شاعر العراقي سمير صبيح
ولادة شعر الشاعر سمير صبيح مع المعاناة
كان العام ١٩٧٠ على موعد مع ولادة هرم شعري عراقي كبير، من رحم العوز والفقر والضيم العراقي وبين أفنان البساتين والماء والطين ولد الشاعر سمير صبيح ماهي إلا سنوات قليلة ليكون مع موعد الحرب العراقية الايرانية فكان واحد من بين ملايين العراقيين الذين عاشوا تلك الأيام الموجعة والموغلة بالحزن ولكنه يستشعرها بإحساس الشاعر المرهف، ويختزنها بداخله لتصنع منه شاعر مستقبليا، لم يكن سمير من أضراب الشعراء الذين يلاحقون الشعر والصورة والخيال فلقد ولد الشاعر بداخله ليكبر معه عبر الزمن ويكون أنيسه وسميره يشكو له همه ويبث له أحزانه التي لا تنتهي، هناك في الجيش قادته الصدف ليتعرف على شعراء من مدينة العمارة تلك المدينة الشاعرة بطبيعتها وانسانها سمع منهم فأعجب شيطان الشعر الذي يسكنه بهذا الرفيق ليكون جوادا له ورفيق يشق به طريقه الطويل الذي ينتظره.
كان سمير يستمع إلى الأغنية العراقية التي كانت تبث في الثمانينات ويعكف على تدوينها كتابة ليقوم بحفظها دون ان يعرف شعراءها، لا يحتاج الأمر وقت طويلا فالشاعر الشاب يكبر أكبر من صاحبه ويسابقه إلى إعلان نفسه يبحث عن مكان وزمان مناسبين فليس كل الأماكن تعجبه لأن خياله الجامح مزاجي الطبع ومشاكس ومغامر لا يهوى الجلوس ولا يحب الهدوء لا يزال هكذا حتى يجد ضالته في “الثورة” مدينة الفقر والغنى، تلك الازقة العجيبة والمليئة بالتناقضات حيث الفقر والجوع والحرمان والوجع والإبداع في كل حقول العلم والمعرفة والموهبة التي تولد تكوينيا مع أهلها تسبقها الطيبة والكرم ويطغى عليها الحزن السومري السرمدي المرسوم على جباه أهلها السمر، الذي لم ينساه الجنوبيون عندما نزحوا.
تحدي الشاعر سمير صبيح كبار الشعراء
كازدحام أزقتها كانت المدينة تزدحم بأسماء كبيرة في الشعر كان يضمها المنتدى الذي كان بمثابة ملتقى ومنجم لتفجير الطاقات كان كاظم أسماعيل الكاطع وفالح حسون الدراجي وحمزة الحلفي وطالب السوداني وطالب الدراجي والعربي ومحمد الغريب وجبار الفرطوسي وجبار محيسن ورحيم المالكي وغني محسن وغيرهم من الأسماء المهمة، مما زاد التحدي أمام الشاب المغامر شب بين هذه الأسماء بين زميل وأستاذ، ساهم المنتدى في صقل موهبته وتنمية شاعريته وفي ذات الوقت تزداد صعوبة إعلانه للشاعر في ساحة مليئة بالشعراء الكبار يحتاج إلى جناحين ليطير بهما محلقا فكيف له أن يطير؟
جنح بيه انكسر والثاني مخلوع
يشكو حياته غير العادله والظلم الذي حاقه ولكن هل يستسلم لها؟
وطرت كوة على عناد اليكرهون
إعلان واضح لقبول التحدي وأستعداد للمعركة يظهر فيه عصاميته وتقديسه لكرامته وعزة نفسه بكل كبرياء، معركة الزمان غير المتكافئة التي أختار ان يواجهها
زهكت الزمن طلعت روحه شلون
شرب دمي وأكله أشرب عوافي
يبدو أن لا هوادة فيها ولا مجال للاستسلام رغم الجروح الغائرة التي تلحقها به يكفيه شرف المواجهة وعدم الرضوخ
وسحب سيفه الزمن هل من منازل صاح؟
أعزل ما خفت والزمن نازلته
ما لحته نعم لكن ترسني جروح
بس عدي المهم ما عفته قاتلته.
بداية تألق شعر الشاعر سمير صبيح في مهرجان الرباط
في مهرجان الرباط الذي كان أول مناسبة رسمية يشارك بها بحضور كبار شعراء العراق ومنهم عبد الرزاق عبد الواحد والراحلين الكبيرين عريان والكاطع أربك سمير صبيح الحضور وقلب المفاهيم والموازين فلم تكن مشاركته الأولى ارشيفية ولا ليعلن نفسه كشاعر مبتدأ كما كان المتوقع فلقد سبق الزمن وعبر المراحل الطبيعية التي يجب ان يسلكها كل موهوب ليصل الى حد الشهرة والنجومية، صعد الشاعر المنصة التي تهوى مشابكة يديه وقرأ: انه همومي جهال وترضع دموع
أشهر قصائده
قصيدة (انه همومي جهال وترضع دموع) تعد نقطة انطلاق وتحول في مسيرة الشاعر سمير صبيح الشعرية
لم تكن قصيدة عابرة او ثمة كلمات مقفاة تلقى في الأمسيات والمهرجانات بل كانت أوجاع روح عراقية مرسومة بدقة لا متناهية تحاكي الواقع الذي يستشعره الأنسان ولكنه لا يستطيع ان يعبر عنه بخطاب ، كل شيء فيها مسبوك بعناية فائقة حيث البناء والدخولية القوية مع شعور الصدمة من شدة البؤس والحرمان الذي كان يعانيه الفرد العراقي مع الصورة الشعرية التي ميزت شعره وصارت خصيصة له مع وحدة موضوعوها وموازنتها بين عذابات الحياة وقساوتها وبين الأحلام والأمنيات، كانت ترنيمة عراقية خالصة وصادقة وتهويدة للجراح التي تنام نهارا وتستفيق ليلها ، وجدت منها الأمهات نشيدا سهلا تنوم فيها أطفالها وتؤنس فيها وحشتها ووسواسها لتكون رفيقة تواسي أحزانهن التي لا تنتهي ، فكانت بحق” دللول ” عراقي لا أتحدث هنا بلغة الخيال ولا مبالغة من ضروب البلاغة ولا مجازا أجيزه لنفسي لا أطلاقا انها حقيقة أرويها سمعتها من صديق قال ان أمه كانت تقرأ له وأخوته من بعده هذه القصيدة عندما كانو أطفالا في المهد ، قرأها فأستحقت تصفيق الكبار ونالت أستحسانهم وأثارت عجبهم وأعجابهم ونال سمير صبيح لقب أفضل شاعر في نفس المهرجان وهو في العشرينات من عمره فكانت هذه القصيدة سندباد أحلامه الذي حمله محلقا به في سماء الأبداع وهويته التي يعرف نفسه بها، ثم توالت قصائده المبدعة واحدة تلو الأخرى فكانت تثير أعجاب الشعراء والذائقة وتثير حسد المتشاعرين الذين يتربصون بطريق النجاح والأبداع كما هي عادتهم في كل دهر فما كان منه إلا أن يشق طريقه وحيدا غير آبه بهم بل يقطف لهم قوافي من شعره مشبه نفسه بالنخلة الباسقة التي ترد بثمارها على من يرميها بحجر
طبع نخلة إذا ترموني بحجار
أذب تمري وأخليكم تدنكون
المعاني والقضايا التي تناولها الشاعر سمير صبيح في أشعاره
كتب سمير في كل ألوان الشعر الشعبي العراقي وأجاد فيه فكتب الزهيري (الموال) والأبوذية وكتب في بداياته الشعريه العديد من الأغاني التي أشتهرت تسعينيا ولكنه أبدع في كتابة الزهيري بنسق مختلف وفي فترة لم يكن الشعراء يكتبون هذا اللون الشعري الا ما ندر، لأنه شاعر يجب ان يكون حالما وذو خيال وقبلها يجب ان يكون إنسان ولكي يصبح إنسان عليه ان يلتزم بمبادئ يكون مقيدا بها وصادقا مع نفسه ومع الناس لأن الشاعر ملك نفسه في وجدانه وملك الناس في وجدانهم، سمير صبيح استطاع أن يضع لنفسه مبادئ وقيم لا تخضع للتنازلات والمجاملات فأضافت هذه المبادئ خسائرا إلى خسائره ولكنها ربحا بالنسبة له، كيف يكون الربح خسارة؟ نعم يكون هكذا عندما يكون الأنسان مناضلا معبرا عن هموم شعبه ورساليا في قضيته، لم يكتب سمير صبيح مديحا للنظام الفاشي أنذاك في الوقت الذي كان يتسابق به المطبلين والقرقوزات وأبواق السلطة على خطب ودها ونيل رضاها، لأنه شاعر يعرف معنى الكلمة وثمنها فلا يستطيع ان يزور الظلم ويحوله الى عدالة لأستشعاره مرارة هذا الفعل وقبحه ولأنه فارس أختار الصعاب والمواجهة على الطرق السهلة للوصول ولأنه حرا لا يستطيع ان يكبل نفسه بانتماء ضيق مهما كان عنوانه لأن انتمائه للعراق ملا كل شيء عنده، فكانت قصائده الوطنية مدوية بالرفض لكل من يمس كرامة وطنه أو يتعدى على أهله، فكانت “عونك يا وطن” نداء تلبية وطنية ورسالة شهدت الرفض القاطع لأي محاولة للتدخل بشؤونه وادانة لجيرانه الذين خذلوا محنته وأزدادوا فيها ألما، وظل حاملا لواء الدفاع مستخدما قوة الكلمة التي يملكها ردا على كل الإساءات فلم يسبقه بهذا الشأن شاعر ولعل قصيدة الرد على ملك الأردن بعد تصريحاته الطائفية وقصيدته الموجهة إلى الحكومة الكويتية خير دليل ، فكان شاعر الوطن بحق لا يمكن لأحد ان يزاحمه على هذا الموقع او المكان لأنه لم يتأخر عن منازلات الوطن الخارجية والداخلية راسما جروحه ومعبر عنها بصدق ودقة، لأن الوطن ليس حبيب مجهول تمدحه أو تكتب له ولا ميت ترثيه ولكنه أب وأم وأسرة وشرف وتربة وماء وجبل كل هذا هو الوطن الذي تتحمل من أجله الخسارات وتقدم له دون ان تسأله العطاء فخسر من أجل العراق أناس ومواقع شخصية ربما، هكذا تجد في شعره كل شيء في الطبيعة يرمز إلى الوطن.