إن أدب الجريمة أكثر من مجرد وسيلة ترفيه شعبية، فالتركيز على الجهويات والمناطق من جهة والمقاربة التحليلية العميقة تجاه القضايا السياسية والهياكل المجتمعية التي تقوم عليها الجريمة من جهة أخرى يجعل هذا النوع من الأدب أشبه بمجهر لتفاصيل الحياة الحديثة في ألمانيا.
فورين بوليسي: يُنشر سنويا أكثر من 3 آلاف رواية جديدة من نوع أدب الجريمة (غيتي)
دفعت إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990 مواطني البلاد إلى نقاش عام واسع النطاق حول الماضي المضطرب، و بعد مرور 30 عاما، تشهد البلاد طفرة في روايات الجريمة باللغة الألمانية ويتناول كثير منها الأحداث الرئيسة في القرن الـ20 مثل الحرب العالمية الأولى، وانهيار الإمبراطوريتين الألمانية والنمساوية المجرية، وجمهورية فايمار، والكساد العظيم، والاشتراكية القومية، والحرب العالمية الثانية، واحتلال الحلفاء، وتقسيم ألمانيا وغير ذلك.
وإلى جانب تلك الأحداث التاريخية الملهمة، وفّرت قدرة الدولة الحديثة على اضطهاد المواطنين المعارضين، ومراقبة أفعال الأفراد أو الجماعات المعارضة، ورد فعل الحكومة المفرط في بعض الأحيان مادة غنية لقلم كاتب الجريمة التاريخية، حسب مقال مشترك للناقدتين مارينا صوفيا وكات هول في موقع محبي أدب الجريمة (crime fiction lover).
حدث في برلين
أحد أبرز الأمثلة على ذلك من الأدب الألماني هو سلسلة "حدث ذلك في برلين" ، حيث تدفع تحقيقات مفتش شرطة برلين هيرمان كابي إلى تتبع التاريخ الألماني قبل وقت قصير من انهيار الإمبراطورية الألمانية وحتى حقبة الحرب الباردة، وتقدم السلسلة قصة ملحمية متعددة الأجزاء تتضمن تحقيقا مفصلا في التاريخ الألماني في القرن الـ20، مع برلين المركز الرمزي للأحداث.
العديد من كتابات أدب الجريمة الألماني تدرس أيضا الإرث التاريخي الصعب لألمانيا، وتركز على الماضي النازي وأسئلة الذنب الفردي أو الجماعي، ويعدّ تردد أجواء ما بعد الحرب في معالجة الماضي موضوع رواية الأديبة أندريا ماريا شينكل التي نقلت قضية قتل حقيقية من عشرينيات القرن الماضي إلى مجتمع ريفي في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث تقتل عائلة بأكملها بفأس، ويتعين على القرّاء التدقيق في الأصوات والتفسيرات المختلفة لاتخاذ قراراتهم بشأن ما حدث.
الاستثناء الملحوظ للتركيز المهيمن على التاريخ الداخلي في أدب الجريمة الألماني هو المؤلف برنارد جومان، مع سلسلة رواياته التي تدور أحداثها في ناميبيا المعاصرة وتستكشف الآثار الطويلة المدى للاستعمار الألماني، وتناقش إحداها تداعيات سياسات الإصلاح الزراعي الأخيرة للحكومة الناميبية، التي ترمي إلى إعادة الأراضي الزراعية التي حصل عليها المستوطنون الألمان خلال الحكم الاستعماري إلى المجتمعات السوداء.
أدب الجريمة الألماني
ويعرف الألمان بهوسهم بأدب الجريمة لدرجة أنهم يستخدمون كلمة "كريمي" -وهو اختصار لرواية الجريمة أو فيلم الجريمة- كلاحقة لوصف أي شيء مشوّق، مثل مباراة كرة قدم أو مسابقة شطرنج أو حتى الانتخابات.
وفي التقرير الذي نشرته مجلة "فورين بوليسي" (Foreign policy) الأميركية، قال الكاتب توماس نيش إن أكثر من 3 آلاف رواية جديدة من هذا النوع يُنشر سنويا، إلى جانب الإنتاج الغزير للمسلسلات والمسرحيات المملوءة بالغموض والقتل والمهرجانات التي تحتفي بأدب الجريمة.
لطالما كان الألمان من كبار المعجبين بقصص الجريمة، ولكن هذا النوع من الروايات لم يظهر إلا في ستينيات القرن الماضي، ولم تشتهر القصص البوليسية الأنغلو-أميركية، التي تظهر مآثر شخصيات بارزة مثل شيرلوك هولمز، في ألمانيا إلا في بداية القرن الـ20. وبعد الحرب العالمية الثانية، سيطرت الأعمال المترجمة الأميركية والبريطانية على سوق أدب الجريمة في ألمانيا.
في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، مثّل ظهور "رواية الجريمة الألمانية الجديدة"، أو "رواية الجريمة الاجتماعية" بداية عصر الإنتاج المحلي. كانت حقبة الستينيات تفيض بالنظريات السياسية اليسارية الشائعة بين الطلاب والكتّاب والمثقفين الألمان، الذين طالما تمردوا ضد أسلافهم النازيين.
وإلى جانب أدب "الهارد-بويلد" الذي ظهر في الثلاثينيات والأربعينيات ويقوم على بطل هو المحقق الذي يحارب عنف الجريمة المنظمة في سياق نظام قانوني فاسد، وفضلا عن الفلسفة الماركسية وأعمال الكاتب البلجيكي جورج سيمنون وأعمال الثنائي السويدي سجوال وواهلو، أظهرت رواية الجريمة الاجتماعية ألمانيا الغربية مجتمعا تحكمه النخب السياسية والاقتصادية الفاسدة حيث يجبر المواطن العادي على اتباع السلوك الإجرامي لتحقيق غاياته.
كتابات أدب الجريمة الألماني تدرس الإرث التاريخي الصعب لألمانيا وتركز على الماضي النازي وأسئلة الذنب (غيتي)
الجريمة الاجتماعية
مع نشر مزيد من أعمال الجريمة الاجتماعية، تمكن المؤلفون الناطقون بالألمانية من الاستحواذ على جزء من سوق أدب الجريمة فباعوا أعمالهم لشبكات الراديو والتلفزيون والسينما، وتحسن دخل الألمان الذين باتوا قادرين على شراء الكتب والذهاب إلى السينما. ولعل أشهر المسلسلات التي ظهرت في ذلك الوقت مسلسل "تاتأورت (مسرح الجريمة) الذي أنتجت منه أكثر من ألف حلقة منذ عام 1970.
يعدّ مسلسل "تاتأورت" ظاهرة في حد ذاته، فقبل ظهور التلفزيون الخاص والإنترنت، كانت شوارع المدن والقرى في ألمانيا تخلو تماما من المارّة بعد الثامنة ليلا لأن الجميع كانوا يتحلّقون أمام التلفزيون لمشاهدة أحدث حلقة من المسلسل الذي أنتج بشراكة ألمانية نمساوية سويسرية.
إن أدب الجريمة أكثر من مجرد وسيلة ترفيه شعبية، فالتركيز على الجهويات والمناطق من جهة والمقاربة التحليلية العميقة تجاه القضايا السياسية والهياكل المجتمعية التي تقوم عليها الجريمة من جهة أخرى يجعل هذا النوع من الأدب أشبه بمجهر لتفاصيل الحياة الحديثة في ألمانيا. ولعل ذلك ما أكده الأكاديمي يوخن فوغت بقوله "إذا كنت تريد أن تفهم ألمانيا، عليك أن تشاهد مسلسل تاتأورت".
مثّل هذا العمل التلفزيوني (تاتأورت) بداية تجربة ترمي إلى التصدي لهيمنة الإنتاجات الأميركية على السوق وإنجاح الإنتاجات المحلية.
في هذا الصدد، كلفت "الهيئة العامة للبث الإذاعي في جمهورية ألمانيا الاتحادية" الشركات التابعة لها بإنشاء سلسلة إطارها المكاني مدن ومناطق مختلفة، مع التركيز على المناظر الطبيعية الفريدة والهندسة المعمارية واللهجة والعقلية والخصائص الاقتصادية، وكانت مدة كل حلقة 90 دقيقة من دون فواصل تجارية، ليوفر ذلك وقتا كافيا لتطوير حبكة قصصية معقدة في بيئات مميزة أثارت دهشة الجمهور.
تحولات أدب الجريمة
خلال سبعينيات القرن الماضي، كانت الجريمة نابعة من دوافع تقليدية مثل الحب أو الكراهية أو الجشع أو الرغبة في الحفاظ على السمعة. ولكن هذه الدوافع تغيرت في الثمانينيات عندما أصبحت السلسلة مهتمة بتصوير مجموعة متنوعة من الأوساط الاجتماعية والثقافات الفرعية، وذلك يعكس التجزئة الاقتصادية والثقافية التي بدأت تؤثر في ألمانيا.
بعد إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، توسعت السلسلة إلى ألمانيا الشرقية وتطرقت إلى التوترات والتحديات والفرص الإجرامية التي جلبها الاندماج بين شرق البلاد وغربها. كما أصبحت الجريمة المنظمة، والإرهاب اليساري واليميني، والتفاوتات الاجتماعية، وآثار العولمة والرقمنة، والهجرة الجماعية، والقضايا البيئية، والمشهد السياسي المتغير خلفية لقصص الجريمة في ألمانيا.
أدّت سلسلة تاتأورت دورا حاسما في منح أدب الجريمة في ألمانيا الشرعية التي يستحقها، ولا يزال هذا النوع من الروايات يحظى بشعبية كبيرة، وقد تطور تطورا هائلا كمًّا ونوعًا منذ الستينيات، كما مثلت سلسلة تاتأورت أرضية تدريب للكتّاب والمخرجين والمنتجين لصقل مهاراتهم وتجربة الصيغ والتقنيات الجديدة.