ازداد التقدم التكنولوجي والعلمي بسرعة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مما أثار اهتمامًا عالميًا بكل الاحتمالات العلمية الجديدة والغريبة جدًا في بعض الأحيان. شكّل الجنود الهجينين بين الإنسان والقرد Humanzee أحد هذه الاحتمالات.
كان ذلك عصر الفولاذ والسكك الحديدية ونظام المصانع وعلم تحسين النسل. ولكن قبل أن تتجه أوروبا بالكامل نحو القومية المتطرفة والشخصيات المدهشة التي قامت بحملة لإنتاج سلالة بشرية سامية، خطرت فكرة تهجين البشر بالقردة للعالم الروسي الذي نجح دون غيره في تهجين مجموعة متنوعة من الثدييات بما في ذلك الحمير الوحشية. لكن لم يكن اسمه (جوزيف ستالين). بل كان (إيليا إيفانوف)، الذي بحث امكانية تهجين الإنسان بالقرد قبل وقت طويل من نجاح (ستالين) سياسيا.
بفضل المقالات التي نشرتها المنظمات المؤيدة للخلقية العلمية على مر السنين، اختلطت تجارب (إيفانوف) الغريبة مع (ستالين)، على افتراض أنه طلب من العلماء انتاج سلالة من الجنود الهجينين بين الإنسان والقرد والذين سيكونون أقوياء للغاية وسيخدمون في جيش سوفييتي هائل. لم تكن مثل هذه الخطط ضمن أنظار (ستالين). بل أن مثل هذه القوة المقاتلة في الواقع لم تكن تهم (إيفانوف) أبدًا. كل ما أراد فعله هو إثبات إمكانية تهجين الإنسان.
القصة الحقيقية وراء تمكّن (إيفانوف) من تأمين مبلغ صغير من الحكومة السوفيتية لإجراء تجارب التلقيح الاصطناعي على البشر والشمبانزي هي أكثر إثارة للفضول من الشائعات، ولكنها مشينة بنفس القدر.
من السهل إلقاء اللوم على ستالين، لكنه لم يكن مسؤولاً
يعتبر (جوزيف ستالين) علامة سهلة لإلقاء اللوم عليه في العديد من الشرور فقد كان مذنبًا حقًا -في كثير من الحالات- لكن الاقتراح القائل بأنه شجع أو موّل أو وجه بطريقة أو بأخرى مشروعًا لإنشاء جنس هجين من البشر والقردة يدعم الجيش السوفيتي بنموذج من الجنود الخارقين ليس عبثيًا وحسب لكنه كاذب أيضًا.
من المؤكد أن التقدم العلمي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أثبت خصوبة الأرضية لأكثر التجارب والبرامج وحشيًة وانحطاطًا أخلاقيًا. يكفي المرء أن ينظر إلى الفساد الذي أصاب علم تحسين النسل ليفهم أن المتمكنين علميًا والأقوياء سياسياً ومالياً في العالم كانوا حريصين على استخدام “العلم” لإخضاع السكان وتمكين السيطرة عليهم. ومع ذلك، لم يكن إنشاء ذلك الهجين تحت الأنظار السوفيتية. لكن مؤديو نظرية الخلق في القرن العشرين هم من بدأوا في الترويج للقصة الزائفة كوسيلة لتعزيز حججهم ضد نظرية التطور.
أدخلت إحدى المجلات الأكاديمية اسم (ستالين) بشكل خاطئ في صفحاتها
استندت منشورات مؤديي نظرية الخلق في ادعاءاتهم حول ذنب (ستالين) إلى مقال صحفي واحد كتبه العالم الروسي (كيريل روسيانوف). نظرًا لأن المجلات الأكاديمية تخضع عادةً لمراجعة الأقران، فقد بدا المصدر مشروعًا، إلى أن قرأ أحدهم المقالة الأصلية وأدرك أن (روسيانوف) كان يكتب عن العالم الروسي السابق، (إيليا إيفانوف)، الذي أجرى بالفعل -أو حاول إجراء- بعض التجارب على التلقيح الاصطناعي لإناث الشمبانزي مع الحيوانات المنوية البشرية، وكذلك تلقيح النساء مع الحيوانات المنوية للشمبانزي.
لم يُعثر على اسم (ستالين) أو دليل لنفوذه أو موافقته في أي مكان من قضية (إيفانوف) أو مقالة (روسيانوف). ومن المحتمل جدًا أن (ستالين) عرف بالقضية أو قرأ عنها في الصحف، تمامًا مثل أي شخص آخر.
إن لم يكن ستالين، فمن قاد حملة التهجين بين الإنسان والقرد؟
العالم السوفييتي (إيليا إيفانوف).
كان (إيليا إيفانوف) عالِمًا يحظى باحترام كبير ومعروف بتفانيه الشديد في خلق الإمكانيات العلمية الجديدة والرائعة والتي ظهرت في مطلع القرن العشرين. على الرغم من – أو ربما بسبب- شغفه، لم يكن (إيفانوف) يسأل بالضرورة عما إذا كان ينبغي القيام بشيء ما، فلو كان ذلك ممكنًا من الناحية الفنية. لم يكن لديه مشكلة أخلاقية كبيرة.
قضى معظم حياته المهنية في العمل مع المواشي لتحسين تربية الخيول، ومع ذلك، أصبح معروفًا في جميع أنحاء العالم بدراساته ونجاحاته في التلقيح الاصطناعي. في الواقع، كان قادرًا على إنتاج أنواع هجينة من الماشية، بما في ذلك مزيج من الحمار والحمار الوحشي المعروف باسم “زيدونك”.
علاوة على ذلك، فإن أي شخص يعتقد بأن القيادة السوفيتية أقنعت (إيفانوف) باستكشاف إمكانيات تهجين القرد البشري، يتوجب عليه إعادة النظر إلى ماضي (إيفانوف)، حيث كان يتحدث ويكتب ويلقي محاضرات حول إمكانية تهجين قرد بشري في وقت مبكر من عام 1910.
تلقى (إيفانوف) تمويلًا لتجاربه بعد الثورة البلشفية
خلال السنوات التي أعقبت الثورة البلشفية عام 1917، اعتقد (إيفانوف) أن الوقت قد يكون مناسبًا للتقرب من النظام الجديد للحصول على التمويل. لكن ليس لتطوير المحاربين الخارقين، وإنما لإجراءات التلقيح الاصطناعي العام المشابه لما سبق أن قام به فعلًا؛ على الرغم من ذلك، هذه المرة سيكون الأمر بالطبع أكثر إثارة للجدل نظرًا لكونه سيشمل البشر. ومع ذلك لم يحصل على الكثير من الدعم، ولم يأتِ أيٌّ منه من (ستالين).
في عام 1924، منحت الحكومة السوفيتية، وتحديداً اللجنة المالية السوفيتية، بعد موافقة «أكاديمية العلوم السوفيتية»، (إيفانوف) ما يعادل 10000 دولار لاستكشاف الاحتمالات الهجينة بين الإنسان والقرد. كان الحدث مرموقًا للغاية، وكان العالم الشهير (إيفان بافلوف) حاضرًا لتلك المناسبة.
يعتبر (إيليا إيفانوف) أول من قام بتلقيح إناث الشمبانزي بالحيوانات المنوية البشرية
تزوّد (إيفانوف) وفريقه بأموال المنحة التي كان قد حصل عليها مؤخرًا، ووصلوا إلى محطة أبحاث في (غينيا) الفرنسية في مارس 1926. حيث كان الصيادون المحليون يصطادون الشمبانزي في البرية ويعيدونها إلى العلماء في محطة الأبحاث ليقوموا بتجاربهم.
في النهاية، انتهى الأمر بـ (إيفانوف) بحصوله على ثلاث إناث شمبانزي صغيرات، سرعان ما تم تلقيحها بالحيوانات المنوية البشرية. لكن التلقيح لم ينجح.
حاول تلقيح نساء من (غينيا الجديدة) الفرنسية دون موافقتهن
بعد فشل تلقيح الشمبانزي، قرر (إيفانوف) تلقيح نساء أفريقيات دون معرفتهن بحيوانات منوية للشمبانزي. لقد خطط للقيام بذلك بحجة الفحص الطبي القياسي. لكن لحسن الحظ، رفض حاكم (غينيا) الفرنسية خطته. أُجبِر (إيفانوف) على العودة إلى روسيا، حيث سرعان ما وضع خطة أخرى للتجربة على البشر.
بعد عودته إلى روسيا، تطوعت خمس نساء للتلقيح بمني الشمبانزي
بعد عودته إلى الوطن روسيا، شرع (إيفانوف) في تنفيذ أحدث مخطط له لإنشاء هجين بين الإنسان والقرد. أرسلوا له 20 حيوان من الشمبانزي من إفريقيا، وكانت الفكرة هي تشكيل حاضنة سوفيتية للشمبانزي. لكن جميع الحيوانات نفقت قبل وصولها إلى روسيا باستثناء أربعة.
أحضر (إيفانوف) الأربعة المتبقين إلى منطقة أكثر دفئًا في الاتحاد السوفيتي. ثم تمكن من إقناع خمس نساء محليات بالموافقة على التلقيح الاصطناعي بمني الشمبانزي. لكنه مجددًا لم يتمكن من إجراء التجربة، حيث مات آخر أربعة من حيوانات الشمبانزي بعد وقت قصير من وصولها.
كان الدافع والمحفز لعمل (إيفانوف) هو تفنيد بعض المعتقدات الدينية
يعود جزء من احتضان السوفييت لتجارب (إيفانوف) لعلاقتها بنظرية التطور لـ (داروين). إذ استند تفكير (إيفانوف) إلى عمل (داروين) الذي كان يعتقد أن تكاثر البشر بالقردة من شأنه أن يدل على علاقتهم الوثيقة بالشجرة التطورية. وهذا بدوره سيبرهن على تفوق العلم على الدين، وهو جزء كبير من المشروع السوفيتي لإنكار الدين وتخليص الناس منه.
بالنظر إلى دافع (إيفانوف) “الجزئي على الأقل” في هذا الصدد، فلا عجب أن فشله في إنتاج إنسان قد أضاف الوقود إلى النار المسيحية الخلقية.
ألهمت تجارب إيفانوف الفاشلة الخلقيين للتصريح بأن نظريات داروين كانت خاطئة
رأى مؤيدو الخلق والمسيحيون الإنجيليون، حتى في الجزء الأول من القرن العشرين، قيمة كبيرة في تعزيز فشل تجارب (إيفانوف). فعدم قدرة البشر والشمبانزي – المرتبطون ارتباطًا وثيقًا وفقًا للداروينية – على التكاثر، سيدحض بشكل واضح نظرية (داروين).
كانت هذه هي اللحظة التي أثارت الترويج الواسع لقصة أن (ستالين) يقوم بخلق الجنود الهجينين بين الإنسان والقرد، لأنها سمحت لمعارضي الداروينية بتشويه سمعة العالِم ونظريته وسمعة (ستالين) في الوقت نفسه.
أفكار تهجين القرود بالبشر لم تكن في صالحه في النهاية
بحلول الوقت الذي استُنفِذَ فيه التمويل الحكومي لدى (إيليا إيفانوف)، كان الوسط العلمي قد سئم أيضًا من فكرة تهجين القرد بالإنسان. أدى النمو المستمر للقومية في جميع أنحاء أوروبا بالقادة والمواطنين إلى استكشاف نهج مختلف لعلم تحسين النسل.
في حين أن المفهوم الأصلي تضمن قدرة الآباء على تحسين جينات أطفالهم – احتمالية القضاء على المرض أو اختيار أشياء مثل لون العين – رأى القوميون مثل الحزب النازي في تحسين النسل وسيلة التخلص من السكان ذوي العرق “الأدنى” وتشجيع “أفضل” العينات البشرية لتهجين المزيد من نسلهم. باختصار، سرعان ما حلت فكرة “عرق الأسياد” الآري محل مفهوم الجنود الهجينين بين الإنسان والقرد. لم يمض وقت طويل حتى أصبح مفهوم تحسين النسل غير مقبول علميًا واجتماعيًا.
شرع السوفييت بحملةِ تطهيرٍ للبشر “الأقل شأنا” – وكان من بينهم (إيفانوف)
ينتهي الأمر بالعديد من الحركات السياسية إلى تصفية أفرادها. انظر على سبيل المثال إلى ما حدث لـ (روبسبير) بعد الثورة الفرنسية. لم يصل العالم (إيليا إيفانوف) إلى النهاية الوحشية العنيفة التي قابلها الزعيم الفرنسي، ولكن عندما قرر (ستالين) إجراء عملية تطهير للأوساط العلمية السوفيتية في عام 1930 – وهي واحدة من عمليات تطهير عديدة للمثقفين خلال فترة حكمه في عام 1930 – تم القبض على (إيفانوف)، واتهم بالتحريض على حركة معادية للثورة، ونفي إلى (كازاخستان)، حيث توفي بعد ذلك بعامين.
لم تكن هذه نهاية فكرة هجين القرد البشري
اتضح أن أفكار (إيفانوف) لم تمُت معه نهائيًا. حيث قيل في الحالة غير العادية للشمبانزي (أوليفر)، وهو شمبانزي غريب الأطوار عُرف بتصرفاته الشبيهة بالبشر كالمشي والتدخين، أن أصل الإنسان هو خليط جيني بين البشر والشمبانزي. بالإضافة إلى مظهره اللافت، حيث أشارت التقارير إلى أنه يحتوي على 47 كروموسومًا، في حين أن الشمبانزي الطبيعي لديه 48 كروموسومًا، مما يجعله على ما يبدو أقرب إلى الإنسان الذي يوجد لديه 46 كروموسومًا.
تم اختبار الحمض النووي لأوليفر في عام 1996، ومن خلاله تم دحض هذه الادعاءات. حيث أشارت الاختبارات إلى أنه يمتلك في الواقع الـ 48 كروموسومًا، تلك التي يمتلكها الشمبانزي الطبيعي. لكن لا يزال مظهر (أوليفر) غير العادي يثير الفضول.
بقلم: سامي عبد القدوس
مصدر الموضوع
ranker.com