هكذا صنعت السماء نبينا
بواسطة : السيد ماجد السادة -
25 أكتوبر، 2021
بسم الله النور. بسم الله نور النور، بسم الله نور على نور، والحمد لله الذي خلق النور من النور، والصلاة والسلام على مهبط النور النبي المحبور أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته أنوار الدهور.
لقد اقترنت رسالات السماء في دعوتها بالتبشير بميلاد نور نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، حتى قال تعالى في كتابه {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1)، فأظهرت الآية كيف أن مهام بعثة نبي الله عيسى عليه السلام الجوهرية هو التبشير بميلاد هذا النور المبارك، بل ستلحظ في الآية اقترانًا شديدًا بين دعوته وبين التبشير بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله، فكان ميلاد هذا النور هو ميعاد هذه البشرى العظيمة التي زفّتها السماء للبشرية جمعاء عبر رسلها وأنبيائها من لدن آدم وحتى نبي الله عيسى عليه السلام.
المتأمل في التاريخ سيجد أن بزوغ شخصية بمواصفات نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله في بيئة اجتماعية هي على النقيض تمامًا مع القيم التي جسدتها شخصيته وتمظهرت في سيرته هو معجزة إلهية بحد ذاتها، إذ هو أشبه ما يكون بواحة خضراء وروضة غناء تزينها أنواع الزهور وأصناف الثمار قد نبتت في صحراء قاحلة وأرض سبخة لا ماء فيها ولا غيث.
إن كل منصف يقرأ تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام ويلمس كيف تطغى على بيئتها القسوة والجهل والعصبية والحروب والسلب والنهب والظلم والمجون سيقف مذهولًا أمام بروز شخصية كشخصية نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله في وسط تلك البيئة التي هي على النقيض تمامًا مع قيم الرحمة والعفو واللين والسماحة والحلم والحكمة والأمانة والصدق والعفة والطهارة التي جسدها نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله في كل سيرته، بل سيقر مذعنا بأن وراء بناء هكذا شخصية يد سماوية.
إذا كان كل إنسان ابن بيئته في ثقافته وسلوكه إلا أن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله استثناء، إذ أن شخصيته إنما صنعتها السماء، أفلم يقلها ربنا تعالى لنبيه موسى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (2)؟! أي اعتنيت بتنشئتك وجعلتك محل رعايتي الخاصة وأعددتك إعدادًا خاصًا لتحمل رسالتي إلى الناس، فكذا نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله صنعه الله لنفسه.
هنا ينقدح تساؤل:
كيف رعت السماء تنشئة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وأعدته لحمل الرسالة؟ في الإجابة عن هذا التساؤل يمكن الإشارة هنا إلى نحوين من الرعاية وهما الرعاية التكوينية والرعاية التسديدية.
وهذان النحوان هما ما قد يفسران تميّز مدرسة أهل البيت عليهم السلام عن غيرها من المدارس في نظرتهم للمقامات الشريفة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وتنزيهه عن أي نقيصه ومثلبة سواء قبل بعثته أو بعدها.
(1) الرعاية التكوينية:
ونعني بها رعاية مرحلة تخلّق النبي صلى الله عليه وآله وتقلبه في عالم الأصلاب والأرحام.
يتفق التربويون على أن الأبناء تلحق بهم آثار وراثية من آبائهم وأمهاتم سواء خُلقيًا أو خَلقيًا، ولذا ورد عن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله: “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس” (3)، لما للعامل الوراثي من أثر على طباع الإنسان وسلوكه فضلًا عن تكوينه البدني.
من هنا أولت السماء أهمية لهذا الجانب في بناء شخصية نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله فاختارت له آباء وأمهات موحدين في رحلة تقلبه من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام المطهرة من لدن آدم – في سلسلة طويلة من الآباء والأمهات – إلى أن ولد من أبويه عبد الله وآمنة عليهما السلام، هذه الحقيقة أكدها النبي بنفسه صلى الله عليه وآله قائلًا: “لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية” (4)، فكانت الرعاية الخاصة تحيطه من السماء وهو يتقلب في تلك الأصلاب والأرحام وبهذا المعنى فُسر قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (5) أي تقلبك في أصلاب وأرحام الموحدين الساجدين المطيعين لله تعالى.
2) الرعاية التسديدية:
ونعني بها الرعاية التهذيبية السلوكية لنبينا الأكرم صلى الله عليه وآله.
للبيئات الاجتماعية تأثيرها البالغ في تكوين شخصية أفرادها واكتسابهم عاداتها وثقافتها، من هنا تجد حرص الآباء في متابعة أبنائهم بتهذيبهم وتجنيبهم أي لوثات سلوكية وغيرها قد تأتيهم من المحيط العام والمتنوع.
بيد أن السماء ولحساسية هذه المرحلة في بناء شخصية النبي الخاتم صلى الله عليه وآله لم توكل المهمة للبشر، بل أفردت له ملكًا خاصًا يعنى بتهذيبه وتسديده نحو الفضائل ومكارم الأخلاق منذ نعومة أظافره صلى الله عليه وآله، وبهذا أنبأنا أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبته وهو يصف نبينا صلى الله عليه وآله قائلًا: “لقد قرن الله به من لدن أن كان فطيمًا أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم” (6) فكان تأديب وتهذيب نبي الإسلام برعاية إلهية تسديدية خاصة، ومن هنا نفهم قول نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله عن نفسه: “أدبني ربي فأحسن تأديبي” (7).
وقد استفاضت الروايات بهذا المعنى من الرعاية ومنها ما ورد عن إمامنا الصادق عليه السلام في تفسيره للروح في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (8)، بأنه (خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد صلى الله عليه وآله وهو مع الأئمة يوفقهم ويسددهم) (9)، وتضيف هذه الرواية أنه حتى هذا النحو من الرعاية شملت السماء به أهل بيته الأطهار عليهم السلام، ولذا قالوا عليهم السلام: “نحن صنائع ربنا”.
هكذا صنعت السماء نبينا محمد صلى الله عليه وآله، بل وصنعت أهل بيته الأطهار عليهم السلام.
(1) 6/ الصف
(2) 41/ طه
(3) السرائر/ لابن إدريس
(4) بحار الأنوار/ ج15
(5) 219/ الشعراء
(6) نهج البلاغة/ خطبة 192
(7) بحار الأنوار/ ج16
(8) 85/ الإسراء
(9) بصائر الدرجات
(10) بحار الأنوار/ج53
رد مع اقتباس
