هاكيت (David Hackett) وأنه في عام ١٩٥٧م قد قدم من الظهران من أرامكو إلى القطيف بالسيارة ومن ثم عبر البحر إلى تاروت بواسطة العربات التي تجرها الدواب وقد جاء الآن إلى السعودية في الجبيل من أجل بعض أعماله فأصر أن يزور جزيرة تاروت فتفاجأ بأنها لم تعد جزيرة الآن بعد ربطها بالقطيف بواسطة جسر وقد انشئت حول الجسر مدينة كبيرة.
لقد تعجبتُ من ذلك! فكيف يكون هذا وهو رجل في نهاية الستينات من عمره؟ عندها همست في أذنه مازحاً: “لابد أنك في سن التسعين الآن مع أنه لايبدو عليك كبر السن!” فضحك قائلا: الموظف في أرامكو كان أبي وليس أنا ولكني كنت وقتها طفلا مصاحبا لوالديَّ، ثم عرض عليَّ صورتين من هاتفه المحمول من تصوير أمه تحمل تاريخ ذاك الزمن للمكان الذي كنت معه فيه طالبا مني مقارنتهما بالواقع الحالي مع توضيح بعض المعالم المتغيرة.
لقد عبر هذا الرجل مع عائلته إلى تاروت قبل بناء الجسر بوقت غير بعيد أو لعله في وقت الإنشاء فهو لم يعبر قوق الجسر عام ١٩٥٧.
عند بداية الإنشاء لم يكن هذا الجسر كما هو عليه اليوم وانما كان مجرد طريق مكون من مسارين ضيقين احدهما للذهاب والآخر للإياب ولايقبل تجاوز السيارات فيه وعلى كل جانب من جانبيه حاميا من الصخور كرصيف يمنع السيارات من السقوط في البحر، لقد كان معدل الحوادث فيه مرتفعا بسبب مجازفات التجاوزات.
لقد كان وقت بناء الجسر متزامنا مع فتح شارع الإمام علي بن أبي طالب الذي يبدأ من القطيف من حدود حي الدبيبية الشمالي مارا بالبحاري والقديح والحريف والزاره والعوامية وصفوى ثم يتفرع بعدها يمينا لرحيمه وراس تنوره ويسارا إلى الجبيل.
وفي قرية الحريف المنقرضة كانت هناك مرتفعات تعرف بجبل الحريف الذي كانت تحاك حوله الأساطير إذ كانت تلك المرتفعات تبدو وكأنها صخور قد نحتها فنان، فترى في هيئة صخورها مايشبه الإنسان وما يشبه الحيوان لذلك فقد نسجت حولها حكاية تقول بأن تلك الصخور ماهي إلا بشر وحيوانات حقيقية قد مسخها الله وحوَّلها بعد خسفها إلى صخور وقد كان سبب ذلك الخسف هو كفر أهلها بالنعمة التي أنعم الله بها عليهم.
كان فتح شارع الإمام علي يتحتم إزالة تلك المرتفعات من أجل شق الطريق، وحيث أن فتحه جاء متزامنا مع إنشاء جسر تاروت -كما أشرت- لذلك فقد استغلت تلك الصخور لتمهيد ودفن شارع تاروت بها. بالطبع لم تكن صخور جبل لحريف كافية لأن تغطي مشروع جسر كجسر يربط بين القطيف وتاروت لذلك فقد استعانوا أيضا بجلب صخور من جبل المعلا بقرية الملاحة والمعروف بالجبلة والتي تقع بين المقبرتين وهما مقبرة الجرش أو القبة والمقبرة الصغيرة، كما وقد استعانوا بجلب صخور الفرش البحرية لتساعد على إكمال الجسر. فمن نافلة القول أنه قد تم إنشاء الجسر بصخور جبل لحريف وجبل المعلا بالملاحة وبصخور فروش البحر.
هل أوقف الجسر رحلات المشاة والسباحين إلى أبي امغوي نهائيا؟
لقد شطر الجسر بيئة (أبو امغوي) وما حولها إلى شطرين هما الشطر الشمالي ومعه الجهة الغربية والذي كان من نصيبه اصحين الزلق والمغاصات ومكامن الصيد السالفة الذكر ومناطق الحظور والركستين والعيوچ وركسة ماية الحلوة والرچوة ومابعدها حيث الإنفتاح على الجهة الشمالية المفتوحة إلى أعماق الخليج، وأما الشطر الجنوبي فقد كان نصيبه آثار الجمرك والفرضة وإلى الجنوب منها أبو امغوي نفسه والمحيسنيات والرفيعة وغليلها المنطلقة منه السفن وآثار برج أبو الليف وإلى الجنوب الغربي منه احظور سكان عنك المعروفين بالعليوات والذين اشتهروا بالزراعة على الشاطئ ومحترفي صيد الأسماك بواسطة الحظور الذين يعرفوا بالبوَّاره (مفرد: بوَّار)، ثم مايحدها جنوبا خور الشيخ والذي ينبثق من قاعه الشمالي مياه عين الخالي المغمورة تحت مياه البحر الذي يشرب منه الصيادون والغواصون.
إن خور أبو امغوي الذي وقع في الشطر الجنوبي وإن حد الجسر من نشاطه فقد استمر وجوده وكانت البحَّارة الذين يفدون إليه من جنوب القطيف منطلقين من طريق مسجد الإمام بالكويكب والمرتبط شمالا بطريق الدستور الذي يفصل بين البحر وبساتين النخيل والمؤدي لبديعة البصري التابعة للشريعة، وكذلك من جهة المصرف المعروف بسد الشويكة والذي أصبح اليوم شارع الرياض، فكل هؤلاء البحَّارة (يدشوا) البحر أي يدخلونه من جهة هذا السد الذي يلتقي بالبحر ويصب فيه عندما كان يصل إلى مكان كلية التقنية وأسواق مزايا هذه الأيام عند تقاطع شارع الجزيرة بشارع الرياض حيث التقاء بساتين النخل بالبحر ويشقهما سد الشويكه الذي كان الطلاب يستذكرون دروسهم على ضفتيه أيام الإختبارات، حيث كان موضع التقاء السد بالبحر هو نقطة نزول الصيادين ومن أراد السباحة في البحر من عامة الناس والطلاب بعد استذكارهم دروسهم للترويح والإستجمام.
فعندما يتوغلون في سباحتهم نحو الشرق ويميلون إلى الشمال فإن هناك من يحذرهم من الوقوع في خور أبو امغوي للإحتياط فقط لأن هناك من يحد من تعمقهم في السباحة شرقا وهو خط سير السفن الشراعية واللنجات والتي تتجه إلى الفرضة قادمة من الجنوب.
لقد استمر هذا من بعد تأسيس الجسر حتى بداية ثمانينات قرن العشرين الماضي عند تأسيس حي الخامسة. لقد اصبح سير السفن المنطلقة من الفرضة فقط إلى الجهة الجنوبية سواء للسفر وحمل البضائع أم لصيد الأسماك والربيان، وفي السابق كان بالإمكان العبور من خلال غليل الرفيعة التي كانت مرفأ بحري وجوي فهي التي كانت تنطلق منها سفن الغوص والصيد لأهالي السنابس وتاروت وعليها قد انشيء أول مطار سعودي وثاني مطار خليجي بعد البحرين.
إن مصطلح الغليل يعني البحر الصالح لانطلاق السفن للملاحة، وهذا الغليل الذي يقع جنوب الرفيعة التي كانت المرفأ البحري والجوي هو الحد البحري الفاصل بين تاروت ودارين، ومنه يمكن الإنطلاق بالسفن إلى الشرق ثم الإتجاه شمالا بمحاذاة سنابس تاروت فهو الثغر الذي من خلاله تستطيع السفن الإبحار شمالا ومرورا على نقطة أخرى للإنطلاق وهي قرية الزور بجزيرة تاروت.
لقد استمر وجود بيئة خور أبو امغوي وماحولها كما كانت حتى مابعد سني بناء الجسر ولكنه أخذ في الأفول بعد أن انشئت في قلبه الأحياء السكنية البحرية الجديدة.
في بداية السبعينات تم تجميع السيارات التالفة ورصّها على جانبي هذا الجسر لتوسعته وفي نفس الوقت للتخلص من نفايا السيارات لكني لا أظن أن استعمال السيارات التالفة كان مجديا في هذا المجال ولابد انه تم إزالتها فيما بعد لأن دفن الأجزاء المجاورة للجسر يمينا وشمالا لم يكن من أجل توسعة الطريق فحسب وإنما شمل أيضا استصلاح الأراضي السكنية وهذا يتطلب دفن البحر بالرمال لا بالسيارات التالفة التي لاتنفع لهذا الغرض.
في منتصف الثمانينات تمت توسعة هذا الجسر أثناء انشاء الأحياء السكنية الجديدة المجاورة للجسر فكان أولهم الدخل المحدود وبعدها الرابعة والخامسة فالمزروع والتركية ثم الشاطيء والخزامي بعد ذلك والمحيسنيات وغيرها.
في ظل هذه التغيرات أخذت أخطار أبو امغوي تضمحل وتتجة نحو الأفول وقد تلاشت معها أيضا الأساطير المحاكة حوله بمجرد أن تم إنشاء الجسر وكانت فرحة المجتمع لاتوصف وخصوصا عند أهالي تاروت فقد انتهت المعاناة التي كانت ممتدة مع امتداد عمر حضارة هذه البقعة من الوطن مع أن أجزاء كبيرة من خور أبو امغوي ظلت تصارع من أجل البقاء حتى بعد دفن منطقة الدخل المحدود والشروع في بنائها في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات كما وقد بقي الكثير منه حتى تسعينات قرن العشرين الماضي دون أن يتعرض للدفن كحي الجزيرة والخزامي وقد شملتهما منطقة خور أبو امغوي وإلى الجنوب الشرقي منه أيضا المحيسنيات التي امتد إليها خور أبو امغوي والتي لم تستصلح كأراض سكنية إلا بعد الألفين أي في القرن الواحد والعشرين.
تظل ثمة أسئلة تراودني عن أمر معاناة عبور المقطع من وإلى جزيرة تاروت وعلى مدى عصور ودهور قد عاشت خلالها أقوام وأجيال كثيرة من البشر، أقوام صنعوا الفلك وشيدوا القصور وبنوا القلاع ونقلوا الصخور الضخمة التي تصل أوزانها إلى الأطنان وذلك إلى مناطق بعيدة وحفروا الآبار والعيون وشقوا القنوات….
فهل كان يعجزهم مد جسر قد لايتجاوز الخمسة كيلو مترات؟ جسر تحمله القناطر مثلا أوحتى بالردم أو بأبسط أشكاله ولو من جذوع النخل؟ هل كانت هناك عوائق أو أسباب أخرى تعطله؟ أم أنهم حاولوا مد جسر ولكنهم فشلوا – مثلا؟ أم أن مده قد يعيق مرور السفن؟ هل كانوا يراعون المحافظة على طبيعة هذه الجزيرة التي وهبها الله إياها؟ أم أنه التخوف من إفساد طبيعة بيئة الحياة البحرية المحاطة بها وانقراض الأسماك؟ أم لأنه في سالف الأزمان وكما هو معروف أن الجزر القريبة من الساحل كانت لها خصوصيتها المقدسة حيث يتم تخصيصها لطقوس العبادات ولسكن سدنتها لذلك يفضل فصلها كما هي من أجل التفرغ وكما هو الحال المعروف عنه أيضا في بعض جزر الخليج كجزيرة المحرق بالبحرين وجزيرة فيلكا بالكويت؟
إن الكثير من الشكاوى والمقترحات التي كتبها المعاصرون ورفعوها إلى الجهات المختصة في ظل الدولة السعودية الحديثة قد تمخض عنها بناء هذا الجسر وما تلاه من جسرين آخرين في فترة وجيزة إذا ماقورنت بمرور تلك العصور وهذا دليل واضح يثبت أن هناك سر جعل أهالي تلك الأزمنة الغابرة قد امتنعوا عن ربط الجزيرة باليابس.