ندرك جميعاً أهمية استخدام مادة البلاستيك في حياتنا اليومية، وحضورها في أكثر الصناعات والمواد الاستهلاكية التي لا نكاد نتخلى عنها، وعلى الرغم من إيجابياته العديدة، وغياب أو ندرة البدائل، إضافة إلى أسعاره المتدنية، فإن هناك أخطاراً محدقة بالبيئة نتيجة لفرط إنتاجه، وفرط النفايات التي يؤول إليها، بسبب ارتفاع نسبة استخدامه لمرَّةٍ واحدة %40 من مجمل عمليات الإنتاج السنوية.
هناك ملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية التي تنساب كل عام مباشرةً إلى المحيطات. وقد أظهرت دراسات علميةٌ عديدة أن المواد البلاستيكية الدقيقة قد تسربت بالفعل إلى مكونات غذائنا اليومي، الأمر الذي يحتم علينا الإسراع في إيجاد حلول مستدامة لهذه المشكلة المتفاقمة، من أجل إنقاذ صحة الإنسان والحيوان والنبات على السواء.

وبما أنه يصعب التخلص من الكمية الهائلة لهذه النفايات، سواء عن طريق إعادة التدوير أو الحرق، يبقى التعويل على تطوير تقنيات تساعد على تحللها أو تفكيكها إلى عناصرها الأساسية، وتحويلها إلى طاقة ووقود، هو الحل الأفضل.
أحدث اختراع البلاستيك عام 1907م، على يد العالِم البلجيكي الأمريكي ليو باكيلاند، ثورة في عالم المواد والتقنية والحياة اليومية للناس. ونظراً لخصائصه الملائمة لأوجه استعمال لا تُحصى؛ من الأواني المنزلية البسيطة إلى تقنيات الفضاء المعقَّدة، يصعب تصور الحضارة الحديثة من دون هذه المادة المصنَّعة.

بعد إنتاج أول نوعٍ في السنة نفسها، وسميت علامته التجارية "باكيليت"، تيمناً باسم المخترع، تسارع بعد الحرب العالمية الثانية، إنتاج أنواعه المختلفة؛ من 2.3 مليون طن في عام 1950م إلى 448 مليون طن عام 2015م، حسب "ناشيونال جيوغرافيك"، يونيو 2019م. ووفقاً لدراسة نشرت في شهر يوليو 2017م في "ساينس أدفانسز" قُدّر الحجم التراكمي للبلاستيك المنتج في الفترة نفسها بحوالي 8.3 مليار طن.
وعلى الرغم من إيجابياته العديدة وغياب بدائل عنه، أدى هذا الإنتاج الضخم، بالإضافة لأسعاره المتدنية، إلى ارتفاع نسبة استخدامه لمرةٍ واحدة %40 من مجمل إنتاجه كل عام. إن عديداً من هذه المنتجات، مثل الأكياس البلاستيكية وأغلفة الطعام وغيرها، لها عمرٌ يراوح بين دقائق وساعات، لكنها قد تستمر في البيئة لمئات السنين. هذا يعني أن %40 من إنتاج البلاستيك تُعدُّ نفايات يومية جاهزة، والقسم الآخر نفايات مؤجلة لبعض الوقت. ووفقاً لمقالة في "أَوَر وورلد إن داتا"، سبتمبر 2018م، أن حجم النفايات السنوية يساوي تقريباً حجم إنتاجه.

وقد اقتصر علاج هذه النفايات الضخمة على حرق حوالي %12 منها، وإعادة تدوير ما يقرب من %9. وتبقى نسبة %79 من إجمالي البلاستيك المنتج على حالها؛ حيث تشكِّل نسبة %10 إلى %13 من كافة النفايات الصلبة بصفة عامة.
مخاطر النفايات البلاستيكية
يتسرب كل عامٍ ملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية مباشرةً إلى المحيطات من الدول الساحلية. كما يتم نقل القمامة أيضاً إلى البحر عن طريق الأنهار الرئيسة، التي تعمل روافدها كأحزمة ناقلة تلتقط المزيد والمزيد من القمامة أثناء تحركها في اتجاه مجرى النهر. وبمجرد الوصول إلى البحر، يبقى كثير من النفايات البلاستيكية في المياه الساحلية. ولكن بمجرد أن تعلق في التيارات البحرية، تنتشر حول العالم.

وقد أظهرت دراسات علميةٌ عديدة أن المواد البلاستيكية الدقيقة دخلت بالفعل في السلسلة الغذائية. إذ تحمل الحيوانات هذه اللدائن الدقيقة في أجسامها، وعندما يتم تناول هذه الحيوانات من قبل البشر، يتم أيضاً تناول الملوثات التي تكتنفها. ولأن الحيوان يأكل حيواناً آخر، يمكن أن تنتقل المواد البلاستيكية الدقيقة عبر السلسلة الغذائية نفسها وتشكِّل مخاطر كبيرة على الصحة والبيئة.
لهذا السبب أصبح من الحيوي جداً إيجاد حلول مستدامة لهذه المشكلة المتفاقمة لإنقاذ صحة الإنسان والحيوان والنبات على السواء. وبما أن إعادة تدوير هذه النفايات الهائلة صعبةٌ جداً، ولحرقها مخاطر كبيرة، يبقى التعويل على تطوير تقنيات تحلله أو تفككه إلى عناصره الأساسية، وتحويلها إلى طاقة ووقود، هو الحل الأفضل والممكن.
صعوبة إعادة التدوير
من المعروف أن معظم نفايات البلاستيك هي من نوع "بولي بروبيلين" أو "بولي إيثيلين "، وهما النوعان الأكثر شيوعاً في الأسواق، وعلى الرغم من أنهما تقنياً قابلان لإعادة التدوير إلّا أن صعوباتٍ كثيرةً تعترض إعادة تدويرهما بالكامل واستخدامهما كبلاستيك مرة أخرى؛ ويعود السبب إلى معوقات عديدة، تقنية ولوجستية واقتصادية.
بداية، لا يمكن خلط أنواع مختلفة من البلاستيك لإعادة تدويرها. يجب فصل كل نوع على حدة، فكل نوع يتكوَّن من مادة كيميائية خاصة، وبالتالي يتميز بدرجة انصهار مختلفة عن النوع الآخر. ويزيد هذه المشكلة تعقيداً الإضافات الكيميائية التي تضاف لإعطاء خصائص معيَّنة لكل منتج؛ كالمرونة والقساوة والألوان المختلفة. كما أنه لا يوجد أسواق كافية لبيع جميع أنواع البلاستيك المعاد تدويره،ولا توجد مصانع كافية لتصنيع منتجات جديدة من هذه المواد. يضاف إلى ذلك وجود بعضٍ من هذه المصانع في مناطق بعيدة جداً لدرجة تجعل من شحن المواد البلاستيكية إليها مكلف للغاية.
ويبقى العامل البنيوي للبلاستيك العائق الأساسي لإمكانية إعادة تدويره مراراً وتكراراً لأنه يفقد من جودته في كل مرَّة يعاد تدويره؛ وذلك بعكس الزجاج مثلاً، الذي يمكن إعادة تدويره واستعماله إلى ما لا نهاية. وإذا أضيفت هذه الصعوبة إلى غياب الحوافز الاقتصادية لإعادة التدوير يصبح الوضع كارثياً.
سلبيّات الحرق
والحال أن بعض الحلول المعتمدة سابقاً، التي لا تزال تعتمد حتى الآن في بعض المناطق، كحرق النفايات البلاستيكية بديلاً لطمرها لإنتاج الطاقة، وبالتالي الكهرباء، تتضمَّن عديداً من السلبيات، ولا تحظى بشعبية كبيرة لدى المجتمعات المحليّة بسبب انبعاث الغازات الدفيئة الناتجة عنها. كما توجد مخاوف متزايدة بشأن الانبعاث المحتمل للمواد الكيميائية الخطرة المسببة للأمراض السرطانية في الغلاف الجوي أثناء هذه العملية.
ومن أخطر نتائج حرق البلاستيك الرماد الخفيف الذي يتطاير مع الدخان والذي يستقر على النبات والتربة، واحتمال تغلغله مع الأمطار، فيلوث المياه الجوفية ومياه البحيرات والبحار والمحيطات، ويفاقم من تلوث السلسلة الغذائية المذكور آنفاً. كما يمكن لحرق أنواع معينة من البلاستيك مثل PVC إنتاج رماد يؤدي اختلاطه بالماء إلى تغير بنسب الحموضة وبالتالي يغيِّر أداء النظم البيئية المائية.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن بعض الدول الأوروبية كالسويد والدانمارك، بالإضافة إلى اليابان تقوم بحرق النفايات البلدية بما فيها من بلاستيك بإنشاء معامل ضخمة لهذه الغاية.
تقنيات التحلل الحراري
بغية وقف هذه الكارثة البيئية، عمل عديد من الجامعات والشركات ومراكز الأبحاث إلى استنباط حوافز اقتصادية لتحويل عناصر البلاستيك الأساسية إلى وقود وطاقة بطرق صديقة للبيئة.
إنّ تحويل النفايات العضوية كالبلاستيك إلى طاقة يشكّل حالياً محور أبحاثٍ مهمةٍ جداً. حيث يوجد عديد من التقنيات قيد الدرس والاستخدام، تندرج جميعها تحت عنوان التحلل الحراري pyrolysis، بما في ذلك التحلل الحراري المائي hydrolysis.
التحلل الحراري هي تقنيةٌ معروفةٌ منذ القرن الثامن عشر؛ وتتضمَّن تسخين المواد إلى درجة حرارة عالية جداً دون تعرضها للأكسجين، مما يمنعها من الاشتعال، ويؤدّي إلى تحللها وتحويلها إلى عناصر صلبة أو سائلة أو غازية. استخدمت هذه الطريقة بشكل خاص في صناعة إنتاج الفحم من الخشب.
وبما أن البلاستيك يصنع أساساً من البترول فإعادته إلى مكوناته الأولية الأساسية من خلال هذه التقنية أمر ممكن، فيتم تسخين البلاستيك حتى 450 درجة مئوية لتحلله تماماً وتحويله إلى غازات مختلفة. وبالتالي، فإن التحلل الحراري يجعل من الممكن استعادة حوالي %65 من الديزل، و%18 من البنزين، و%10 من الغاز و%7 من بقايا الكربون. تستخدم هذه المواد في المولدات الكهربائية وأنظمة التدفئة ومحركات السيارات، وغير ذلك.
لا ينتج التحلّل الحراري غازات سامة (الديوكسين)، على عكس الحرق، الأمر الذي يجعل العملية أقل خطورة على البيئة والصحة. هذه التقنية صالحة للتعامل مع أنواع بلاستيك، كالبولي بروبلين (PP) والبولي إيثيلين (PE) المكونين الأساسيين للأكياس البلاستيكية، والقماش المشمّع، وشباك الصيد، والدلاء التي تتواجد بكثرة على الشواطئ وفي المحيطات. غير أنه لا يمكنها علاج أنواع أخرى كالبولي إيثيلين تيريفثاليت (PET) المتوافر في بلاستيك القناني، أو البولي فينيل كلوريد (PVC) المتوافر في بلاستيك الأنابيب.
وقد أنشأ عديد من الشركات مصانع لتحويل نفايات البلاستيك إلى هيدروكربون أو ديزل أو بنزين باستعمال تقنية التحلل الحراري، كالشركة الهندية Agile Process Chemicals التي أقامت حوالي 35 مصنعاً في الهند وكينيا، والشركة البريطانية Recycling Technologies ومقرها في أسكتلندا.
في فرنسا ومنذ شهر مايو من العام 2020م، تم اختبار التحلل الحراري في جبال Alpes-Maritimes من خلال آلة تسمى Chrysalis وهي النموذج الأولي لجمعية Earthwake العالمية والمختصة بالتمويل الأخضر. يمكن لهذه الآلة معالجة 40 كيلوغراماً من المواد البلاستيكية وتحويلها في يوم واحد إلى وقود، حيث إنها تنتج 120 لتراً من الديزل لكل 160 كيلوغراماً من النفايات البلاستيكية. لكن باعتراف فرانسوا دانيل، مدير جمعية Earthwake، فإن هذه التقنية ليست بيئية بالكامل، غير أنها تؤدي إلى الحدّ بشكل كبير من كمية النفايات البلاستيكية الموجودة في الطبيعة وهي تُعدُّ المصدر الأولي لتأمين الطاقة الكهربائية لبعض المناطق في العالم، حيث من الصعب تزويدها بأي مصدر آخر للطاقة.
ويجري حالياً مناقشة استخدام تقنية التحلل الحراري في أستراليا، حيث أثار بناء مصنع في كانبيرا غضب السكان الذين يخشون انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن تحويل البلاستيك إلى وقود.
كما تنتج شركة Resynergi الأميركية وقوداً نظيفاً يمكن استخدامه كبديل للمنتجات النفطية المكرَّرة، وذلك باستخدام تقنية التحلل الحراري الموفِّرة للطاقة والمنخفضة الانبعاثات، حيث يتم إنتاج الوقود الكربوني منخفض الكثافة من النفايات وليس من النفط، وتنتج تلك العملية انبعاثات غازية دفيئة للديزل بنسبة %60 أقل مقارنة باستخراج الوقود الأحفوري وتكريره.
التحلل الحراري المائي
التحلل المائي هو أي تفاعل كيميائي يكسر فيه، تحت ظروفٍ معينةٍ، جزيء الماء أحد روابط جزيئات أخرى أو أكثر. ومن الأمثلة الناجحة على ذلك ما يقوم به باحثون من جامعة بيردو في الولايات المتحدة بقيادة المهندسة الكيميائية ليندا وانج.
تقوم هذه التقنية على وضع مادة البولي بروبيلين في مفاعل مملوء بالماء، حيث يتم تسخينه حتى درجات حرارة تتراوح بين 380 و500 درجة مئوية لمدة تصل إلى خمس ساعات تحت ضغط 23 ميجاباسكال. تحت تأثير درجات الحرارة والضغط المشار إليهما، يكسر الماء البلاستيك ويحوّله إلى زيت.
لقد تمكن هؤلاء الباحثون من تحويل %91 من البلاستيك إلى زيت مكوّن من مزيج مركّبات هيدروكربونية مختلفة، يستخدم في صنع كتل المباني والبنزين وأنواع وقود وكيمائيات أخرى. يُظهر التحليل الأولي للفريق أن عملية التحويل تستخدم طاقة أقل، كما تؤدي إلى انبعاث غازات دفيئة أقل من تقنية حرق بلاستيك البولي بروبلين أو إعادة تدويرها ميكانيكياً. يعمل حالياً الفريق المذكور على تحسين عملية التحويل لإنتاج وقود عالي الجودة أو ديزل.
بعض المعوقات
في حين أنه من المهم فهم الفرص التي يمكن أن تدفع إلى تبني تكنولوجيا تحويل نفايات البلاستيك إلى وقود، يبقى حالياً، وبالقدر نفسه من الأهمية، تحديد بعض العقبات الرئيسة التي يمكن أن تقف عائقاً أمام الانتشار الواسع لهذه الصناعة، ليصبح بالإمكان مستقبلاً تركيز الأبحاث حولها لإيجاد حلولٍ مستدامة.
في كل الأحوال، يستمر الجدل حول الجدوى البيئية للتحلل الحراري بين الأكاديميين. ففي الوقت الذي تقيِّم فيه عديد من الأبحاث الأكاديمية الحديثة التحلل الحراري بأنه ذو كفاءة عالية من حيث استعادة الطاقة، يرى الدكتور أندرو رولينسون، وهو متخصص في تقنيات التحلل الحراري، أن هذه التقنية لا يمكن أن تكون الحل الأفضل والمستدام لمشكلة البلاستيك؛ لأنها تستهلك كميات من الطاقة.
تقنيات قيد الدراسة
خلال العام 2018م، اكتشف باحثون في جامعة سوانسي البريطانية تقنية جديدة لتحويل النفايات البلاستيكية إلى وقود هيدروجيني، وأشار الباحثون إلى أن هذه التقنية قد تكون يوماً ما قادرة على تشغيل السيارات باستخدام النفايات البلاستيكية، كما اكتشف الفريق إمكانية إضافة محفِّز ضوئي يمتصُّ أشعة الشمس ويحوِّلها إلى طاقة كيميائية من خلال عملية تُسمى: التشكيل الضوئي، حيث يُترك مزيج البلاستيك والمحفِّز الضوئي في محلول قلوي تحت أشعة الشمس، الأمر الذي يُؤدِّي إلى تكسير البلاستيك وإنتاج فقاعات من غاز الهيدروجين.
كما تبشر تقنيات حديثة تقوم على تحويل النفايات العضوية، كالبلاستيك إلى غاز وتحديداً إلى ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين. ومن هذه التقنيات الموجودة في الأسواق FastOx، من شركة Sierra Energy. إذ تركز هذه الشركة على تطوير تقنية التغويز واختبار تطبيقات جديدة في مجمع أبحاث الطاقة في منطقة سييرا، ديفيس، كاليفورنيا.
ومن التقنيات الجديدة نسبياً في معالجة النفايات، تقنية "إعادة تدوير البلازما"، حيث يتم تسخين النفايات على درجة حرارة عالية جداً بغية إنتاج سينغاز (Syngas) كوقود، الذي يمكن استخدامه لتوليد الطاقة أو فصله إلى هيدروجين وأول أكسيد الكربون. كما يمكنها التعامل مع أي نوع من النفايات تقريباً، بما في ذلك النفايات الخطرة التي يصعب معالجتها.
في كل الأحوال، ليس هناك حلول سحرية لمعالجة مشكلة نفايات البلاستيك، لكنه بات من الضروري تضافر جهود الأفراد والمؤسسات الاجتماعية مع المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة بغية تطوير التقنيات المذكورة أعلاه لتحقيق التوازن بين الراحة والاستدامة. كما يجب تشجيع ودعم الأبحاث العلمية الهادفة إلى إنتاج بلاستيك قابل للتحلل العضوي بما قد يسهم إلى حد كبير من التأثير السلبي للبلاستيك على البيئة والحياة بشكل عام، وتفعيل تحويله إلى طاقة أكثر استدامة.