في عام 1933 استقلّت أغاثا كريستي وزوجها سفينة سياحية في النيل نقلتهما إلى معابد الأقصر وأسوان وشلالات النيل حيث استوحت كريستي الرواية التي نشرت عام 1937 "موت فوق النيل".
كاتبة روايات الإثارة والجريمة الشهيرة أغاثا كريستي تجلس في منزلها وحولها كتب مكدسة عام 1950 (غيتي)
بعد تأخير طويل يُتوقع أن يصدر فيلم "موت فوق النيل" أخيرا في فبراير/شباط 2022.
ويستوحي الفيلم قصته من رواية الكاتبة الإنجليزية الشهيرة أغاثا كريستي (1890-1976) التي نُشرت أول مرة عام 1937، وتُظهر الرواية افتتان الروائية -التي تصنفها موسوعة غينيس باعتبارها الروائية الأكثر مبيعا على الإطلاق- بالشرق الأوسط وماضيه القديم وبخاصة مصر التي كانت نقطة تحول في حياة كريستي.
وفي تقريره بمجلة "نيو لاينز" (New lines)، أشار جون يي وونغ -طالب الدكتوراه في علم المصريات بجامعة تورنتو- إلى أن كريستي زارت مصر أول مرة في سن الـ17، بعد وقت قصير من إتمام دراستها في باريس؛ إذ نصحت والدتها بقضاء الشتاء في أجواء أكثر دفئا بعد نوبة مرض خطير.
لم يكن اختيار القاهرة أمرا غير معتاد، فقد كانت مصر في ذلك الوقت تخضع إلى حد كبير للإدارة البريطانية، وكانت شركة السياحة الإنجليزية الشهيرة "ثوماس كوك" (Thomas Cook & Son) تنظم جولات إلى المنطقة بانتظام، ولأن الاضطراب المالي أصبح ثابتا في الأسرة منذ وفاة والد أغاثا، فكان الموسم في لندن باهظ التكلفة في حين كانت تكلفة المعيشة في القاهرة أسهل بكثير.
مراهقة في مصر
كريستي التي عدّت نفسها خجولة وغير منفتحة اجتماعيا في ذلك الوقت وصفت الأشهر الثلاثة التي أمضتها في مصر بأنها "حلم السعادة".
وكانت تذهب إلى 5 حفلات رقص أسبوعيا، وتستمتع باهتمام الشباب، وفي وقت لاحق من حياتها رأت كريستي أن الوقت الذي قضته في القاهرة كان أمرا محوريا في التغلب على الفوضى التي تعيشها.
تركت المدينة انطباعا مميزا لدى الفتاة الموهوبة، وستؤسس كريستي روايتها الأولى غير المنشورة "ثلوج على الصحراء" على تجربتها في فندق الجزيرة في القاهرة.
أرسلت كريستي مخطوطتها إلى عدد من الناشرين لكنهم رفضوا نشرها كما توقعت بسبب قلة خبرتها يومئذ، وسردت لاحقا الوقت الذي قضته في القاهرة في سيرتها الذاتية "صورة غير مكتملة".
ومع ذلك، لم تكن كريستي المراهقة قد طوّرت شغفها بالعصور القديمة بعد، فبخلاف رحلة قصيرة إلى أهرامات الجيزة رفضت مرارا دعوة والدتها إياها لزيارة المواقع الأثرية في الأقصر، مفضلة الانغماس في شغفها الجديد بلعبة البولو (الصولجان)، واستغرق الأمر نحو 20 عاما قبل أن ترى المعابد والمناظر التي سردتها في أشهر أعمالها، وقالت عن ذلك "كانت عجائب العصور القديمة آخر ما اهتممت برؤيته (آنذاك)، وأنا سعيدة جدا لأنها لم تجذب اهتمامي.. كان يمكن أن أفسدها إذا رأيتها بعيون غير مقدرة. ليس هناك خطأ في الحياة أكبر من رؤية الأشياء أو سماعها في الوقت الخطأ " (أغاثا كريستي: سيرة ذاتية).
رواية "موت فوق النيل" لأغاثا كريستي تحولت إلى أكثر من فيلم سينمائي ومسرحية (الجزيرة)
في عام 1922 بعد وقت قصير من بداية مسيرة كريستي في الكتابة تم اكتشاف قبر توت عنخ آمون في وادي الملوك، وأدى هذا الحدث إلى ظهور موجة جديدة من "الهوس بالمصريات" الذي أشعلته وسائل الإعلام وعلى وجه الخصوص صحيفة "التايمز" (The Times) التي اشترت حق النشر الحصري لأخبار التنقيب.
كان اتفاق الحصرية لصحيفة التايمز يعني أن العديد من المراسلين الغربيين الآخرين الذين قدموا إلى مصر اضطروا إلى اللجوء إلى التكهنات والتلفيق، وانتعش إثر ذلك ما يسمى بـ"لعنة الفراعنة" بعد حوادث أعقبت اكتشاف القبر.
ويقول الكاتب إن الفكرة القائلة إن المومياوات والأرواح المصرية يمكن أن تسبب سوء الحظ هي فكرة قديمة وكانت جزءا من الثقافة الشعبية منذ رحلة نابليون الشهيرة إلى مصر، واستوحتها كريستي في قصتها القصيرة "مغامرة القبر الفرعوني" عام 1924.
في هذه المرحلة ظل تصوير كريستي لمصر سطحيا، ومع ذلك فإن الفصل التالي من مسيرة كريستي المهنية سيتأثر بعمق باهتمامها الجديد بالماضي القديم.
كاتبة تحت ضغط
في عام 1926، بعد أكثر من عقد من الزواج، وقع الطلاق بين أرشيبالد كريستي وأغاثا، وكانت التجربة غير متوقعة ومدمرة للكاتبة التي فقدت والدتها قبل بضعة أشهر، وأدى ذلك إلى اختفائها الشهير مدة 10 أيام، مما جذب تغطية إعلامية واسعة النطاق.
كانت أغاثا كريستي في ذلك الوقت روائية تتمتع بشهرة كبيرة بعد روايتها "مقتل روجر أكرويد" الناجحة للغاية.
وأشارت كريستي إلى الطلاق على أنه اللحظة التي تحولت فيها من كاتبة هاوية إلى كاتبة محترفة، إذ أصبحت الكتابة ضرورة لإعالة نفسها، وفي غضون عامين أصبحت محبطة من الضغط المستمر لإنتاج مزيد من الروايات.
وبعد محادثة عابرة مع بحار، أصبحت كريستي مفتونة بفكرة زيارة بغداد. كانت تقرأ أيضا عن أعمال التنقيب التي قام بها المستكشف الإنجليزي ليونارد وولي في أور العراقية، وهي عملية حفر لم يتم تجاوزها عالميا بحلول عام 1928 إلا من خلال الاكتشاف المبكر لمقبرة توت عنخ آمون.
بعد صراع على التذاكر ووثائق السفر، استقلّت كريستي قطار الشرق السريع، وفي بغداد قامت الكاتبة برحلة استكشافية إلى مدينة أور القديمة، حيث قامت بجولة في الموقع كضيف عزيز.
أغاثا كريستي في شبابها (مواقع إلكترونية)
وكانت كاثرين وولي -زوجة ليونارد- عضوة مهمة في الحفريات ومن أشد المعجبين برواية أغاثا "مقتل روجر أكرويد".
وأصبحت الاثنتان في النهاية صديقتين حميمتين، وكانت الشخصية الرئيسة في رواية كريستي "جريمة قتل في بلاد ما بين النهرين" مبنية على كاثرين. وقعت الروائية في حب أور وستقوم بزيارة ثانية في غضون عام بدعوة من آل وولي.
كان أحد مساعدي ليونارد وولي عالم آثار واعدا في العشرينيات من عمره يدعى ماكس مالوان، وصفته كريستي بأنه "نحيف، مظلم، شاب، وهادئ جدا. نادرا ما كان يتحدث لكنه كان مدركا لكل ما هو مطلوب منه".
في زيارة كريستي الثانية لأور، كلفت كاثرين الشاب مالوان بمرافقة الروائية إلى المواقع التاريخية في جميع أنحاء العراق. ومع ذلك، تم قطع الرحلة عندما تلقت كريستي أنباء من إنجلترا بأن ابنتها البالغة من العمر 10 سنوات، روزاليند، مصابة بشدة بالتهاب رئوي، وكان مالوان مرافقها في العودة إلى بريطانيا خلال الرحلة المملوءة بالقلق، وفي نهاية العام تزوجته.
أعمال التنقيب
بعد زواجهما، رافق مالوان كريستي بانتظام في أعمال التنقيب في الشرق الأوسط. لقد استمتعت كثيرا بأسلوب الحياة في هذا المجال، وكانت تقضي بداية موسم التنقيب في الكتابة، ثم كرست نفسها بالكامل للعمل الميداني عندما تكثفت أعمال التنقيب.
وسرعان ما أصبحت كريستي على دراية كبيرة بالمجال الذي أثر في كتاباتها تأثيرًا كبيرًا، وخلال تلك الحقبة كانت كريستي تنتج بانتظام كتابين أو 3 كتب سنويا، وكثير منها يعدّ من بين أفضل أعمالها.
وكتبت كريستي "يجب أن يجري في دماء الإنسان الاستمتاع بالجنازات والمراسم الجنائزية. أين سيكون علم الآثار إذا لم تكن هذه السمة في الطبيعة البشرية؟".
وفي مصر أصبح مالوان وكريستي أصدقاء مع هوارد كارتر المنقب وعالم الآثار الإنجليزي في مقبرة توت عنخ آمون، وغالبا ما كانوا يقيمون معا في فندق وينتر بالاس في الأقصر، في وقت وصف فيه مالوان كارتر بأنه "شخصية ساخرة ومسلية".
تأثرت كريستي بماضي مصر القديم، وأصبحت الزيارات الشتوية أمرا معتادا بعد مواسم التنقيب في العراق وسوريا، لتصبح مصر مصدر إلهام لملكة الجريمة.
وفي عام 1933 استقلت كريستي وزوجها سفينة سياحية في النيل نقلتهما إلى معابد الأقصر وأسوان وشلالات النيل حيث استوحت كريستي الرواية التي نشرت في عام 1937 "موت فوق النيل".
أخناتون
في الوقت نفسه تقريبا، كتبت كريستي أيضا مسرحية تاريخية بعنوان "أخناتون"، تتناول الفرعون الذي يحمل الاسم نفسه والذي بدأ التحول عن الديانة المصرية التقليدية، إلا أنه تعرض للانتقاد بعد وفاته.
وجاء الدافع وراء المسرحية من عالم المصريات ستيفن جلانفيل، وهو صديق قديم لمالوان كان قد زوّد كريستي بأدب من عصر أخناتون. وتظهر المسرحية معرفة الروائية العميقة بالموضوع، وقد تم اقتباس كثير من حواراتها من النصوص القديمة نفسها.
ولا يقتصر اهتمام كريستي بمصر القديمة على ممارساتها الجنائزية، فقد كانت مفتونة بالطريقة التي تعكس بها المجتمعات الماضية الحاضر، وبالصراع الدائم بين التقاليد والتغيير. وغالبا ما كانت هذه الموضوعات مصدر نقاش بينها وبين مالوان، وجزء كبير من المسرحية يدور حول هذه الأسئلة.
وخصص مالوان العديد من الصفحات في مذكراته لـ"أخناتون"، واصفا إياها "بأجمل وأعمق مسرحية لكريستي.. والمعالجة أقرب ما تكون إلى المعقولية التاريخية مثل أي مسرحية عن الماضي".
وكتبت أغاثا "أخناتون" من دون توقع لإنتاجها مسرحيا على الإطلاق، ولطالما استمتعت كريستي بكتابة المسرحيات، وعدّتها فترة راحة من واجب إنتاج روايات الجريمة.
وأوضحت أن "كتابة المسرحيات أسهل بكثير من كتابة الكتب، لأنه يمكنك رؤيتها بعين عقلك. لا يعوقك كل هذا الوصف الذي يعرقلك عرقلة رهيبة في الكتاب ويمنعك من متابعة ما يحدث "، لكن "أخناتون" بقيت غير منشورة على مدى عقود بعد اكتمالها.
وعندما اندلعت الحرب في أوروبا عادت كريستي للعمل في تقديم الرعاية الصحية في مستشفى يونيفرسيتي كوليدج بلندن، في حين خدم مالوان في البداية في وزارة الطيران.
وكان الانفصال عن مالوان مرهقا عاطفيا لكريستي، لكن الحرب العالمية الثانية تزامنت مع بعض أكثر سنوات حياتها المهنية غزارة. كان خيال الجريمة أيضا نوعا شائعا في مرحلة أضحى فيها الإلهاء في شكل خيال متنقل مطلوبا بشكل كبير.
ونظرا إلى أنها نادرا ما كانت تتلقى أخبارا من مالوان، كتبت كريستي أيضا "تعال، أخبرني كيف تعيش"، وهي مذكرات توضح تفاصيل حياتها في الحفريات بما في ذلك مصر التي كتبت عنها أيضا رواية "الموت يأتي في النهاية" عام 1945.