هل يمكن للشخص أن يتحدث لغة لم يتعلمها ؟!!
في أحد الأيام حضر عندي بالعيادة , رجل مع امرأته , والرجل معتقد جزما أن أحد الجن قد تلبس إمراته وهو يتكلم على لسانها بلغة غير مفهومة , واحيانا يذكر بعض الكلمات السيريلانكية , ويقول الزوج إن العاملة المنزلية قد سحرت زوجتة حيث إنها من الجالية السيريلانكية , مما أدخلهم في دوامة كبيرة من الشكوك والاضطراب .
وبفضل الله تعالى , تم تقييم الحالة على إنها نوبات من الحالات الانشقاقية التحولية , وتم عمل الجلسات النفسية , واعطائها بعض الأدوية التي حسنت من وضعها كثيرا , وما زالت المرأة تتابع في عيادة الطب النفسي وعند المشائخ كذلك , أسأل الله لها الشفاء العاجل .
ولكن هذا الموضوع ظل عالقا في ذهني لفترة , وقد قمت بعمل بحث مبسط حول هذه الظاهرة , وهل يمكن للشخص أن يتحدث لغة لا يعرفها أو أن يتحدث لغه غير مفهومة لمن حوله , وهل هذه الظاهرة موجودة فقط عند المسلمين أم إنها ظاهرة عالمية .
لذلك أحببت أن أشارككم ما توصلت إليه , سائلا المولى لنا ولكم التوفيق والسداد .
إن مصطلح Glossolalia لاتيني يأتي بمعنى Speaking in tongues ( الكلام الأجوف أو الكلام من اللسان ) , وهو عبارة عن مقاطع لفظية لا تحمل معنى الكلام الشامل الذي يسعى لتحيقيق هدف محدد , وفي كثير من الحالات يكون جزء من بعض الشعائر الدينية . وهذه الكلمة في اصلها اللغوي مكونة من جزئين Glossa بمعنى ( اللسان أو اللغة ) و كلمة Lalia بمعنى ( الحديث أو الكلام ).
ومصطلح Speaking in tongues ( حديث اللسان ) استخدم عندما تم ترجمة الإنجيل من اللغة اليونانية الى اللغة الإنكليزية في القرن الرابع عشر الميلادي , وأول من الستخدم Glossolalia في الإنجليزية هو فريدريك وليام عام 1879 ميلادي .
وهذه الطريقة في الكلام عند بعض الأقليات هي جزء من اللغة المقدسة , وهي تختلف في مضمونها , وتوجد في الديانة النصرانية وغير النصرانية , حيث إن الكثير من الأشخاص يعتقد أن هذا الأسلوب الكلامي هو ردة فعل للمشاعر العاطفية الشديدة وتظهر في نوع من الهستيريا .
في عام 1972 م قام عالم اللغويات وليام سمارين من جامعة تورينتو الكندية , بنشر تقرير شامل حول موضوع Glossolalia (حديث اللسان ) , واستند في تقريره على عينة كبيرة مسجلة على مدى خمس سنوات من القطاعين العام والخاص في الاجتماعات الكنسية الخاصة بحركة المسيحيين الخمسينية – وهي حركة دينية بروتستانتية ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين , واتباع هذه الحركة يعتقدون حلول الروح المقدسة عليهم من خلال عدة علامات، أبرزها: التكلم بألسنة مختلفة، التنبؤ، وشفاء المرضى - في كل من إيطايا وهولندا وجامايكا وكندا والولايات المتحدة الإمريكية.
وقد وجد سمارين أن هذه الطريقة في الكلام ( حديث اللسان ) , تشبه لغة البشر في بعض النواحي , فالمتكلم يستخدم اللهجة والإيقاع والتجويد والوقفات وذلك لتفريق الخطاب الى وحدات منفصلة , كل وحدة هي في حد ذاتها تتكون من مقاطع، ويجري تشكيل المقاطع من الحروف الساكنة والمتحركة المأخوذة من اللغة المعروفة للمتكلم.
وهكذا فهو يعرف Glossolalia أنه مجموعة أو سلسلة من المقاطع والنغمات التى تتحد مع بعضها البعض لكي تشكل ما يشبه الكلمة أو الجملة وتكون قريبة جدا أو مماثلة للغة البشر في النغم والإيقاع .
وقد أكدت عالمة النفس واللغويات , فيليسيتاس غودمان , أن ( حديث اللسان ) يعكس أنماط الخطاب من اللغة الأم للمتحدث . وقد قامت بدراسة موسعة لما يمارسه أصحاب مذهب المسيحية الخمسينية في منطقة الكاريبي والمكسيك مع أصحاب الديانات الأخرى في إفريقيا واندونيسيا واليابان ,وخلصت الى أنه لا يمكن التمييز بينهم في الممارسات والإعتقادات حول هذا الموضوع.
وقد وجد سمارين أن التشابه بين ( حديث اللسان ) ولغة البشر هو تشابه سطحي فقط , وقد خلص الى هذه النتيجة اعتمادا على أن هذه المقاطع اللفظية لا تشكل لغة في حد ذاتها من حيث الترابط بين وحدات الكلام ومفهومه .
إن البشر يستخدمون اللغة للتواصل فيما بينهم , أما ( حديث اللسان ) فلا تنطبق عليه هذه الصفة , فهو ليس عينة من اللغة حيث أنه لا يشبة اللغة من حيث التنظيم الداخلي أو الترابط لإدراك العالم الخارجي , فهو لا يعدو كونه جزء من علم الصوتيات للغات الحية أو المندثرة .
إن اللذين يمارسون طريقة ( حديث اللسان ) في الشعائر الدينية , يعترضون على ما توصل إليه علماء اللغويات وعلماء النفس ويعتقدون أنهم يتحدثون لغات بشرية حتى لو لم يفهمها من حولهم أو أنهم هم لا يعرفون معناها تحت مسمى xenoglossy . ( حيث إن مصطلح Glossolalia يدل على مصطلح آخر وهو xenoglossy بمعنى أن الشخص قد يتحدث لغة مفهومة وهو أصلا لا يجيد هذه اللغة ولم يسمع بها من قبل . ) .
إن جذر مصطلح xenoglossy موجود في اللغة اللاتينية من كلمتين , Xenos بمعنى ( غريب ) , Glossa بمعنى ( لسان أو لغة ) , مثلا” عندما يوجد شخص لا يعرف اللغة الألمانية وفجأة دون أن يتعلم اللغة الألمانية يصبح يتكلمها بطلاقة , أو يتكلم اللغة الهندية بطلاقة دون أن يتعلمها .
ومن أشهر القضايا في هذا الصدد ما حدث للفتاة الإنجليزية ( روز ماري ) من مدينة بلاكبول البرطانية , فقد اصبحت تتحدث اللغة المصرية القديمة التي كانت مستخدمة منذ أكثر من 3300 عام مضت , وخلال أكثر من ألف إختبار للغة تم التأكد فعلا من هذه اللغة المستخدمة وقامت عالمة الآثار المصرية السيدة هولم بترجمة الصوتيات المسجلة بصوت الفتاة , فوقف العلماء في حيرة من أمرهم , كيف يمكن لفتاة انجليزية في عام 1931م أن تتحدث لغة مستخدمة من آلآف السنين , مما سبب جدلا واسعا بين العلماء حول مصداقية ما حدث .
وكذلك قضية الشاب التشيكي البالغ 18 عاما وهو كوس ماتي والذي حصل له حادث اثناء سباق ركوب الدرجات النارية في عام 2007 م , وفجأة اصبح يتحدث اللغة الأنجليزية بطلاقة , ولكن طلاقته في اللغة لم تستمر طويلا , وعند سؤاله عما حدث , كان لا يتذكر شيئا ” .
وفي الحقيقة هناك الكثير من الحوادث من هذا القبيل , ولكن لا يوجد توثيق دقيق لها بل معظمها من باب السبق الصحفي , وهذا يجعل عملية البحث العملي والتحليل غير دقيقة , وقد سمعنا بمثل هذه الحوداث في ديار المسلمين وكثير ما تفسر مثل هذه الأحداث على أنها مس من الشياطين , أو سحر أو تلبس , مما يجعلنا في حيرة من أمرنا . فهل يمكن للشخص أن يتحدث لغة لا يعرفها مسبقا” , لأنها ظاهرة عالمية وليست خاصة بالمسلمين لذلك يحتاج الأمر الى كثير من التوثيق الدقيق والدراسة التحليلة .
جهود العلماء في هذا الصدد :
إن التفسيرات العلمية لهذه الظاهرة متعددة , ومنها
علم الأعصاب :
في عام 2006 م تم فحص عدد من أدمغة الأشخاص الذين حصلت لهم أحداث مشابة , فوُجد أنه عند حدوث هذه الظاهرة يكون الجزء الخاص بالكلام في الدماغ غير نشيط بينما ينشط الجزء الخاص بالعاطفة , وينخفض نشاط الجزء الخاص بالتحكم في الدماغ , ولم يتم ملاحظة تغير في مراكز اللغة بالدماغ , مما يدل على إنه يوجد مراكز خاصة في الدماغ لهذه الظاهرة , وبهذا تم استنتاج أن ( حديث اللسان ) ليس له علاقة بالوظائف اللغوية في الدماغ .
الأطباء النفسانيين :
في القرن العشرين بدأت شعائر المسحيين البروستانت التابعة للحركة الخمسينية في الانتشار والتوسع , وهم أكثر الناس المؤمنين بهذه الظاهرة , فكان علماء النفس يعتقدون أن هذا الاعتقاد هو نتيجة لمرض عقلي . وفي عام 1927 م وصف جورج كوتن أن القدرات العقلية لمن يتحدث بطريقة ( حديث اللسان ) أقل من الأشخاص العاديين , وكان يعتقد أن هذه الظاهرة لها ارتباط وثيق بالفصام والهستيريا ولكن لم يكن لدية أي أدلة تجريبية تدعم اعتقاده , وقد تم دحض هذا التفسير عام 1969 م من خلال مجموعة من العلماء من جامعة مينيسوتا . وفي عام 2003 م قامت مجلة علم النفسي الديني بنشر دراسة عن 991 حالة لظاهرة ( حديث اللسان ) , وخلصت الى ان الأشخاص اللذين يتمتعون بهذه الظاهرة أنهم أسوياء وليس لديهم أي أمراض نفسيه , وهكذا ما زال الجدل قائما .
التنويم الإيحائي ( المغناطيسي ) :
يعتقد بعض العلماء المختصين بالتنويم الإيحائي أنه يمكن تفسير هذه الظاهرة عن طريق التنويم الإيحائي , لأن الكثير من أعراض هذه الظاهرة تحدث في حالة التنويم أو النشوة العاطفية , ولكن الدراسة التي أجرتها جامعة مينيسوتا لم تثبت هذا الأمربشكل قطعي , إلا أنهم ذكروا أن الحالة النفسية والعاطفية للشخص لها دور في حدوث هذه الظاهرة .
علم النفس السلوكي :
توصل عدد من علماء النفس السلوكيين أن ظاهرة ( حديث اللسان ) هي عبارة عن ظاهرة سلوكية مكتسبة , يمكن للشخص أن يتعلمها مع الوقت .
لقد قمت بهذا العرض المبسط لوجود هذه الظاهرة , لأنه يوجد الكثير من الحالات التي تأتيني للعيادة وهم يعتقدون جزما انه عندما يقرأ الشيخ ( الراقي ) عليهم آيات السحر أو المس فإن الشخص يبدأ بالكلام إما بلغة غير مفهومة للحاضرين أو بلغة معروفة ولكن هذا الشخص أصلا لا يجيد هذه اللغة , وبهذا فإن هذه الظاهرة ليست موجودة فقط عند المسلمين بل عند غير المسلمين ايضا , ولكن الفرق انهم قاموا بعمل الإحصائيات والدراسات واشترك علماء الدين مع علماء الطبيعة والطب في محاولة تفسير هذه الظاهرة , أما عندنا فقد اكتفينا فقط بنقل مثل هذا القصص هنا وهناك ونحن نتعجب منها .
وأنا شخصيا لا يوجد عندي تصور واضحة لهذه المسألة , بل اقول إن هذا الموضوع مجال للبحث والدراسة , فهو من المسائل الظنية التي لا يوجد فيها نص واضح صريح .
عن / مدونة الكاشف