تتميز اللهجة القاهرية اليوم بنطق مختلف عن الفصحى لحرفي الجيم والقاف، والتحريف اللغوي للقاف تحديدا هو الأكثر انتشارا بمصر مع عزف مختلف على بقية الحروف مدا أو قصرا.
إرث الألسنة المصرية القديمة يتبدد لصالح لهجة القاهرة بسبب الدراما (غيتي)
جاء أشرف خاطر -وهو بائع شاب في إحدى متاجر الجملة- إلى الجيزة قبل 20 عاما بحثا عن فرصة عمل، وحينما كان يعود لبلدته في إجازاته القصيرة بأسيوط جنوبا، كان يتعرض للتنمر من قبل أقرانه وأصدقائه، إذا حاول الحديث باللهجة القاهرية، باعتباره يريد الانسلاخ وادعاء التمدن، برأيهم.
وفي القاهرة، حينما كانت تفلت منه بعض المفردات الصعيدية غير المتداولة، كان يتعرض للسخرية من زملائه القاهريين، باعتبارها مفردات غريبة.
يقول أشرف للجزيرة نت "اليوم بات الأمر مختلفا، فحينما أتحدث بالقاهرية في بلدتي بالصعيد أجد الأمر عاديا لأن كثيرين من الجيل الجديد بات يتحدث اللهجة القاهرية باعتبارها نوعا من التمدن، وخصوصا بين الفتيات، حيث يسود اعتقاد أنها لهجة أرق وأرقى".
والمفردات الصعيدية -التي لا تزال تفلت من لسانه بحكم 20 عاما قضاها في بلدته قبل أن ينتقل للقاهرة منذ 20 عاما أخريات- لم تعد تشكل مثار سخرية بين زملائه القاهريين، فأصبحوا يفهمونها بحكم انتشار ونجاح المسلسلات التي تتناول الصعيد وناسه، علاوة على أن كثيرا ممن يعيشون ويعملون اليوم في القاهرة، ترجع أصولهم للصعيد والدلتا.
وتعتقد علياء ناصر -الباحثة في اللغات المصرية القديمة وترجع أصولها لكفر الشيخ شمالا- أنه عادة ما كانت لهجة العاصمة بمثابة اللهجة التي تتوحد عليها ألسنة المصريين عبر التاريخ، فقديما كانت لهجة طيبة، -الأقصر حاليا- هي الأكثر انتشارا بحكم أنها كانت العاصمة الفرعونية، فيما تبوأت الإسكندرية هذه المكانة لاحقا حينما صارت عاصمة البلاد أيام حكم اليونان ثم الرومان لمصر.
وتشير الباحثة الأثرية إلى أن اللغة القبطية -وريثة المصرية القديمة- حملت خريطة نطق الحروف في كل منطقة جغرافية بـ19 لهجة تقترب من الخريطة الجغرافية الحالية لنطق اللهجات، ومنها لهجات البحيرة (نسبة لمحافظة البحيرة شمال غرب) والصعيد (جنوبا) والفيومي (وسط غرب) والأخميم (جنوبا).
وأوضحت أن الشمال كان ينطق الجيم من مخرج الكاف بالفم، كما هو الحال اليوم، بينما ينطقها الصعيد معطشة، مستدلة على ذلك بنطق اسم الملكة كليوباترا، كما ورد في خرطوش "أي رمز فرعوني مكتوب بداخله اسم الملك" للملكة كليوباترا مكتوب باللهجة البحيرية، يقرأ "كليوباترا" وآخر باللهجة الصعيدية يقرأ "جليوباترا"، بتعطيش الجيم.
وتشير الباحثة إلى أن اللغة القبطية شهدت مد الحرف الأخير ومطه في اللهجة البحيرية على عادة الفلاحين هناك حاليا، غير أن كثيرا من سكان الأقاليم الشمالية هذه الأيام -كما لاحظت- يفضلون التعامل بينهم باللهجة القاهرية، تأثرا بالأفلام والمسلسلات فيما يبدو.
القاهرية تكتسح
وتتميز اللهجة القاهرية اليوم بنطق مختلف عن الفصحى لحرفي الجيم والقاف، والتحريف اللغوي للقاف تحديدا هو الأكثر انتشارا بمصر مع عزف مختلف على بقية الحروف مدا أو قصرا.
وينطق باللهجة ذات الجيم والقاف (القاهرية) سكان المدن الأكثر كثافة في القاهرة الكبرى بمحافظاتها الثلاث (القاهرة والجيزة والقليوبية)، فالجيم تنطق من مكان الكاف بالفم، والقاف تنطق من مكان الهمزة بالفم، ويكاد النطق يتطابق في مخارج الحروف وطريقة نطقها بالمحافظات الثلاث.
وتتمدد اللهجة القاهرية جنوبا للنصف الشمالي من محافظة بني سويف (جنوب الجيزة) والفيوم (غرب بني سويف)، مع اختلاف ملحوظ في طريقة نطق بعض الكلمات، ثم تنحرف قليلا بكسر ومد نهايات الكلمات كلما اتجهنا شمال القاهرة حيث المنوفية والغربية والدقهلية (الدقهلية بلد الممثل عادل إمام، ويمكن ملاحظة لهجته الأصلية في عدد من أفلامه التي أدى فيها دور فلاح).
أما لهجة أهل دمياط (شمال الدقهلية) فهي مميزة مثل أشياء عديدة تتميز بها المحافظة الساحلية، كالجبن والأثاث، حيث تنكسر فيها نهايات الكلمات بطريقة ملحوظة.
بينما تميزت الإسكندرية -الطرف المقابل لدمياط على الناحية الأخرى من الدلتا- بلهجة ساحلية سميت باسمها، وتميزت بتعبيرات كاملة تنفرد بها، فالجنيه اسمه جني، إلى جانب مفردات أخرى يسهل تمييز من ينطقها خارج الإسكندرية بأنه منها، وهو ما يثير مواقف طريفة عند حديث القاهري مع إسكندري، أو العكس.
وتتعرض لهجة الجيم والقاف لمط كلماتها وكسرها على طول خط القناة شرقا، ويمكن تمييز أهلها بسهولة خارج مدنهم من طريقة نطق الكلمات، لينادى الشخص -أيا كان اسمه- حينئذ بـ"أبو العربي"، وهو اسم مشهور بين أهالي مدن القناة.
ومن المثير أن طرفي الدلتا الشرقي والغربي -حيث محافظة الشرقية شرقا والبحيرة غربا- يتخليان تماما عن الجيم والقاف القاهريتين، حيث تتعرض الجيم للتعطيش كالصعيد، بينما يجري نطق القاف بطريقة نطق اليمنيين لها، وأقرب للجيم القاهرية المنطوقة من نفس مكان الكاف بالفم.
وذهبت تفسيرات إلى تأثر هذه المناطق بارتحال القبائل العربية إليها، كما يقول أستاذ الجغرافيا عاكف معتمد وخصوصا في محافظة الشرقية، لافتا إلى نقل قسري قام به الوالي محمد علي للقبائل البدوية من مناطق لأخرى، وهو ما يفسر كذلك اختلاف لهجتي البحيرة والشرقية لوقوعهما على أطراف الصحراء شرقا وغربا، بما يجعلهما نصف صحراويتين.
أما الإسكندرية، فيعتقد معتمد أنها بوتقة انصهرت فيها لهجات الزائرين الموسمين والمرتحلين الدائمين، فهي بانفتاحها، محطة رسو ووصول للهجات عدة يحملها الزائرون معهم ويغادرون تاركين بصماتهم.
رحلة اللهجات
وتبدأ اللهجة الصعيدية رحلتها من شمال محافظة المنيا وإن كانت بهذه المنطقة لا تخلو من رقة ومط وتطويل، ليس في كلماتها فحسب، بل كذلك في الأسماء التي هناك خلاف على طريقة نطقها.
وإذا أتيح للمرء الاستماع لمواطن منياوي -شمال الصعيد- وهو ينطق اسم محمد، تجده كأنما يلحنه ويمد الحروف بعد الحاء لدرجة يخّيل إليك معها أنه لن ينطق الميم والدال إلا بعد دقائق من نطق الحاء.
وتمضي اللهجة جنوبا مستمرة على حال تعطيش الجيم مع اختفاء لمط الكلمات، في أسيوط جنوب المنيا، ثم تزداد خشونة كلما أوغلنا في الجنوب، حيث تبدأ الجيم عند بعض مناطق سوهاج الشمالية في التعرض لتحريف ينطقها أقرب للدال هذه المرة، ومن الأقوال المأثورة في هذا الصدد "دردا بلد الردال"، وأصلها "جرجا بلد الرجال"، وهي البلد الأشهر في سوهاج التي تُنطق فيها الجيم دالا.
و"يتشبه البعض بلهجة القاهرة، باعتبار البعد الحضاري للهجة العاصمة، محاولين تقليد كل أن يأتي منها"، برأي أستاذ اللغة العربية وآدابها أحمد كريم.
ورأى أن المتكلم بها في نظر بعض الناس هو الأكثر تحضرا، أما لهجات الأقاليم، فهي في عرف البعض تصم المتحدث بها بـ"الضعة"، نظرا لأن الدراما اعتادت وصف سكان الريف والدلتا بالتردي الاقتصادي والحضاري، مقرونا بلهجة يجري تقديمها على أنها أقل درجة.
وأشار المتحدث إلى أن الجيم القاهرية، وردت في لهجة عربية قديمة ومعروفة وإن كانت محدودة.
ولفت إلى أن بعض مفردات الإسكندرية قفزت من أقصى الشمال إلى وسط الجنوب حيث يقيم كريم في المنيا، وهناك يطلق أهل مدينة ملوي اسم مشروع على وسيلة النقل الجماعي "ميكروباص".
بين التمسك والتخلي
ومن المفارقات أن الإذاعات والقنوات المحلية التي أنشئت قبل عقود، لم يتحدث مذيعوها وهم أبناء هذه المناطق بلهجاتهم المحلية بل بالقاهرية البحتة، وكأنها لغة الإعلام، بينما تتعرض طريقة الممثلين عند تجسيد لهجات سكان الأقاليم لانتقادات شتى باعتبارها تحريفا مشوها لها.
وفي المقابل، حمل عدد من مشاهير الأدباء والشعراء لهجاتهم الإقليمية للقاهرة، ورغم شهرتهم استمروا في التحدث بها، ومنهم الشاعر الراحل أمل دنقل المولود بمحافظة قنا، والذي تلقب بـ"الجنوبي"، وهو نفس ما فعله شاعر العامية الراحل عبد الرحمن الأبنودي الذي أبرز موضوعات الجنوب باللهجة المحلية الخالصة، وآخرون ظلوا ينطقون لهجاتهم في أحاديثهم الخاصة ولقاءاتهم التلفزيونية، وذهب بعضهم لأبعد من ذلك بتعمد الظهور بالجلباب الصعيدي المميزة ومنهم الأديب الراحل محمد مستجاب، إظهارا للتمسك بالأصول.