ادباء روس!!
. لو سأل سائل :
هل كان أعمدة الأدب الروسي جبناء حقاً ، بحيث لم يتطرق أحد منهم للقيصر بحرف واحد في أعمالهم الضخمة ؟
و هل كان سكوتهم دليلاً على قبولهم بروسيا القيصرية و ما يدور فيها ؟
.
تولستوي ، دوستويفسكي ، تشيخوف ، غوركي ، ليرمنتوف ، تورغينيف ، غوغول ، بوشكين و غيرهم الكثير ... لم يهاجموا رأس الهرم السياسي مطلقاً و المتمثل في القيصر بذاته ، و إنما هاجموا القاع ... لماذا ، و كيف ؟
.
لنبدأ بدوستويفسكي مثلا ، نجده يستخدم كلمة " مجتمع " للإشارة للمجتمع الراقي أو طبقة النبلاء ، أما عندما يريد الحديث عن عموم الناس فإنه يستخدم مصطلح " الشعب " .
.
لقد أدرك دوستويفسكي أن عموم الشعب شيء و الطبقة النبيلة شيء آخر ، و لا يمكن بحال من الأحوال أن يفهم النبلاء و الأمراء حياة الشعب و طموحاته . و هنا نحن أمام معضلة تتمثل في أن أي أمير سيحل محل القيصر لن يختلف عنه سوى بالاسم ، و الاسم فقط !
فكرته قوية : عِلية القوم لا يفهمون لغة الشعب و لا يعرفون عنه شيئا !
.
تولستوي ، يفتتح رائعته " الحرب و السلم " بمشهد مبكي لجماعة من الشباب من الطبقة النبيلة يقومون " وهم سكارى " و في عربدة واضحة بربط أحد أفراد الشرطة بحيوان الدب و يجعلونه نكتة لهم !
رجل الشرطة الذي يمثل هيبة الدولة يُهان من مراهقين سكارى ، و عندما يعلم أهاليهم بالخبر لا يتمالكون أنفسهم من الضحك على المشهد الذي تخيلوه !
.
يا لهذه الدولة العظيمة ، القانون و هيبة الدولة تسري على الضعفاء فقط ، أما من يمتلك الملايين ، فالقانون لا يسري عليه !
أنت في بلد ترتبط فيه كرامتك و مدى احترامك بكمية المال الذي تمتلكه ، فإن كنت فقيرا ، فالأفضل لك أن تنسى الأمر ، حتى لو كنت موظفاً في الدولة نفسها !
.
تشيخوف كان من أوائل من تنبأ بالإنفجار الحتمي القادم في روسيا ، و أن الثورة مسألة وقت لا أكثر !
في رائعته " المنزل ذو العلية " ، ينتقد تشيخوف قيام الدولة بالإسراف في الإنفاق على المباني العامة و المؤسسات التي لن تُحسن شيئا في حياة المواطن الروسي . إنفاق من أجل المظاهر فقط . أما عن حياة الناس فمن سيء إلى أسوأ .
ما الفائدة من توفير الدواء لفلاح يعمل في ظروف قاسية و يعيش حياة بائسة ؟
كل شيء خطأ ، و لن تنفع ما تقوم به الدولة من عمليات " تجميل " لبعض المرافق ، ما لم يحدث تغيير حقيقي و كامل في حياة الناس .
.
غوغول ، المستهزئ الأبدي بأكثر الصور البشرية إيلاماً ، يحدثنا في تحفته الفنية " الأنفس الميتة " عن نظام القنانة . و كيف أن الفلاح يُباع و يشترى مع الأرض ، و لكن ما يدمي القلب أن غوغول توسع في الموضوع و جعل من بطله "تشيتشيكوف " تراوده فكرة أن الدولة لا تعرف حتى من مات و من ما زال على قيد الحياة من الفلاحين إلا بعد عمل الإحصاء السكاني و الذي يجري كل عشر سنوات .
ما أروعها من فكرة ، أن تموت و لكنك في أوراق الدولة حي ترزق و يتم تداول اسمك في صفقات بيع و شراء !
.
غوركي ، الأب الروحي للكتابات الإشتراكية ، و في روايته الخالدة " الأم " ، حدثنا عن الأجهزة الأمنية في البلد ، و جواسيس الدولة ، و كيف أن هؤلاء فقدوا أدنى انتماء للشعب ، و صار التلذذ بتعذيب الشعب و ملاحقته أكثر من مجرد عمل مكلفين بالقيام به ، أصبح هواية و مصدر لذة لديهم .
.
هذه الفكرة أيضا تناولها دوستويفسكي في " ذكريات من منزل الأموات " و استفاض في شرح أوضاع السجن و طرق التعذيب حتى أن القيصر بكى بشدة لما قرأ الرواية !
.
تورغينيف ، المتأثر بالثقافة الفرنسية و التقدم الأوروبي ، أحدث ضجيجاً قويا بروايته " الأباء و البنون " عندما أعلنها صراحة أن الجيل القديم من الروس لم يعد لديه أي رصيد يستحق الإحترام ، و أن الجيل الجديد إن أراد التقدم فعليه تحطيم كل الأصنام التي بناها لهم الجيل القديم .... ثورة تامة على كل الموروثات القديمة البالية هو ما تحتاجه روسيا .
.
ليرمنتوف ، يحدثنا عن وضع الشباب الذي قتلته الظروف بحيث لم يعد يشعر بشيء و لا يرغب بشيء و لا يعنيه شيء في بلاده . هو غريب عن كل ما يحيط به و يتصرف على هذا الأساس .
في ديسمبر 1825 , ُقمعت في ساحة السينات في بطرسبرج الإنتفاضة التي تزعمها الثوريون الوطنيون الروس .
في ذلك اليوم تقوضت آمال جيل كامل من الشباب الأحرار ، و بهذا فقدوا إرادتهم و تخلفوا وسط مجتمع جبان مزرٍ ذليل خالٍ من الإهتمامات الحية .
.
إن بتشورين " بطل رواية بطل من هذا الزمان " و على مر السنين ، دفن في أعماق فؤاده أفضل مشاعره و أسماها و تعلم مواجهة الآلام بلا مبالاة . كان في البداية يشتاط غضباً لعجزه الشخصي ، و لكنه فيما بعد عوّد نفسه بالتدريج على عدم الإيمان بشي و عدم الأمل بشي . و هكذا تحول ، على حد تعبيره هو إلى كسيح أخلاقياً . و هذا الكسيح أخلاقياً هو الذي نعته ليرمنتوف ببطل زمانه !
.
و يتساءل القارىء : - ( أي بطل هذا ؟ أي سخرية مُرّة ! )
أما ليرمنتوف فقد أجاب على ذلك في مقدمة روايته ( إن " بطل من هذا الزمان " لهو صورة حقاً ،لكنه ليس صورة رجل واحد . إنه صورة تضم رذائل جيلنا كله .
لقد أدرك القارىء أن بتشورين ، بطل الجيل الذي ترعرع في عهد القيصر نيقولاي الأول ، غير مذنب في تصرفاته . فالشر كامن ليس فيه و لا في طباعه و خصاله ، بل في ظروف النظام القائم ، في الحكم القيصري المطلق .
لقد كشف ليرمنتوف عن " قصة روح " بتشورين باعتبارها ظاهرة العصر . فكتاب بطل من هذا الزمان هو رواية سيكولوجية و إجتماعية في آن واحد .
.
عمالقة الأدب الروسي ، أغلب أبطالهم من عامة الشعب و دوما ما كانوا يُظهرون فساد و تحلل الطبقة المسحوقة الروسية .
.
و الآن ، لماذا كل هذا ؟ و لماذا هذا الأسلوب ؟
.
و الجواب كالآتي :
أن الطبقة المخملية أفلست تماماً من أي صفة قيادية تُمكنها من الإستمرار ، هذا أمر مستحيل .
و لكن و في نفس الوقت ، لا تستطيع الطبقة البروليتارية " إن صح التعبير " أن تقود في الوقت الراهن و هي تماما كما يقول دوستويفسكي :
.
” يا أصدقائي ، لو أن وعينا القومي قد نشأ فعلاً، كما تؤكد الصحف في هذه الأيام، فإنه ما يزال على مقاعد المدرسة. على مقاعد مدرسة ألمانية. يقرأ كتاباً ألمانياً و يتلعثم في تعلم درسه الأبدي باللغة الألمانية أمام معلم ألماني يجعله يركع على ركبتيه عند الحاجة. و أنا من جهتي أؤيد هذا المعلم الألماني. و لكن الأرجح هو أن لا شيء قد حدث. و أن لا جديد. و أن كل شيء يسير كما كان من قبل. أي يسير بتيسير الله. و في رأيي أن هذا يكفي كل الكفاية روسيا.. بلادنا المقدسة روسياً !
.
و الحل أيضاً لا يكون إلا بقيادة جديدة تماماً كما يرى تولستوي ، و بقطع مليون رقبة كما يتأسف دوستويفسكي لأنها الطريقة الوحيدة للتغيير !
.
هذه الصورة ظهرت جلياً لاحقاً في الثورة البلشفية ، قيادة جديدة و انقلاب على النظام القائم بكل موروثاته !
.
لا ، لم يكونوا جبناء ، بل قاموا بدورهم على أكمل وجه ، و نقلوا الصورة بشكل جعلت كلماتهم عابرة للحدود فتخطت حدود روسيا !