سيهات قبل 53 سنة.. «عبدالحليم» ونادية لطفي يُغلقان أول سينما خاصة في الشرقية
سيهات: شذى المرزوق
نحن في عام 1969، يقتعد «الشاب» جعفر عبدالمحسن النصر كرسياً بين شجيرات متنزه سيهات، الذي افتتح قبل هذا التاريخ بعام. عيونه ترنو إلى شاشة «بروجكتر»، تشع منها أنوار لم يألفها هو وكثير من الرجال والنساء المتوزعين على مقاعد قريبة منه.
النسوة لم يكن كثير منهن يرتدين العباءات، في مجتمع كان هواه «محافظ نسبياً» حينها. ربما هذا الوصف تخفيفي لواقع الحال.
الشاشة تعرض فيلماً كان للتو خرج من استديوهات القاهرة؛ «أبي فوق الشجرة»، بطله الفنان الأسمر عبدالحليم حافظ الذي تتكرر له مشاهد غرامية مع «فردوس»؛ نادية لطفي نجمة ذاك الزمان.
بين أغنية وأخرى من أغاني الفيلم الخمس، تتكرر المشاهد الصادمة لجمهور متنزّه سيهات، من حليم أو «عادل» مع «الفتاة اللعوب» نادية، التي كانت تؤدي في الفيلم دور «فتاة ملهى ليلي». وبمقاييس زماننا؛ فإن كثيراً من المشاهد لا تُناسب إلا البالغين.
الشاب جعفر «العُروبي الهوى والهوية»، وكذا بقية الحضور في العرض، خصوصاً السعوديون منهم، لم يألفوا هذه المشاهد تعرض أمامهم جهاراً نهاراً، وفي الهواء الطلق.
لكن؛ صدق أو لا تصدق أن كل ذلك حدث في سيهات قبل 53 عاماً، قبل أن تنبعث حركات الإسلام السياسي؛ الشيعية والسنية، من تحت رماد «الصحوة». وقبل أن ينتشر «المحتسبون» في الشوارع والأزقة والأماكن العامة.
«صُبرة» تقدم في السطور الطويلة التالية حكاية متنزه سيهات، الذي أسسه رئيس بلدية المدينة حينها عبدالله الشماسي، وسينما شاب حالم بجموح، اسمه أحمد الربعان (رحمهما الله).
صورة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي قبل دفن البحر شرق المتنزه.
الكل هنا..
اليوم؛ حين تطؤه قدماك في أيام الجمع؛ ستجد جانبه الشرقي من خلف السور، يعج بمربي الطيور والحيوانات الأليفة. فمنذ 20 عاماً يُقام سوق الطيور هنا.
داخله جموع من الأهالي والمقيمين، يأتون فرادى وجماعات. سترى طفلاً آسيوياً يركل كرته على مرأى من والديه، الذين قدما برفقته لقضاء وقت ممتع.
يمر أمامك مراهق عربي يقود دراجة هوائية، متجاوزاً سيدات يرتدين أحذية رياضية يمارسن المشي، بعدما أصبحت عادة يمارسنها، حتى قبل إنشاء فريق «مُشاة سيهات» النسائي، بـ 10 سنوات.
بجانبهن؛ يهرول شاب يهم باللحاق بآخر على امتداد الممشى. في ما تسمع صرخات حماسية مُنفعلة تصدر من لاعبي كرة اليد، وهم يتجاذبون للوصول إلى مرمى الملعب الذي تحيط به الشباك، حمايةً للأطفال في البقعة الرملية الصغيرة التي تتوسط المنتزه مقابل الملعب أثناء لهوهم على المراجيح.
المتنزه كان وما يزال مقصداً لأهالي سيهات.
صرح استثنائي
هذا المتنزه، الذي يطالب الأهالي حالياً بإعادة تأهيله، احتضن قبل 5 عقود، الكثير من الفعاليات «الاستثنائية». كان محطة من محطات التغيير البنيوي الاجتماعي التي شهدها مجتمع محافظة القطيف، إن لم يكن المنطقة الشرقية بأسرها، وقبلةً السياح والمرتادين من أهالي سيهات، وحتى خارجها من المدن المُجاورة، منذ انشائه في نهاية ستينيات القرن الميلادي الماضي.
كان يحظى بإطلالة بحرية رائعة، توازيها مساحة خضراء، تتوزع عليها ارجوحات صغيرة، في حين استثمر جانباً منه لإقامة مقهى خاص يرتاده عمال أجانب يشتغلون في «أرامكو»، مقيمون من جاليات عدة، وجمع من الأهالي، في مزيج متناغم متعدد الأطياف والديانات والجنسيات.
يتسمر جزء منهم وسط مزيج من المتعة والدهشة، لمتابعة فيلم يُعرض في الشاشة التي لا تكاد تتجاوز مساحتها 60 في 80 سنتيمتراً، في ظاهرة حديثة على القطيف حينها.
عبدالله الشماسي.
إنجاز شماسي
وفقاً لشهادات من عاصر تلك الحقبة وبدايات إنشاء المنتزه من الأهالي؛ كان المنتزه أرضاً خلاء، يلعب الأطفال في رمالها وطينها، بعدما ردم جزء من البحر الذي كان يحد سيهات شرقاً، خلال عامي 1968-1969، وهي فترة رئاسة عبدالله سليمان الشماسي بلدية سيهات، التي استمرت سنوات طويلة، وانتهت عام 1970 بحسب ما ذكر السيد عدنان العوامي لـ«صبرة».
شهادات شخصيات سيهاتية: جعفر النصر، محمد جعفر المسكين، الشيخ عبدالله السيهاتي، الفنان علي السبع، جاسم الحكيم، عضو جمعية سيهات السابق علي خليفة الهزاع، زميله محمد علي الخليفة، عبدالله الدبيس، والمدير التنفيذي الحالي لجمعية سيهات حبيب آل محيف، اتفقت أن الشماسي ختم خدمته في سيهات وقتها بإنقاذ الأرض التي كانت على وشك أن تُخصص «منحة خاصة»، ليدشن عليها متنزهاً في وقت قياسي جداً، بعد أن عمل على تشجيرها في فترة وجيزة، رغم قلة إمكانات البلدية، وذلك خوفاً من خسارة الأرض التي كان يطمح لجعلها مكاناً ترفيهياً ومركزاً اجتماعياً.
بيد أن آخرين أشاروا إلى أن إنشاء المنتزه كان «وليد أفكار مجموعة من الشباب السيهاتيين، أثناء رئاسة الحاج علي السيهاتي المجلس البلدي في المدينة، والذي ضم حينها رجل الأعمال الراحل عبدالله المطوع، وجعفر الحمود، بمعية جمع من الأعيان، منهم عبدالوهاب المعلم. ولقيت الفكرة استجابة كبيرة من الشماسي، الذي بادر لاستغلال الأرض، وإنشاء المنتزه».
المرحوم أحمد الربعان.
سينما الربعان
لفتت هذه المجموعة ممن عاصروا تلك الحقبة، إلى إقامة سينما على يد المرحوم أحمد الربعان، الذي استأجر جزءاً من أرض المنتزه، ليقيم فيها مشروعه، الذي اتصف حينها بـ«الانفتاح»، تحت مسمى «كازينو سيهات» ليقدم فيه المشروبات الغازية والساخنة، والمرطبات، وأضاف له العرض السينمائي، في تجربة لم تستمر طويلاً.
استمر المتنزه وجهة سياحية للأجانب، ومتنفساً للأهالي والعائلات، وملتقى للجاليات العربية، حتى العقدين الأخيرين، حيث تم استثمار أرض المنتزه في إقامة المهرجانات والفعاليات، وبقيت هذه الأرض، التي لا تتجاوز مساحتها 45 ألف متر مربع، حاضنة للجميع.
قصاصة خبر منشور عام 1969 تقريباً عن افتتاح المنتزه ومحتوياته.
قصاصة قديمة توثيقية
أثناء البحث في تاريخ المتنزه؛ حصلت «صُبرة» على قصاصات قديمة، منها خبر افتتاحه في إحدى الصحف المحلية الصادرة حينها، أشار إلى اتمام بلدية سيهات إقامة متنزه عام، يقع إلى الشرق من مبنى البلدية آنذاك، على رقعة أرض مساحتها الخضراء 25 ألف متر مربع، بكلفة تناهز 25 ألف ريال.
قسمت الأرض إلى قسمين؛ أحدهما للعزاب، وآخر للعوائل. وزرع آنذاك بـ600 شجرة متنوعة، منها: «البنسيانا»، التين الهندي، شجر السلم والنخيل، التي جلبت من مشاتل محلية.
كما تضمن الخبر شرحاً لطريقة استثمار الأرض، واستئجار جزء منها لإقامة مقصف مُجهز بثلاجات تبريد المشروبات، وفرناً مؤجراً لأحد الأهالي. فيما زودت البلدية المتنزه بالكهرباء والأنوار والسياج والمقاعد المريحة.
من رواية «هسهسة التراب» للكاتب عيد الناصر.
«هسهسة التراب»
في رواية «هسهسة التراب» للكاتب عيد الناصر؛ يتحدث عن ما بقي عالقاً في ذاكرة سيهات من «بقايا الحلم السينمائي» الذي حلم به المرحوم أحمد الربعان.
مما رواه الناصر «أقام أحد شباب البلد في عام 1969، مطعماً جميلاً في وسط المتنزه، وخصص مكاناً لعرض الأفلام في الهواء الطلق، مستخدماً شاشة كبيرة وجهاز عرض من النوع المُستخدم في تلك الأيام».
وفي صفحة أخرى؛ شرح كيف كانت تتم حجوزات السينما، «قام (الربعان) بالاتفاق مع صاحب أحد المنازل، وكان موظفاً كبيراً في شركة النفط، على أن يضع رقم منزله في دعاية المطعم. وكانت الأسر من رأس تنورة، الجبيل والخبر يتصلون بتلفون ذلك المنزل، ليحجزوا لهم طاولات في ذلك المنتزه الجميل».
أكمل في موضع آخر «إلى الحد الذي وصل فيه روار هذا المتنزه إلى ما يقارب 350 إلى 400 شخص في الليلة الواحدة».
وأكد على لسان هذا «المغامر» – على حد تعبيره – بأنه خلال هذه التجربة «لم تسجل ولا مشكلة، حتى لو كانت بسيطة، لا من أهل البلد، ولا من مرتادي المنتزه».
«كازينو سيهات» مشروع المرحوم أحمد الربعان الذي توسع لاحقاً إلى سينما.
قصة الشاب المغامر
ما جاء في رواية الناصر؛ أكده جاسم الحكيم، وهو صديق قديم للمرحوم الربعان، قال «كنت أنا من أوصل الناصر إلى الربعان، بطلب من الأخير، ليكتب الرواية على لسان المصدر نفسه، أو الشاب المُغامر، كما وصفته الرواية. وكنت حاضراً أثناء سرده تفاصيل التجربة».
أضاف الحكيم «ما حدث بخصوص المتنزه، بعد أن تم ردم البحر؛ أن الشماسي أحاط المكان بأعواد من الحطب، لفرض أمر واقع بأن هذه الأرض تم استثمارها حديقة، خوفاً من فقدانها، إذ قام بتشجيرها خلال فترة قياسية جداً، ولكنها احتاجت جهداً كبيراً لإتمامها في ذلك الوقت».
أكمل أنه «في تلك الفترة؛ استأجر الربعان جزءاً من الأرض لإقامة المقهى، وبحسب ما ذكر لنا (الناصر وأنا)، كان يذهب إلى جدة لجلب الأشرطة السينمائية، واستخدامها في العروض».
حول الربعان؛ قال الحكيم «كان شاباً طموحاً مثابراً، عاش في أحد البيوتات القديمة المبنية بالخشب؛ «صندقة» صغيرة. بدأ العمل منذ سنواته الأولى، في بيع المرطبات؛ «البيبسي» و«الكولا» وما شابه. وكان يساعد والده. كبر وكبر حلمه في الاستثمار من بوابة مشاريع صغيرة، فكان «كازينو سيهات» والسينما التي لم تمكث طويلاً، فقط زهاء 18 شهراً».
عوداً الى البدايات، قبل تشييد المتنزه؛ أوضح الحكيم أنه كان جزءاً من ساحل سيهات، يمتد من سوق السوق السمك الحالي، وحتى جنوبه. مجرد شاطئ مُطل على الخليج، وعلى ضفافه الغربية بُنيت معظم مساكن موظفي «أرامكو» ابتداءً من 1958، ثم تم ردمه مع بدايات عام 1966 تقريباً. فكان مكاناً للهو الأطفال وبعض العوائل، حتى تم إنشاء المتنزه على يد الشماسي.
المتنزه كان الأضخم في المنطقة الشرقية حينها، وقدم فعاليات غير مألوفة على المجتمع.
نساء بلا عباءات
أحمد الهزاع ممن تعاونوا مع الربعان في «الكازينو»، ولأنه كان مديراً في «أرامكو»؛ كان يملك هاتفاً أرضياً في منزله، وهو ما كان نادراً حينها في سيهات. من خلاله كان يتم حجز مقاعد السينما، بعد اتصالات ترد من سكان الدمام، الخبر والظهران.
روى الهزاع «كان المكان يعج بالناس، سيدات من جنسيات مختلفة، لم تكن بعضهن يرتدين العباءات، في منظر غير مألوف على مجتمعنا حينها. ما يُشعر الزائر بأن هذا المتنزه الترفيهي مكان متطور، لا يتناسب مع البيئة المحافظة التي تحتضنه. ومع وجود اعتراضات؛ إلا أنها لم تتصاعد لتكون سبباً في مشاكل أو عراقيل للمشروع».
أكثر من حديقة؛ و جزء من ذاكرة سيهات؛ المدينة والإنسان.
مدينة رائدة متطورة
محمد جعفر المسكين، اليوم هو في العقد السابع، عاصر الكثير مما مرت به مدينته سيهات، بما فيها إنشاء المتنزه، حتى التقدم اللافت الذي عايشه المجتمع على مر عقود.
بعد أن استعرض دور الشماسي في إنشاء المنتزه؛ قال «في سيهات كان الاستعداد حاضراً للتقدم والتطور، واستنساخ المُستجدات، وربما كان الانفتاح فيها أوسع نسبياً، كون ابنائها من العمال الأوائل في «أرامكو»، واحتضنت المدينة ثقافات متباينة، فكانت في ذلك رائدة تطور».
من الشواهد التي يدلل بها المسكين على كلامه كان «استحداث السينما حدثاً يُعد الأول من نوعه في المنطقة. كما تأسس فيها ناد من أوائل الأندية السعودية، وحتى على المستوى العمراني؛ كان حي الطابوق (العمال) أول مكان بعد الظهران، تُنقل له تقنية بناء المباني بالطابوق (ومنه استوحى الحي اسمه). فلا عجب إذن لو كان المتنزه يفوق مستوى الحدائق العادية في تلك الفترة».
المرحوم أحمد الربعان.
صعوبات التجربة السينمائية
في شهادته؛ قال يونس صليل – وهو من موظفي أرامكو الدين وصلوا إلى مناصب عُليا «إن إنشاء المنتزه كان فكرة تولدت لدى مجموعة من أهالي سيهات. رفعوا طلباً إلى البلدية بإنشائه. وكان ذلك منتصف الخمسينيات، تحديداً عام 1957، واستجابت البلدية لطلبهم، وتفاعلت مع الأمر بشكل مباشر. بعد ذلك استأجر الربعان، وهو بمثابة ابن ليّ، جزءاً من المنتزه، ليقيم عليه مشروعه».
يصفه بالقول «كان شاباً متحمساً، لكنه لم يملك تجربة حينها. كما كانت وسائل التواصل معدومة. بدأ الأمر من مقهى يضم سينما، في نوع من الترفيه، في حين كان المشروع الأساس هو المقهى. لكن المجتمع لم يكن جاهزاً لمثل هذه القفزة. ومع ذلك؛ اجتهد المرحوم أحمد الربعان بشكل كبير في تجهيز السينما. زودها بأفلام ذات بكرة صغيرة مقاس 8 مليمترات، و«بروجكتر» صغير، وشاشة مقاس 60 في 80 سنتيمتراً، وساعده في العمل بالمقهى شباب من سيهات نفسها».
استدرك صليل موضحاً «لم يكن ما يحدث طفرة اجتماعية؛ إنما أمنية تختلج في صدر شاب طموح، رغم الإمكانات المحدودة، وعدم جاهزية المجتمع لتقبل مشروعه الجريء بمقاييس ذاك الزمان».
تحمل الربعان الكثير من التعليقات حول مشروعه. كما كان يتعثر ببعض العوائق، مثل عطل في ماكينة أو جهاز، لكنه استمر لمدة سنة ونصف السنة تقريباً، استقبل خلالها الأهالي والمقيمين، والكثير من سكان الخبر، والدمام، والجبيل، بينما كان الحضور من محافظة القطيف قليلاً، والغالبية من أهالي سيهات وعنك.
حسن الغانم في فيلم «الذباب» عن الملاريا الذي انتجته «أرامكو» عام 1950.
الغانم يُلهم الربعان الفكرة
عن مصدر الفكرة؛ رجح صليل أن الربعان «قد يكون استلهمها من حسن الغانم، الذي كان يعمل مسؤولاً عن وحدة التثقيف الصحي في «أرامكو»، حيث كان مسؤولاً عن إرسال عدد من عمال الشركة، الذين كانوا في الأصل من أهالي القطيف، واتذكر منهم سيدتين أيضاً. عملت هذه المجموعة على تثقيف أهالي القطيف عن طريق عرض الأفلام التوعوية والاحترازات ضد أمراض الملاريا وغيرها. ولا استغرب إن كان استعان بأحدهم».
اما عن المقهى؛ فأوضح أنه أمر «لم يكن جديداً ولا مُستحدثاً حينها، بل كان هناك حوالى ثلاثة أو أربعة مقاهيَ في سيهات، يتجمع فيها الشبان والكبار».
صورة جوية لمتنزه سيهات.
متنزه؟ أم قاعة أفراح؟
يستعيد صليل ذاكرة أيام الشباب «كنت أمارس المشي في أروقة المتنزه، الذي كان يُطل حينها على البحر. كنت أجده عامراً بالأهالي في أمسياتهم، خصوصاً المقيمين في سيهات. ولاتزال بعض العوائل من الجاليات العربية حتى الآن، تقيم مراسم زفاف مُصغرة لأبنائها هناك، ويلتقطون الصور للذكرى».
ما استعاده صليل من ذكريات سحيقة؛ شاهده أثير السادة عياناً قبل أسابيع؛ إقامة حفل زفاف لمقيم سوداني وسط المنتزه، ما يشي باستمرار استخدامه محفلاً لمثل هذه المناسبات.
يعزو السادة، استخدام المتنزه لإقامة مثل هذه الطقوس الاجتماعية، والاحتفال بالمناسبات والأعياد قديماً «لكون المتنزه المرفق الترفيهي الوحيد في المدينة، رغم التطور السريع الذي شهدته سيهات لاحقاً».
بوستر فيلم «أبي فوق الشجرة».
«أبي فوق الشجرة»
بتفصيل أوسع؛ كتب جعفر النصر لـ«صُبرة» شهادته على حقبة المنتزه، دونّ «أصبح معلماً من معالم هذه المدينة، له تاريخ حافل، لا يخلو من الطرائف. تاريخ يليق بمقامه باعتباره أول متنزه في المنطقة الشرقية – كما أظن – بهذه المساحة وهذا التخطيط والتنظيم وقت إنشائه. أقول هذا لاعتقادي أنه إن وجدت حينذاك حدائق في مدن أخرى، منها الدمام والخبر؛ فإنها كانت حدائق صغيرة المساحة، باستثناء حديقة شارع الملك سعود في الدمام»، مستدركاً أنه «حتى هذه؛ لم تكن بمساحة متنزه سيهات».
يواصل النصر نبش ثنايا ذاكرته «بزغ نور متنزه سيهات نجماً بارقاً في سماء المنطقة أواخر ستينيات القرن الماضي (العشرين)، تداول الناس أخباره، توافدت جموع من الخبر، الدمام والقطيف، ومن كل حدب وصوب، ليستمتعوا بقضاء عطلهم الأسبوعية، سيما أوقات العصر والأماسي، في هذا المتنزه الوليد في سيهات».
أشار إلى ان هذا الحدث كان «مناسبة لأن تفسح بلدية سيهات المجال لمن يرغب في الاستثمار التجاري. فتقدم المرحوم أحمد الربعان، طالباً الترخيص له بفتح مقهى داخل المتنزه، فكان له ما أراد. كان ذلك عام 1968، حيث أطلق على اسم مقهاه «كازينو سيهات».
ما إن رأى الربعان انجذاب الناس وحماسهم لارتياد مقهاه؛ حتى أقدم على تحقيق فكرة جالت في ذهنه، ليتفاجأ رواد المقهى بما لم يسبقه إليه أحد من قبله، ولم يلحق به أحد من بعده. ذات مساء؛ حيث كان الناس لاهين في أحاديثهم، هذا يرشف الشاي الأحمر، وذاك شاي الكرك، وآخر يتذوق القهوة مستمتعاً برائحتها. وإذ بشاشة كبيرة أمامهم تسطع بأنوارها، فجأة يطل عليهم عبدالحليم حافظ ونادية لطفي في فيلم «أبي فوق الشجرة». لم يستوعب الناس ما رأته عيونهم، ظنوا أنهم في حلم. لم يصدقوا أنهم في ساحة سينما مفتوحة في الهواء الطلق ونسيم الليل يداعبهم، والقمر يطل عليهم من بعيد، يشاركهم فرحتهم وغبطتهم. ها هم وجهاً لوجه مع عبدالحليم حافظ، نادية لطفي، ميرفت أمين، ناهد سمير، عماد حمدي، سمير صبري، وصلاح نظمي، إلى آخر النجوم الساطعة على الشاشة الفضية في تلك الليلة المُقمرة (كاتب قصة الفيلم إحسان عبدالقدوس، والمخرج حسين كمال).
شاعت أخبار تلك الليلة الحلم. ترددت أصداؤها في كل مكان، سمع بها القاصي والداني، مواطنون ورسميون، تناهت الأنباء إلى مسامع رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانطفأت الشاشة الفضية بعد فترة عروض استمرت من شهر إلى شهر ونصف الشهر تقريباً. فلا سينما، ولا مقهى.
هكذا روى جعفر النصر قصة سينما الربعان.
المرحوم أحمد الربعان.
تحفظ ومعارضة
لفت عبدالله الدبيس، إلى أنه رغم وجود متحفظين ومعارضين لارتياد المنتزه في ظل التغير الحاصل والانفتاح؛ الا ان الوضع السائد كان أكثر ترحيباً. كان المكان مُتاحاً للعوائل من الجاليات العربية، وأيضاً عائلات سيهات ذاتها. والشبان كانوا الأكثر إقبالاً على المقهى والسينما.
عن التحفظ المجتمعي؛ روى علي خليفة الهزاع انه «لم يقبل والدنا ذهابنا لمشاهدة أفلام السينما، وارتياد المتنزه، لكونه أكثر انفتاحاً مما يتقبله مجتمعنا المحافظ حينها».
في حين كانت شهادة عبدالهادي المشامع، على النقيض من الهزاع، إذ استمتع بمشاهدة فيلم «أبي فوق الشجرة»، الذي كان يعرض بشكل مستمر في سينما المنتزه.
متنزه سيهات لم يشكل مجرد حديقة في ذاكرة سكان المدينة وما حولها.
إطلالة وجمال
من جانب آخر؛ رأى حبيب محيف في شهادته أم «المتنزه كان – ولازال – ملتقى الجاليات العربية، ومكاناً ترفيهياً. ورغم التطور الكبير الذي نشهده اليوم في الحدائق؛ لكن متنزه سيهات حينها كان متطوراً بشكل كبير، يراود مرتاديه شعور بأنهم خارج المملكة، بسبب الإطلالة البحرية، وجمال المساحات الخضراء التي توزعت فوقها الجلسات، إضافة إلى العروض السينمائية».
بدوره؛ ذكر محمد علي الخليفة أنه «لا زالت أبعاد الحديقة كما هي منذ إنشائها أول مرة في نهاية الستينيات، ذات المساحة الخضراء لم تتغير أو تتوسع، لكنها كانت حافلة بالمناسبات ومكتظة بالحضور، فلا تجدها خاوية مُطلقاً».
استدرك الخليفة بالقول «مع أن الربعان قام بتغيير لافت في زمن البساطة وقتها، ورغم أن الغالبية لم تستغ الأمر الذي وجدوه انفتاحاً كبيراً؛ الا أن الأمر استمر قبل أن يبدأ عصر الهيئة والإخوان، ليتم إغلاق السينما نهائياً».
يعتقد الفنان علي السبع، أن المتنزه والسينما كان «المشروع الترفيهي الأول في المنطقة بهذا المستوى العالي من التطور، حيث الإنارة المتميزة، والطاولات الحديد الموزعة بشكل متناسق بين الأشجار التي حفت بحدود المكان الذي تميز بموازاته البحر، ليشهد بعدها فعاليات اجتماعية، ومهرجانات ومسابقات واجتماع الأهالي، وحتى المقيمين من سكان سيهات، كانت لهم فرصة الاستمتاع بهذا الجو والمكان».
من بينهم؛ يتذكر السبع: علي واجد، الباكستاني، وأحد موظفي شركة رجل الأعمال عبدالحميد المطوع، وقد التقاه السبع في المتنزه قبل فترة وجيزة، برفقته ابنته.
بعد أكثر من نصف قرن؛ بقى المنتزه حاضناً لسيهات.
استثمار مجتمعي مستمر
مع عدم استمرار المشاريع التي حظي بها المتنزه طوال أربعة عقود، إلا أنه رغم مرور هذه السنوات، وبعد أن ردمت الجهة الشرقية من المنتزه بأكملها، لتنشأ فوقها مساكن وبيوت الحي الذي حمل الاسم نفسه؛ إلا ان الحديقة بقيت «أماً حانية»، تستقبل ابناءها في الأعياد والمناسبات، رغم تقدمها في العمر، والمستوى المتهالك الذي هي عليه اليوم.
يقول علي أحمد الزواد «تم استثمار العمل الاجتماعي في المتنزه بمشاركة الجمعية ولجان عديدة في سيهات، ففي الوقت الذي استضافت فيه مهرجانات الأعياد ومهرجان «سنابل الخير»، وفعاليات أخرى؛ رعت تلك الفعاليات جمعية سيهات، ومنها ما تبنته لجنة «سيهات جميلة»، ومنها ما قام بشراكات مجتمعية متعددة. في المجمل المتنزه يحتضن الكثير من المبادرات والمناسبات والفعاليات؛ ثقافية، فنية، رياضية واجتماعية».
ويذكر رئيس جمعية سيهات شوقي المطرود، أن الجمعية «استفادت من أرض المتنزه في إقامة فعاليات على مدار السنوات الماضية»، مبيناً أنه «بشكل عام؛ لم تكن مناسبات دورية، أو مستمرة، بما فيها مهرجانات ومسابقات وفعاليات كان آخرها «المعيد» قبل سنتين».
المنتزه رئة سكان سيهات.
مهرجانات ومسابقات موثقة
بدوره؛ يقول السيد نجيب السيهاتي «هذا المتنزه شهد في العقود الأخيرة، مهرجانات تواصلت لسنوات، منها مهرجانات الأعياد، ومهرجانات الصيف، والمهرجانات المفتوحة، و«سنابل الخير»، ومهرجان سيهات. قبل أن ينتقل بعضها إلى أماكن أخرى. كما شهد المتنزه أمسيات ثقافية، مسرحيات، مسابقات قرآنية. وأخرى رياضية. و بات ممشى رياضياً للجميع؛ سيدات ورجالاً».
وثق السيهاتي، الكثير من الفعاليات بكاميرته الصغيرة، التي التقطت آلاف الصور للمتنزه ورواده.
رئيس نادي الخليج المهندس علاء الهمل، كان أحد المشاركين في مهرجان «الوفاء» و«سنابل الخير» ومهرجانات الأعياد، ومناسبات أخرى أقيمت في المنتزه.
الملاعب والشواطئ لم تلغ المنتزه مكاناً يقصده السواهتة لممارسة الرياضة.
المهرجانات تعود بعد توقف
بعد توقف الفعاليات لسنوات؛ شهد المنتزه أول مهرجان للأعياد ثاني أيام عيد الأضحى المبارك من عام 2009، افتتحه نائب رئيس المجلس البلدي لمحافظة القطيف فالح المليحي. وشهد تدفق أعداد كبيرة من الأهالي، ومن مواطني دول مجلس التعاون الخليجي.
وبحسب ما قررته اللجنة العليا للمهرجان، برئاسة عيسى المزعل؛ كان من المفترض افتتاحه لمدة 3 أيام فقط، لكنه امتد ليومين آخرين «نزولاً عند رغبة الزوار». وافتتح المهرجان أمام المنتزهين إثر انتهاء أعمال التجديد التي أدخلت عليه حينها.
بينما شهد آخر مهرجان للأعياد، الذي اطلق عليه اسم «المعيد»، ودشنه الشيخ عبدالله السيهاتي في الفترة ذاتها من الأيام الأولى من عيد الأضحى المبارك قبل عامين (2019)، ونظمه فريق لجنة «سيهات جميلة»، تحت إشراف بلدية محافظة القطيف، في مبادرة لإحياء الموروث الشعبي القديم الذي كان يُقام سنوياً في خمسينيات القرن الماضي، في مسجد العيد بحي الخصاب.
يبدو أن النية كانت مُبيتة لاستمرار «المعيد»، إلا أن جائحة كورونا حالت دون ذلك.
الصور الواردة في هذا التقرير من أرشيف كل من: جاسم الحكيم، محمد الشافعي وأشرف السبع.