الحرب العثمانية النمساوية الطويلة: (1593-1606م)

كانت بدايات هذه الحرب دلالةً على ضعف السلطان مراد الثالث! لقد قام والي البوسنة حسن باشا بعدَّة هجماتٍ على كرواتيا التابعة للنمسا في عامي 1591، و1592م، دون الرجوع للحكومة المركزيَّة في إسطنبول[1]. لم يكن رأي السلطان واضحًا وحاسمًا. كان كأنه ينتظر النتائج! نعم هدأت أحوال الدولة بعد انتهاء الحرب الطويلة ضدَّ الدولة الصفوية عام 1590م بمعاهدة إسطنبول؛ لكن لم يكن هناك داعٍ لفتح حربٍ جديدةٍ دون أهدافٍ واضحةٍ على جبهة النمسا. حقَّق حسن باشا عدَّة انتصارات محدودة، واستطاع السيطرة على مدن ريباك Ripač، وبيهاك Bihać.

في ربيع 1593م حاصر حسن باشا مدينة سيساك Sisak المهمَّة في وسط كرواتيا؛ لكنَّه تعرَّض في 22 يونيو لهزيمةٍ كبيرةٍ من الجيشين النمساوي والكرواتي، وقُتِل الوالي البوسنوي أثناء المعركة[2]. كانت هذه الهزيمة هي الشرارة التي أوقدت حربًا ستستمرُّ ثلاثة عشر عامًا؛ من 1593 إلى 1606م، وهي التي عُرِفَت بالحرب الطويلة Long War[3].

أعلنت الدولة العثمانية الحرب بشكلٍ صريحٍ على الإمبراطورية النمساوية في 4 يوليو 1593م[4]. كان السلام بشكلٍ عامٍّ هو طابع العلاقة بين الدولة العثمانية والنمسا خلال الخمس والعشرين سنةً الماضية؛ أي منذ عام 1568م، ولم يكن هذا السلام يمنع مناوشاتٍ يسيرةً على الحدود لا ترقى إلى أن تُسَمَّى حربًا حقيقيَّة، وكانت النمسا في كلِّ هذه السنوات تدفع الجزية بانتظامٍ إلى الدولة العثمانية؛ لذلك أرى أن إعلان الحرب الصريح على النمسا لم يكن حكيمًا من الحكومة العثمانية، خاصَّةً وأن العثمانيين هم الذين بدأوا المناوشات عام 1591م؛ لكن يبدو أن رجال الحرب كانوا يرغبون في النشاط العسكري بعد توقُّف الحرب على الجبهة الصفوية.

في 29 يوليو 1593م خرج الجيش العثماني للقتال في شمال غرب المجر. حدثت حروبٌ صغيرةٌ بين الجيشين العثماني والنمساوي في شتاء هذه السنة، وانتهت في أوائل يناير باستيلاء كلِّ طرفٍ على عددٍ من القلاع غير ذات أهمية، ثم هدأ الجيشان نتيجة البرد والثلوج[5]. في صيف 1594م استأنف الجيش العثماني نشاطه العسكري، واستطاع في سبتمبر بعد لأيٍ وحصارٍ طويلٍ أن يُسقِط قلعة چايور Győr شمال غرب المجر[6]، وهي على بُعد مائة كيلو متر فقط من ڤيينا.

في شتاء 1594م حدثت عدَّة تطوُّراتٍ أدَّت إلى تدهور الوضع العثماني فجأة؛ تعاون أمير الإفلاق مايكل المعروف بالشجاع Michael the Brave، تعاونًا سرّيًّا مع أمير البغدان آرون Aron بغية الانقلاب على الدولة العثمانية، ومِنْ ثَمَّ ذبح الشريكان في 13 نوفمبر الحاميتين العثمانيَّتين في الإفلاق والبغدان، وأعلنا العصيان المباشر[7]. انضمَّ إلى عصيانهما بعد قليل، في الشهر نفسه، أمير ترانسلڤانيا سيجيسموند باثوري Sigismund Báthory، وكوَّن الثلاثة تحالفًا مشتركًا[8]!

زاد الأمر صعوبةً عندما أعلن البابا كليمنت الثامن Clement VIII في التوقيت نفسه عن تكوين تحالفٍ صليبيٍّ يهدف إلى تحرير أوروبا كلِّها من العثمانيِّين. كانت الدعوة موجَّهةً إلى رودلف الثاني إمبراطور النمسا، وفيليب الثاني ملك إسبانيا، وسيجيسموند الثاني Sigismund II ملك السويد، بالإضافة إلى البندقية، فضلًا عن جنود الدولة البابوية[9]. لاحقًا سوف ينضمُّ تحالف أمراء الإفلاق، والبغدان، وترانسلڤانيا، إلى تحالف البابا. أكثر من هذا كان التحالف الصليبي المعلن يهدف إلى ضمِّ الأقطار النصرانية التابعة للدولة العثمانية في البلقان كصربيا، وألبانيا، كما كان يهدف إلى ضمِّ روسيا كذلك[10]! إنَّ تحالفًا بهذه الصورة، خاصَّةً مع انقلاب الإفلاق، والبغدان، وترانسلڤانيا، يمكن أن يُمثِّل خطورةً كبيرة! كانت الأخبار سيِّئة، وازدادت سوءًا بوصول الأنباء بقصف أمير الإفلاق لمدينة سيلسترا Silistra جنوب الدانوب في 6 يناير 1595م[11]، وكان الخبر الأخير مزعجًا جدًّا للسلطات العثمانية؛ لأن الدانوب يُعتبر استراتيجيًّا خطًّا أحمر لا يجوز تعدِّيه.
كان الموقف يتطلب تدخُّلًا حاسمًا وسريعًا من السلطان مراد الثالث؛ لكن الموت لم يُمهله! لقد مات السلطان بعد قصف سليسترا بعشرة أيامٍ فقط، في 16 يناير 1595م، لتكون هذه الأخبار السيِّئة هي آخر ما سمعته أذناه في هذا العالم[12].

[1] Moačanin, Nenad: Some Problems of Interpretation of Turkish Sources concerning the Battle of Sisak in 1593, In: Ante Nazor, et al.: Sisačka bitka 1593, Zagreb-Sisak, 1994., pp. 125-130.
[2] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م، 1895 صفحة 1/567.
[3] شوجر، بيتر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998 صفحة 218.
[4] Sicker, Martin: The Islamic World in Decline: From the Treaty of Karlowitz to the Disintegration of the Ottoman Empire, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2001 (A).p. 4.
[5] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/423.
[6] Tracy, James D.: Balkan Wars: Habsburg Croatia, Ottoman Bosnia, and Venetian Dalmatia, 1499-1617, Rowman & Littlefield, Lanham, MD, USA, 2016., p. 325.
[7] Xenopol, A. D.: Istoria Romînilor (Vol. 6, Epoca luĭ Mihai Viteazul: 1593–1633) (in Romanian), Iași, Editura Librărieĭ Frațiĭ Șaraga, 1896, vol. 6, pp. 22-28.
[8] Kohen, Elli: History of the Turkish Jews and Sephardim: Memories of a Past Golden Age, University Press of America, Lanham, Maryland, USA, 2007., p. 103.
[9] Wright, A.D.: The Early Modern Papacy: From the Council of Trent to the French Revolution 1564-1789, Routledge, New York, USA, 2013., p. 209.
[10] Setton, Kenneth Meyer: Venice, Austria and the Turks in the 17th Century, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1991, p. 9.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/426.
[12] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 567- 569.