ليس من الحق في شيء وسم الفن المعاصر - وحده - بالتمرّد، وكأنّ الفنون الأخرى لم تشهد الثورة في صفوفها. بل إنّ الحديث عن ''التمرّد'' و''الاحتجاج''، في كل فن وفكر، يكتسي دوما أبعادا فلسفية تجعله وعيا يتّصل بالإنسان في رحلته لاكتشاف الحقيقة، والتي تظل دوما محفوفة بالاعتقادات والأفكار الجاهزة، والأوامر والنواهي. كل تجاوز إنّما يسعى، عبر التمرّد، إلى دحض مثل هذه العقبات وتخطيها. إلاّ أنّ المسألة لا تتعلّق بالدنيوي وحده، بل تتعقّد وتلامس أسئلة الخلق والوجود في حميميته الأولى. وكل سؤال يتلصّص على الأجوبة التي تخالف القنوات المؤسساتية هو انتهاك للنظام القائم، وخرق للعادات الموطّدة، وزعزعة للأعراف السائدة. ويكتسب التمرّد قيمته من مخالفته هذه السبل، ورفع القدسية عنها، وإتاحة السبيل للاعتراض، والرفض، والاحتجاج.
ويبطّن التمرّد، دوما، ''قيمة''، لأنّ حركته تقوم على الاعتقاد بأنّ صاحبها على حق، أو أنّه يحسّ في قرارة نفسه، أنّ الأمور قد بلغت حدّا لا يطاق، وأنّه يدرك أن ''الصّلاح'' يقع خارجها. بيد أنّ ''التمرّد'' يقوم - دوما- على عاتق الذات الفردية في صراعها مع العالم والأشياء، فهو ينطلق منها ليعود إليها. وهي في ذلك تؤسّس مرجعيته الوحيدة، مادام رفضه يتّسع لكل معتقد وعرف، فهو في رفضه لها يناضل من أجل وعي ينطلق منه ليعود إليه، فيعرف العالم من خلال شعوره وإدراكه، بعيدا عن الجاهز القائم. فالإنسان المتمرّد هو ذلك ''الإنسان المنهمك في المطالبة بوضع إنساني تكون فيه جميع الأجوبة إنسانية، أي مصاغة بشكل منطقي''(1)، وأخطر ما في تعريف ''كامو'' للإنسان المتمرّد التأكيد على سمة ''الإنسانية'' في المعرفة، وعلى ''المنطق'' المستخلص من خواص العقل.
إنّ الاستناد إلى ''الإنسانية'' و''المنطق'' في إنتاج الفكر والفن، يجعل حركة التمرّد، حركة قائمة في صلب كلّ تفكير وخلق، لأنّها متعلقة بشرط الفردية المتحوّلة دوما والمنفلتة من القيد، مادامت تعتقد - لاحقا- أنّ ما حققته في هذه اللحظة سيتحوّل إلى معيار ومثال في لحظة أخرى قادمة. فهي أثناء إقامة الفكر تشهد التمرّد ينخر عوده، مثلما تحمل التفاحة الناضجة في باطنها عوامل هدمها وفنائها، وكلّ لحظة تمرّ تقودها نحو التعفّن والموت. لذلك جعل ''كامو'' كل كلام تمردا، لأنّه في لحظته الجديدة يناهض كلاما في لحظة أخرى أقدم منها. وعليه تكون حياة الإنسان سلسلة من ''التمرّدات'' المتتالية. وقد أدرك '' شيلر'' أنّ الغلّ الذي يسعى الإنسان للتملّص منه لا وجود له ماديا، وإنّما هو تسمّم ذاتي، أو إفراز مشؤوم لعجز مستديم، في مقابل التمرّد الذي هو تجاوز للذات(2).
لقد كان التسّمم الذاتي ناتجا عن التربية المتناقضة المتدابرة التي يقدّمها ''العقل'' و''العلمانية'' من جهة، والتي يقدّمها الدين والكنيسة من جهة ثانية. تسعى الأولى أن تخلد به إلى الأرض وتحاول الثانية - في وهن - أن ترتفع به إلى السماء. وينشأ التمرّد من رفض تبجّح الأولى وثقل ادّعاءاتها، ومسكنة الثانية وبشاعة خضوعها. وفي كلا الحالين ينتفي الوجود المادي للقيد والغّل، وتتجلى آثاره كاعتلال ذاتي مزمن.
لا يمكننا أن نقدّم تفسيرا واضحا للنعوت التي ساقها ''سروكين''، لتحديد سمات الفن المعاصر: (جهنمي، احتجاجي، متمّرد، عفن، تخومي، يبحث عن لإثارة، مهيّج، متكلّف، خليع، مسخط، استعراضي، هجين، وقح، منفّر، عدمي، إباحي، تهكمي، سادي)، إلاّ من خلال التمرّد. فإذا وعينا جيدا حقيقته، في السياق الغربي، أمكننا تتبّع ''النعوت'' وكأنّها نتائج طبيعية لسلسلة من الارتكاسات والانتفاضات، قادت الغرب إلى حربين كونيتين هدمت آخر قلاع العقل والقيمة والأخلاق، وتركت وراءها أرضا يبابا، بورا، لا تنبت إلاّ أزهار الشرّ، وأشواك الغضب والقلق، زرعها ''اللامعقول'' ببذور النقمة، فكان الفن: جهنميا، عفنا، تخوميا، هجينا، مسخطا، وقحا، مهّيجا، منفرا، ساديا.. إنّه اليوم يحاول بعث ''المركيز دي ساد'' من جديد(×) ليحتل حيّزه الطبيعي في مسار الفن الحديث. فالنجاح الذي يلاقيه ''المركيز دي ساد'': ''في عصرنا يفسره حلم مشترك بينه وبين الحساسية المعاصرة: المطالبة بالحريّة التامّة، تجردّ من الإنسانية (البشرية) يجريه العقل دونما تأثـر، تحويل الإنسان إلى أداة تجربة، النظام الذي يوضح العلاقة بين إرادة القوة والإنسان - الأداة''(3). إنّها سمات سيعثـر عليها فلاسفة القوة عندما يشرعون في (تنظيم عصر العبيد).
لقد كانت التربية التي أنشأت الإنسان - الأداة، الإنسان- الآلة، الإنسان- البنية، تربة جهنمية مزجت ذراتها بأشلاء الآلاف المؤلّفة من المتمردين والعبيد الذين سيقوا إلى المجزرة باسم العلم والحرية والوطن القومي، وبأسماء أخرى أقل وضوحا وتألقا يكتنفها الغموض. ولا يكون ثمن الحرية المطلقة التي يسعى الإنسان وراءها إلاّ عبودية جديدة لقيد وهمي، يتغلغل في داخلية الذات حتى العظم..
لقد وصف ''ساد'' نفسه هذه ''الجريمة العظمى'' حين اتهمّ الكتاب: فلاسفة، روائيين، وعلماء بارتكاب الجرائم، قائلا: ''إنّ فسادهم بلغ من الخطورة والنشاط مبلغا بحيث أنّهم لا يستهدفون- وهم يطيعون مذهبهم المخيف- سوى أن يمدّوا جرائمهم إلى ما بعد حياتهم. إنّهم لم يعودوا قادرين على ارتكاب الجرائم، ولكن كتاباتهم اللّعينة ستدفع إلى ارتكاب الجرائم، وهذه الفكرة اللطيفة التي يحملونها معهم إلى القبر تعزّيهم عن اضطرارهم - بحكم الموت - إلى التخلي عما هو موجود''(4). ولا يشكّل التنصّل من هؤلاء، ومن فكرهم، إلاّ أعدادا قليلة من الذوات، تسعى كل واحدة منها في عالم خاص مغلق خال من الأصوات. وكأنّها ''فقاعات'' معتمّة تسبح في فضاء من عدم، لأنّ ''الناس لا يتحادثون، تلك هي مأساة العصر، لم يعد المجتمع- منذ أمد- اجتماعيا، لقد تحلّل إلى ذرات خرقاء''(5). تتجاور وتتقاطع دون أن تجد دفء الحياة وحرارة التعارف، ''فإذا كان البشر لا يستطيعون الرّكون إلى قيمة مشتركة يقرّها الجميع في كل فرد، فحينئذ يصبح الإنسان مستغلقا بالنسبة لأخيه الإنسان''(6).
لقد حاول الأدب المعاصر زعزعة أركان ''الذرات الخرقاء'' وفضحها أمام نفسها وأمام الآخرين، حتى تتبدى عوراتها سافرة، ومن ثم الادّعاء بالوصول إلى ما هو أساسي فيها، والذي غدا عند النّقاد شرط الكتابة الحديثة، وعلامتها الأولى. لذلك تحوّلت الرواية إلى فن ''هتك الضمائر'' تتهافت فيه المصائب على البطل لتفضح جبنه وقلة حيلته، وهوانه، وضعفه، وصولا إلى البدائي والوحشي فيه، اعتقادا منها بأنّه الجوهري.
لقد وضع ''سارتر'' و''أ.مالرو'' أبطالهما في مواقف لا مخرج لها، بين كائنات دنيئة ووسط الثورات والحروب(7). وهو السّياق عينه الذي نسج حيثيات القرن العشرين، وإذا أراد الفن والأدب الكشف عنها وتعريفها فما عليه إلاّ المضي إلى النهاية، وسيكون ''مرغما على أن يغوص إلى أبعد حدود الشر، والفظاعة، والقبح، والدناءة. ذلك أنّه يريد أن يرى ما وراء هذه الحدود''(8). كما تتجسد حقيقة اليأس في المرور من خلال هذا الليل المظلم الذي لا نهاية له. وقد شعر الأدباء أنّ هناك أشياء في النفس تقع خارج كل سبر واستكشاف، ومهما أغرقنا الإنسان في وحل الواقع، فلن نصل إلى نهايته. كان ''جوليان غرين'' يقول: ''هناك جزء من نفسي يقع بعيدا عن متناولي''(9).
لم يتأسس الفن المعاصر على العقل والنظام، بل جعل الجنون والهدم منطلقا لفكره وتجريبه، للوصول إلى مصير الإنسان، من خلال الوقوف على الأساسي والجوهري فيه. وانتهت المحاولات إلى احتجاج صارخ ضدّ القيم والأخلاق من جهة، وضد الواقع وعلاقاته من جهة أخرى. وكلّ قراءة للفن والأدب المعاصر لا تقيم اعتبارا لهذا السياق الحافل بالمتناقضات، والذي فكّك المجتمع إلى ''ذرّات خرقاء''، وفكّك الإنسان إلى ''بنيات'' مغلقة، وجعل التمّرد والهدم منطقا للمعرفة.. قراءة لا تنال من فكّها الرموز سوى الدلالات الأولى الباهتة للغة مأزومة، والتي تُضلّل القارئ وتشتّت انتباهه وتخيّب اجتهاده. لأنّ الكتابة في ''سكونها'' الستاتيكي تخفي زخما حافلا بالثورة والهجاء، يتوثّب وراء كل تعبير وصورة. وإنّ الكتابة الحديثة احتجاج ''وجودي'' ''أنطولوجي''، حتى وإن تلفّعت بالغموض، والتزمت الصمت.
1 - ألبير كامو: الإنسان المتمرد، (ت) نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت، ط2، 1980، ص27.
2 - نفسه، ص23.
(×) أنظر الدراسة التي كتبها عنه ''فيليب سولير'' في ''القراءة وتجربة التخوم''، وما كتبه ''كامو في ''الإنسان المتمردّ''.
3 - ألبير كامو، ص62.
4 - نفسه، ص61.
5 - 132p Le temps des Assassins, : H.MILLER
6 - ألبير كامو: الإنسان المتمرّد، ص32.
7 - أنظر ألبيرس: الاتجاهات الأدبية الحديثة، ص78.
8 -.نفسه، ص79.
9 - جوليان غرين: المسافر على الأرض، ص66، نقلا عن ألبيرس، تاريخ الرواية، ص91.