في سنة 1986 كنّا نسكن في الأهواز العاصمة، وكنت لم أزل طالبا في المدرسة؛ وأذاكر دروسي برفقة الموسيقى والتي كنت أستمع إليها بواسطة الأشرطة المغناطيسيّة.
وكنّا نعاني آنذاك من انقطاع الشريط والذي يؤدّي غالبا ما إلى تلفه كليا، خاصّة إذا لم يكن جهاز البثّ على ما يرام؛ مستهلك، أو ليس من النوع الجيّد مثلا.
ونظرا لأوضاعنا الاقتصاديّة آنذاك كان الجهاز الذي أستخدمه مستهلكا، بل كان معطّلا؛ وأراد أخو صديقي أن يرميه في سلّة المهملات فأخذته وصلّحته.
وأذكر أن تصليحه كلّفني 400 ريالا إيرانيّا دبرّت منها مئتين وتبرّع اثنان من أصدقائي بمئتين.
ولم يدفعا المئتين لسواد عيوني، بل كان يصيبهما نصيب من الجهاز أيضا، وإلّا كيف كانا يستطيعان أن يجلسا عندي عندما كانا يزورانني دون الاستماع إلى الموسيقى؟!
أقول كيف كانا يستطيعان ولم أبالغ، ففي ذلك الوقت كانت الموسيقى بالنسبة لنا بمثابة الماء الّذي نشرب، والهواء الذي نستنشق؛ إلى درجة حيث إنّ الشباب كانوا يمتنعون من زيارة بعض الأصدقاء الذين لم يملكوا جهازا لبثّ الأغاني؛ وكنّا نسميه مسجلا. فالجهاز كان يسجل الأصوات ويبثها أيضا. وعملية البثّ كانت تتمّ عن طريق قراءة الشريط الذي كان يدور فينتقل من بَكرة الشريط المستطيلي إلى بكرته الأخرى، ومدّة دورانه من صفحة إلى أخرى وبالعكس ساعة كاملة؛ أي كل صفحة تستغرق نصف ساعة.
ولكثرة الاستهلاك وكما أشرت سالفا، كانت الأشرطة تتقطّع حين دورانها فنلصقها بلاصق، ولأنّ الشريط رقيق وحسّاس للغاية، فإن عملية فتح براغيه الصّغار ولصقه تتمّ بعناية خاصّة. ولم يرجع الشريط بعد إصلاحه كما كان! فقد يلفّه جهاز البثّ ويركمه، أو قد يبتلعه بين قطعاته الحسّاسة فيتدمّر الشريط والجهاز معا.
ولهذا كنت أحتاج بين برهة وأخرى إلى شراء بعض الأشرطة الجديدة، لكن المشكلة إنها لم تكن متوفّرة، أو بعبارة أصحّ كانت ممنوعة!
بعد الثورة الّتي أطاحت بالشاه عام 1979 أفتت الحكومة الإيرانيّة بتحريم الموسيقى، سوى الأناشيد التي كانت تسمّى إسلاميّة ثوريّة، وكلّها باللغة الفارسيّة!
وكان ثمّة شخص يُدعى أبو عارف يبيع أشرطة عربيّة أهوازيّة في سوق عبدالحميد، ولم تكن الأغاني جديدة؛ ومن يجرأ أن يغنّي ويسجل صوته ثم يعرض شريطه للبيع؟! فإن فعل، كان مصيره السجن!
والأشرطة الّتي يبيعها أبو عارف في سوق عبدالحميد كانت قد سُجلت قبل الثورة؛ أي إنّ أغانيها قديمة.
ولم تجد عنده سوى أغاني المطربين الأهوازيين مثل علوان الشويّع وعبدالأمير إدريس، أو العراقيين الرّيفيين مثل داخل حسن وحضيري أبو عزيز.
ويُعتبر بيع هذه الأشرطة جريمة طبعا، فإن قُبض على أبي عارف، لم يكن ليسلم من العقاب.
وأبو عارف ذو البشرة السمراء كان كهلا، قصير القامة، يرتدي كوفية مقلّمة، وبنطلونا ذا لون باهت وقميصا مهترئا.
يخبّئ أبو عارف الأشرطة في محلّ يبعد عن سوق عبدالحميد شارعين، ويقف في السوق ينتظر زبائنه، أو قد يتمشّى رائحا جائيا.
ولا يبيع بضاعته على أيّ من كان، لا يبيع إلا على الذين يعرفهم، أو يطمئنّ أنّهم ليسوا من رجال الأمن!
ولهذا فإنّ زبائنه قليلون ومكسبه ضئيل، وهذا ما تستطيع أن تعرفه من هيئته الفقيرة كما أسلفت.
رحت أبحث عن أبي عارف طبقا للأوصاف الّتي زوّدني بها أحد الأصدقاء، سألت عنه في بداية السوق؛ قالوا لا نعرفه!
توسطّت السوق فسألت عنه؛ ويبدو أنهم لا يعرفونه!
بلغت نهاية السوق، ولم أفلح بلقائه!
رجعت أتصفّح الوجوه لعلّي أجده من أوصافه ...
وإذا بشخص بنفس الأوصاف يسألني:
ماذا تريد من أبي عارف؟!
قلت: أريد أشرطة.
قال: ومن دلّك عليه؟!
قلت: أحد الأصدقاء.
واستمرّ الرّجل يسألني ويتفحّصني كثيرا حتّى اطمأن!
ثمّ سألني عن نوع الأشرطة الّتي أريد.
ثم طلب منّي أن أنتظره حتّى يحضر لي الأشرطة.
ولم يرجع إلا بعد أكثر من ربع ساعة.
كنت أترقّب رجوعه من رأس الشارع الّذي غادر منه، إلّا أنه فاجأني ودخل من الجهة الثانية!
21-10-2018
سعيد مقدم أبو شروق
الأهواز