ركوب الخيل سمح للبشر بالسفر إلى مسافات بعيدة في وقت أقل. غير أننا لا نعلم الموطن الرئيس الذي انتشرت منه أسلاف الخيول الحديثة إلى أرجاء العالم.
التميز الجيني للخيول في سهول غرب أوراسيا جعلها تتفوق على غيرها من السلالات (بيكسابي)
لعبت الخيول أدوارا حاسمة في حياة البشر منذ القدم، إذ ساعدت المزارعين الأوائل على حرث حقولهم. ومنذ نحو 2400 عام، أسهمت الخيول بشكل كبير في انتقال البشر لمسافات بعيدة في جميع أنحاء أوروبا وآسيا، مما أدى إلى تغيير جذري في الحركة البشرية والثقافة والحرب. كما منحت الخيول المحاربين ميزة تنافسية في معاركهم.
سلالات قوية تغزو العالم
وقد كان العلماء متشككين حيال الموطن الرئيس الذي انتشرت منه الخيول الأليفة إلى جميع أرجاء العالم؛ إذ كانوا يرجعون موطنها إلى 3 أماكن رئيسة: الأناضول أو شبه جزيرة إيبيريا (شبه جزيرة الأندلس) أو سهول غرب أوراسيا (روسيا حاليا).
غير أن دراسة حديثة -نشرت في دورية "نيتشر" (Nature) يوم 20 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري- رجحت أن موطن الخيول الأليفة الحديثة هو سهول غرب أوراسيا.
ساعدت الخيول على إحداث تغيير جذري في الحركة البشرية والثقافة والحرب (بيكسابي)
وبحسب التقرير الصحفي الذي نشره موقع "ساينس ألرت" (Science Alert)، فإنه يبدو أن تلك الخيول القوية التي نشأت في "منطقة فولغا-دون" (Volga-Don region) في سهول غرب أوراسيا قد استطاعت استبدال السلالات الأخرى في أوروبا وآسيا في غضون ألف عام فقط، وذلك لتميزها الجيني الذي جعلها تتفوق على سلالات آسيا الوسطى وإيبيريا والأناضول.
في البداية، قام العلماء بفحص التسلسل الجيني الخاص بالتغيرات السكانية لـ273 جينوما للخيول القديمة، التي جُمِعت من مواقع مختلفة لترويض الخيول. وقد وجد العلماء أن الخيول الحديثة يرجع أصلها إلى مجموعة من الخيول التي سادت جغرافيًا خلال الألفية الثانية قبل الميلاد. وقد كانت هذه الخيول متشابهة -في نهاية المطاف- مع الخيول التي عاشت في سهول غرب أوراسيا قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد وفي أثنائها.
عوامل الاستبدال
كما أشارت النتائج إلى أن أسلاف الخيول الحديثة قد استبدلت تقريبا جميع أنواع سلالات الخيول الأخرى، وذلك في أثناء انتشارها عبر أوراسيا منذ ألفي عام قبل الميلاد.
إضافة إلى ذلك، فقد لعب ترويض الخيول وانتشار ثقافة الفروسية واستخدام العربات التي تجرها الخيول -التي اشتهرت بها "حضارة سينتاشتا" (Sintashta culture) في أثناء العصر البرونزي الأوسط في السهول الأوراسية- في ذلك الوقت دورا مركزيا في ارتقاء واختيار بعض الجينات المميزة من دون غيرها، بحسب الباحثين.
الجينان المكتشفان جعلا الخيول أكثر طواعية للتربية والتدجين وأكثر قدرة على تحمل الوزن (بيكسابي)
وقد أفادت نتائج الدراسة أن الخيول التي تم تربيتها في الجزء القديم من روسيا قد امتلكت جينين رئيسين ميزاها عن غيرها من السلالات التي عاشت في ذلك الوقت. إذ ارتبط الجين الأول -والذي يعرف باسم "جي إس دي إم سي" (GSDMC)- بسلوك الخيول الطيع والقابل للتدجين، بينما ارتبط الجين الثاني -والذي يعرف باسم "زد إف بي إم 1" (ZFPM1)- بأنه منح الخيول عمودا فقريا أقوى.
ومن ثم فإن هذين الجينين جعلا هذه السلالة من الخيول أكثر طواعية للتربية والتدجين، كما منحاها قدرة جيدة على تحمل الوزن، إضافة إلى جعلها أكثر مرونة وغير عدوانية المزاج.
أسباب الانتشار العالمي
وتتعارض نتائج هذه الدراسة مع الافتراض القديم بأن ركوب الخيل قد جُلِب إلى أوروبا من قبل الرعاة الرحل من الشرق منذ 5 آلاف عام. وعوضا عن ذلك، فإن علماء الدراسة الحديثة يخلصون إلى أن انتشار ركوب الخيل عالميا قد حدث بعد ما لا يقل عن ألف عام، وذلك بعدما انتشرت الخيول من سهول غرب أوراسيا إلى الأناضول والدانوب السفلي وآسيا الوسطى ثم إلى أوروبا الغربية ومنغوليا.
ويشير مؤلفو الدراسة إلى أن "امتطاء هذه الخيول في الفترة من 2000 إلى 1800 عام قبل الميلاد في أثناء حضارة سينتاشتا كان البداية التي مهدت لانتشارها. خاصة وأن العربات ذات العجلات الدائرية كانت ابتكارا لاحقا".
امتطاء الخيول كان السبب الرئيس الذي مهد لانتشارها عالميا (بيكسابي)
ولربما كانت الحروب والأسلحة وبناء المستوطنات المحصنة نتيجة لانتشار ثقافة ركوب الخيل -التي كانت هي الأخرى استجابة لتزايد الجفاف وتغير المناخ أو للمنافسة على أراضي الرعي- مما أدى إلى تعزيز مناطق النفوذ وبناء التسلسل القيادي.
ونتيجة لذلك الانتشار الواسع وثقافة البشر التي أفضت إلى تمييز بعض صفات الخيول دون غيرها، فقد حلت هذه الخيول الداجنة محل السلالات الأخرى بين 1500 إلى ألف عام قبل الميلاد، وذلك بحسب نتائج الجينات.
ويعتقد مؤلفو الدراسة أن انتشار الخيول إلى أوروبا لم يكن جراء جلب الخيول خلال الحروب، ولكنه كان نتاجا لما كان يقوم به مدربو الخيول في ذلك الوقت من نشر مهاراتهم وبناء عرباتهم المميزة التي تفوقت على ما دونها في ذلك الوقت.