اغتيال الصدر الأعظم محمد صوقللو باشا: (1579م)

في 11 أكتوبر 1579م طَعَن رجلٌ مجهولٌ الصدرَ الأعظم محمد صوقللو باشا طعنةً أودت بحياته[1]، لينهي مسيرةً طويلةً من العمل السياسي الجاد لصالح الدولة العثمانية، كان منها أربعة عشر عامًا في كرسي الصدارة العظمى؛ حيث كان الممثِّل الوحيد للدولة في معظم المعاملات الدبلوماسيَّة. فقدت الدولة باغتياله شخصيَّةً مؤثِّرةً كان لها الفضل في الحفاظ على الكيان العثماني الكبير في ظلِّ وجود سلاطين ضعاف، كسليم الثاني، أو مراد الثالث.

لم يطعن أحدٌ في حرصه على تحقيق المصلحة للدولة، على الأقل من وجهة نظره. كان الرجل عبقريًّا، على المستوى الإداري، والسياسي، والدبلوماسي، بالإضافة إلى كاريزما قياديَّة لافتة، جعلته مؤثِّرًا على جميع القيادات التي تحته، بما فيهم قيادات الجيش والإنكشارية. هذه القوَّة الواضحة خلقت له أعداءً بلا شك؛ سواءٌ في الداخل أم الخارج. هذه العداوات الكثيرة جعلت اغتياله مسألةً مبهمة. بعضهم يتَّهم السلطان مراد الثالث الذي لا يستطيع أن يتقدَّم على صدره الأعظم في القرارات، واكتفى في مواجهته بأن عزل بعض مقرَّبيه لتقليص قوَّته دون أن يقوى على عزله هو شخصيًّا، وبعضهم يتَّهم زوجة السلطان صفيَّة التي لا تستطيع أن تُمْلي أوامرها في ظلِّ وجود الصدر الأعظم القوي، وبعضهم يتَّهم الإنكشاريَّة الذين لا يستطيعون التحرُّك بأهوائهم في ظلِّ سيطرة الصدر الأعظم عليهم، وبعضهم يتَّهم قوًى خارجيَّة؛ سواءٌ كانت إيرانية، أم أوروبية. بصرف النظر عن القائم بعمليَّة الاغتيال فإن الخطوة كانت مؤثِّرةً سلبًا على الدولة بشكلٍ كبير.

حدث فراغٌ سياسيٌّ كبيرٌ لم يستطع أحدٌ أن يملأه. في غضون الستة عشر عامًا المتبقية في حكم مراد الثالث بعد اغتيال صوقللو باشا عُيِّن عشرة صدور عظام[2]! هذا يدلُّ بوضوح على أن أيًّا منهم لم يكن مقنعًا. -أيضًا- برز الفساد في أروقة الدولة بشكلٍ واضح، وصارت المراكز القياديَّة تُباع وتُشترى بشكلٍ سافر. هذا كان موجودًا في حدودٍ في العِقْد الأخير من عمر الدولة؛ لكنَّه زاد بشدَّة، وصار معلنًا كذلك. يُضاف إلى هذا جرأة الإنكشاريَّة في الاعتراض والتمرُّد[3]، وسيصل الأمر إلى قتلهم لبعض الوزراء عند عدم تحقُّق مطالبهم. هذه تغيُّراتٌ محوريَّةٌ في مسار الدولة.

تزامنت هذه الأحداث قدرًا مع اكتشاف إسبانيا لجبالٍ من الفضة في أميركا اللاتينيَّة، وخاصَّةً في بيرو، والمكسيك؛ ومِنْ ثَمَّ دخلت كميَّاتٌ كبيرةٌ من الفضة إلى أوروبا، لتسدَّ العجز الذي عانى منه الاقتصاد الأوروبي عدَّة عقود. كان هذا السيل من الفضة في صالح إسبانيا وحلفائها، وكان وبالًا على الدولة العثمانية، التي عانت من تضخُّمٍ كبيرٍ أثَّر على قيمة عملتها، وأدَّى إلى أزمةٍ ماليَّةٍ كبيرة[4]، وزيادةٍ في أسعار السلع وصلت إلى ستَّة أضعاف[5]، وتناقصٍ في الأجور؛ ومِنْ ثَمَّ تمرُّدات وثورات، خاصَّةً من الإنكشاريَّة الأقوياء. هكذا بدأت تظهر على السطح مشاكل كانت موجودةً بدرجةٍ نسبيَّة؛ لكنَّها انكشفت بجلاءٍ بعد اغتيال الصدر الأعظم الكبير محمد صوقللو باشا، ولا شَكَّ أن هذا كلَّه سيكون له أثرٌ على المرحلة القادمة. يمكن اعتبار قتل هذا الوزير القدير نقطة تحوُّلٍ في تاريخ الدولة العثمانية[6].

[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/406.
[2] Freely, John: Inside the Seraglio: Private Lives of the Sultans in Istanbul, Viking, New York, USA, 1999., p. 80.
[3] Sariyannis, Marinos: A History of Ottoman Political Thought Up to the Early Nineteenth Century, Brill, Leiden, Netherlands, 2019, p. 175.
[4] Parry, V. J.: The Period of Murad IV, 1617–1648, In: Cook, M.A.: A History of the Ottoman Empire to 1730, Cambridge University Press, New York, USA, 1976 (B).p. 126.
[5] Moes, 2017, vol. 2, p. 35.
[6] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 562، 563.