في كتاب بعنوان "الملائكة المظلمون في طبيعتنا البشرية" (The Darker Angels of Our Nature) نشر 17 مؤرخًا ردا على كتاب "الملائكة الأفضل في طبيعتنا البشرية" الذي يرى أن العنف العالمي آخذ في الانخفاض، وهاجموا في كتابهم ما وصفوه بـ"التاريخ المزيف".
جنود أميركيون يرفعون لافتات كتب عليها "سلام" (غيتي)
بعد عقد من الزمان من إعلان عالم النفس الكندي ستيفن بينكر أن العنف آخذ في الانخفاض، لا يرى المؤرخون أي مؤشرات تدل على صحة ما ذهب إليه حتى الآن.
كتاب بينكر "الملائكة الأفضل في طبيعتنا البشرية" (The Better Angels of Our Nature) يجادل بأن العنف بكل أشكاله -بما في ذلك الحرب- يشهد تراجعا، ويستعرض بيانات وإحصاءات توثق ببساطة تراجع العنف عبر الزمان والجغرافيا، بحسب تقديره.
ويسلط الكتاب -الصادر قبل 10 سنوات- الضوء على عوامل يرى أنها أسباب محتملة لهذا الانخفاض العالمي في العنف، أهمها احتكار الدولة القومية للقوة، والتجارة (إبقاء الآخرين أحياء أكثر قيمة من كونهم موتى)، وزيادة محو الأمية والتواصل (تعزيز التعاطف)، وثقافة حقوق الإنسان، وكذلك ظهور توجه عقلاني لحل المشكلات.
ويشير بينكر إلى أنه من المفارقات أن انطباعنا عن العنف لم يتبع هذا التراجع، ربما بسبب زيادة التواصل، وأن المزيد من التراجع ليس حتميًا.وقد استُقبل الكتاب بحفاوة في العديد من الأوساط، قبل أن تصدر ردود عديدة عليه، لم تخف حدتها حتى الآن.
أسطورة الحداثة غير العنيفة
نشر 17 مؤرخًا -سبتمبر/أيلول الماضي- ردا على كتاب بينكر بعنوان "الملائكة المظلمون في طبيعتنا البشرية" (The Darker Angels of Our Nature) هاجموا فيه ما وصفوه بـ"التاريخ المزيف" مشيرين إلى أن ردهم يهدف إلى "فضح أسطورة الحداثة الخالية من العنف".
كتاب "الملائكة الأفضل في طبيعتنا البشرية" (يسار) وإلى جواره كتاب "الملائكة المظلمون في طبيعتنا البشرية"
قام المؤلفون بدراسة تاريخ العنف من اليابان وروسيا إلى أميركا الأصلية وإنجلترا في العصور الوسطى والشرق الأوسط الإمبراطوري، وكشف هؤلاء الخبراء عن زيف أسطورة الحداثة اللاعنفية، مؤكدين أن القصة الحقيقية للعنف البشري أكثر ثراءً وإثارة للاهتمام وأكثر تعقيدًا بشكل لا يضاهى من سرد بينكر المختزل والمبسط .
وقد يرى البعض هذا الجدال مجرد "زوبعة في فنجان مجموعة من المفكرين"، لكن هذا النقاش يثير سؤالا بالغ الأهمية، وهو "هل يمكننا معرفة مستقبل شؤون الحرب من دراسة الماضي القديم؟"
يرى بينكر أنه يمكننا الاستدلال على مستقبل الحرب والسلام من أحداث التاريخ، وقد استدل على ذلك ببيانات تمتد آلاف السنين إلى عصور ما قبل التاريخ تظهر تراجع الحروب، بحسب تقرير لصحيفة "الغارديان" (The Guardian) البريطانية.
لكن بعض منتقديه يقولون إن الحروب التي تخوضها الدول الحديثة، والتي لا يتجاوز عمرها بضع مئات من السنين -أو أقل- لا تملك أي قواسم مشتركة مع الصراعات التي سبقتها؛ ولذلك، فإن من السابق لأوانه معرفة إذا ما كان "السلام الطويل" المفترض الذي نتمتع به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مجرد سلام عابر أم حالة مستدامة.
الحرب.. ما فائدتها؟
يرى المؤرخ وعالم الآثار إيان موريس من "جامعة ستانفورد" (Stanford University) -مؤلف كتاب "الحرب.. ما فائدتها؟" (?War! What Is it Good For) الصادر عام 2014- أن طبيعة العنف الجماعي لم تتغير كثيرًا منذ آلاف السنين، وأن ما تغير هو أن المجتمعات البشرية كانت أصغر في الماضي.
كما يرى أن مذبحة قتل فيها عشرات الصيادين في السودان منذ حوالي 13 ألف عام هي أقدم مثال معروف على العنف الجماعي، وهي مهمة لفهم الحروب الحديثة.
ويجادل موريس -في كتابه- بأن الحرب أساسية للتاريخ، وفقط عبر الحرب تمكنت البشرية من الالتقاء في مجتمعات أكبر، وبالتالي التمتع بالأمن والثروات.
ويعود الفضل إلى حد كبير في حروب الماضي إلى أن حياتنا الحديثة أكثر أمانًا 20 مرة من تلك التي عاشها أسلافنا في العصر الحجري، بحسب عرض للكتاب نشرته صحيفة الغارديان البريطانية.
ولإثبات قضيته، يراجع موريس تاريخ الحرب متنقلا بالقارئ من الأقواس والسهام إلى الصواريخ الباليستية، ويرسم خطوطا في التطور الموازي للأشكال الاجتماعية، من مجموعات الصيد والجماعات البدائية إلى الاتحاد الأوروبي.
ويوافق موريس فيما ذهب إليه عالم الآثار ديتليف غرونينبورن من المتحف الروماني الجرماني في ماينز بألمانيا، ففي عام 2015، وصف هو وآخرون مذبحة وقعت بين المزارعين الأوائل في أوروبا في منطقة بألمانيا، منذ نحو 7 آلاف عام، قُتل فيها أكثر من 20 شخصًا بأدوات قتال حادة أو بالسهام ودفنوا في مقبرة جماعية، وقد كسرت سيقانهم بشكل ممنهج إما قبل قتلهم بقليل أو بعد قتلهم مباشرة.
ويشير عدم وجود فتيات شابات بين القتلى إلى احتمال أن يكن قد اختطفن من قبل المهاجمين.
ويقول غرونينبورن إن المذابح التي يتم فيها قتل مجتمعات بأكملها كانت تحدث بشكل متكرر في أوروبا في ذلك الوقت، وإن إحدى السمات المميزة لتلك المذابح هي الرغبة في محو هوية الضحايا. ويرى أن الاختلاف الوحيد بين حروب الماضي والحاضر هو حجم تلك الحروب.
ولكن، رغم أن بعض الباحثين يتفقون مع بينكر في أن الحروب في عصور ما قبل التاريخ والحروب الحديثة تمثل الظاهرة نفسها، فإنهم لا يتفقون معه بالضرورة فيما ذهب إليه من أن هناك أدلة تشير إلى تراجع طويل الأمد للحروب.
وقد بنى بينكر ادعاءه بأن عصور ما قبل التاريخ كانت شديدة العنف على دراسة نحو 20 موقعًا أثريًا يمتد تاريخها على مدى 14 ألف عام.
ويقول المؤرخ داغ ليندستروم من "جامعة أوبسالا" (Uppsala University) السويدية إن هذه المواقع تشهد بشكل قاطع على أعمال العنف القديمة "ولكن لا يمكن الاعتماد عليها للخروج باستنتاجات تتعلق بمقارنة كمية" بين حروب الأمس والمستقبل.