سندباد السودان
يمثل أحمد حسن مطر سندبادا سودانيا دون شك، فحتى تاريخ اليوم لا يوجد هناك من السودانيين من يشبهه ولو من بعيد في تجربته الفريدة بارتداد الآفاق وكثرة التسفار والتحول حول العالم، خصوصا بالعود؛ إلى بدايات القرن المنصرم. فقد كان الذهاب إلى خارج السودان وأوروبا تحديدا يعتبر بدعا من الأمور، أو نوعا من السحر كما يصف مطر. ومنذ خروج مبر من السودان في العام 1922 م متجها صوب القاهرة، لم يتوقف بعدها إلا التوقف النهائي لاستراحة الموت. ولقب المغامر المتجول الذي يدون يومياته في شكل أوتوبايوغرافي، أليق بمطر أكثر من الرحالة الذي يكتب مشاهداته ورؤاه العميقة حول المكان وثقافته وبنية مجتمعه.
ومما يؤسف له حقا أنه توقف عن تدوين رحلاته بالتفاصيل لدى التارخ 12 ديسمبر/ كانون الأول 1951، ولولا انقطاعه هذا عن التدوين لكان بحوزتنا مائة رحلة مدونة تضرب في كافة أرجاء الأرض وأصقاعها، ولاستطاع هذا الرقم الهائل أن يخطي قارات الكرة الأرضية جميعها بالتدوين، فهو بالفعل قد وضع قدمه على معظم كبريات الدول وصغيراتها في العا لم، وإن أمضى أطول فترات جولاته في أمريكا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا، بالإضافة لرحلاته في أستراليا وأمريكا الشمالية وآسيا ٠
وقد جاب مطر كل هذه الأرجاء بعقلية الصحفي ووظيفته، وقد عمل مع كبار الصحفيين في ذلك الزمن وفي كبريات الوكالات الصحفية، كما أنه استطاع أن ينجز وكالة صحفية خاصة به وصحفا خاصة به في عدة دول وبقاع، وإن لم يكن بمقدوره الاستقرار في مكان واحد لاستكمال مشاريع كهذه تتطلب الاستقرار والصبر المثابر. وساعده عمله المجاور للكثير من منظمات الأمم المتحده وكدبلوماسي وممثل لبعض الدول كثيرا، ما سهل عليه الحركة والانتقال من مكان
1لى آخر.
والنقطة المهمة أيضا في حياة أحمد حسن مطر هي. اتصاله بتارخ النضال ضد المستعمر ومع جماعات مختلفة ومن بلدان عديدة، بدءا بحركة اللواء الأبيض في السودان، والتي حرمه العمل معها من دخول السودان إلا بعد وساطات كثيرة لم تتكلل بالنجاح إلا في أواسط الخمسينات.
ويبقى له شرف ائه أول سوداني قام بإرسال برقية لرامزي ماكدونالد رئيس وزراء بريطانيا يطلب منه فيها الجلاء عن مصر والسودان، ما سبب له النفي الذي انتهى في 4 فبراير 1949 م بفعل مساندة رفاقه الصحفيين له، وبعد المنكرة التي كتبها توم ليتل ووقعت عليها جمهرة كبيرة من الصحفيين قبل تقديمها الى مستشار الشؤون الافريقية بلندن، لتأتي الموافقة بعد 8 أيام من خلال مستر ميال وكيل حكومة السودان في لندن.
وقد اعتقل مطر في القاهرة بتهمة قتل السير لي ستاك عام 1924، ومن عجايب المصادفات أن أحد المتهمين السودانيين معه كان عثمان هاشم والد العا لم الكبير ومترجم كتاب تارخ الأدب الجغرافي العربي صلاح الدين . وقد التقى مطر كذلك صلاح الدين عثمان هاشم نفسه أيام كان طالبا في باريس والتقى معه أيضا محي الدين صابر رئيس اتحاد الطلاب أيامها.
ومن الشخصيات السياسية التي التقاها هيلا سلاسي ونهرو وجيفارا وهتلر والجنرال بيرون رئيس الأرجنتين ومحمد نجيب.
وهو يتحدث عن نفسه بطرافة عندما يقول إنهم صنفوه دون الوسط من ناحية الذكاء، بل يصف رسوبه في أحد الامتحانات وحزنه لدرجة التفكير في الانتحار بإغراق نفسه في النيل.
ويحكي أئه كان متأثرأ جدا بالأمير محمد عبد الكريم الخطابي الذي كان مطر يعتبره مثله الأعلى في النضال، ليسافر بعدها لطنجة ويتصل به ويعمل ضمن الثوار المغاربة، وهناك التقى معظم الملوك والسلاطين المغاربة النين كان يخلعهم الاستعمار ليحل كل واحد منهم بدل الآخر، أي جدود محمد الخامس بن يوسف الذي توجه الفرنسيون ملكا في عام 1927 ثم خلعوه في العام 952ام. وقام مطر بتكوين جمعية لواء أبيض من الشباب المغاربة على غرار جمعية اللواء الأبيض السودانية. كما أنشأ جريدة النظام كأول جريدة كانت تعنى بالدعاية للامير الخطابي.
بل وتعرض لمؤامرة اغتيال، فهو يحكي أن شخصين اقتاداه بقوة السلاح إلى منطقة مهجورة ليلا، ووضعا سيجارا في فمه كي يبتعدا عنه ويصوبان إليه الرصاص فيحددان بذلك موقعه في الظلام، أما هو فقد نقل السيجار من فمه إلى يده ليطلقا رصاصهما ويطيش في الهواء، أما القصة الثانية التي يحكيها فهي تشبه إلى حد كبير تلك المشاهد للإعدام،المجاني التي تصادفك في أدب أمريكا اللاتينية، وما يحل بالدوار أصحاب الحركات المجهضة، كما يرد في رواية ماركيز حول ذلك الإعدام الصباحي في الشارع، في روايته مائة عام من العزلة، الدنيا التي تصحو على قهوة الموت، فأحمد حسن مطر يقول إنه انضم لحمسائة ثائر مكسيكي ففشلت حركتهم وتم قتل أربعمائة منهم وهربت المائة الباقية فتم اعتقالهم وعصب أعينهم وبدأ رميهم بالرصاص إلى الهدف تسعة إلى أن جاءت أسرة شخص مشارك معهم يسمى سيمون فدفعت أموالا لتخليص ابنها فتغضل الضابط بعد ذلك وأمر بإطلاق سراح الجمع.
والطريف أن مطرا قدر له أن يرافق وفودا فنية كثيرة وفرق موسيقى وتمثيل وتنظيم مسابقات الجمال، فهو محب للحياة والحركة والمتع.
كما قام بإعداد ما كانوا يسمونه بالدليل العربي، أي إحصائيات يقومون ما لرصد العرب في الجغرافيا المعينة، وقد قام منا العمل في معظم دول أمريكا اللاتينية وافريقيا.
وهي رحلات طويلة وإن كنا لا نجد تدوينا محترفا للمشاهد اللهم إلا في أمريكا اللاتينية فهو يقوم بإعطاء الكثير من السرد والحديث عن المكان والمناخ وإمكانات الاقتصاد وهذا أثناء عمله في إعداد دليل سكان أمريكا اللاتينية من العرب.
بأي حال هذا الكتاب جنس أدبي قائم بذاته، عموده الفقري هو الرحلة والحركة في المكان، وتقنياته هي تقنيات الأتوبايوغرافي، مع ليتريتشا المغامرة والتشويق.،
محسن خالد
كيب تاون فى أواسط ينابر 2006