تبعية المغرب الكبير: (1576م)

في الوقت الذي كان تحدث فيه هذه الاضطرابات السياسيَّة في إيران شرق الدولة العثمانية كانت اضطراباتٌ سياسيَّةٌ أخرى على المستوى نفسه تحدث في بلاد المغرب الكبير غرب الدولة العثمانية، وبلاد المغرب آنذاك كانت تضمُّ أقطار المغرب، وموريتانيا، والسنغال، ومناطق أخرى إلى الجنوب من ذلك؛ فهي تحكم أكثر من ثلاثة ملايين كيلو متر مربع، وكانت تحت حكم الأسرة السعدية منذ عام 1554م، وهي من نسل الرسول ﷺ (فرع الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه)[1].

في 21 يناير عام 1574م مات أبو محمد عبد الله الغالب بالله سلطان المغرب[2]، وقامت إثر موته فتنةٌ داخليَّةٌ للتصارع على الحكم. قام محمد الثالث ابن السلطان الراحل بعملٍ مشين؛ إذ طلب المساعدة والنجدة للتثبيت في حكمه من البرتغال وإسبانيا[3]، مع علمه بأطماع الدولتين في المغرب؛ بل كانت البرتغال تحتلُّ بالفعل مدينة سبتة منذ عام 1415م، ومدينة طنجة منذ عام 1471م[4].

في المقابل توجَّه الأمير عبد الملك -أخو السلطان الراحل- إلى الدولة العثمانية بغية الحصول على دعمها، على أن يكون تابعًا لها بعد وصوله للحكم. بعد مقابلة السلطان مراد الثالث وافقت الدولة العثمانية على دعمه[5]؛ إذ سيُوفِّر لها هذا الدعم تقليصًا لإمكانات العدوَّين الشرسين البرتغال وإسبانيا، وسيُؤمِّن الحدود الغربيَّة للدولة، كما أنه سيُضيف إمكانات المغرب الكبير للدولة العثمانية، وهي في الواقع إمكاناتٌ كبيرة.

أرسلت الدولة العثمانية فرقةً عسكريَّةً من الجزائر لدعم عبد الملك في الوصول للحكم، وانضمَّ إلى هذه الفرقة الأندلسيُّون الذين يعيشون في المغرب، ويكرهون الإسبان والبرتغاليِّين بشدَّة، وفي التاسع من مارس 1576م دخلت هذه القوَّات المشتركة مدينة العرش فاس، لتضع السلطان عبد الملك على عرش المغرب تابعًا للعثمانيين[6]، وهذا أضاف إلى مساحة الدولة العثمانية ثلاثة ملايين كيلو متر مربع.

ومع ذلك فينبغي الإشارة إلى أن هذه التبعيَّة لم تكن كتبعيَّة الأقطار العثمانية الأخرى كمصر، أو ليبيا، أو الأفلاق، أو البغدان؛ إنما كانت تبعيَّةً خاصَّة، يتمتَّع فيها السلطان المغربي بكامل حريَّته في قراراته وإدارته لبلده، غير أنه يدين بالولاء والصداقة للدولة العثمانية، فيُعادي أعداءها، ولا يتعدَّى على حدودها، ويُعاون جيشها فيما يحتاج إليه من مناوراتٍ قريبة. هذه الصورة من التبعيَّة لا تجعل إضافة مساحة المغرب إلى مساحة الدولة العثمانية أمرًا سليمًا تمامًا؛ ولكن على العموم كانت هذه التبعيَّة النسبيَّة (أو المعنويَّة) في صالح العثمانيين دون شك، خاصَّةً إذا ما علمنا أن المرحلة التاريخيَّة التي سبقت هذه الأحداث شهدت بعض التحرُّشات بين المغرب التابع للسعديِّين، والجزائر التابعة للعثمانيِّين[7]، فكان تحوُّل المغرب من العداء إلى الصداقة أمرًا نافعًا للطرفين.

لم يقبل الملك المخلوع محمد الثالث هذا الوضع، وسافر إلى البرتغال ليطلب الدعم بشكلٍ أكبر من ملكها سبستيان الأول Sebastian I[8]، وسيكون لهذا أثرٌ كبيرٌ في المرحلة القريبة.

التحالف مع اتحاد بولندا وليتوانيا: (1575م)

في منتصف عام 1574م مات شارل التاسع ملك فرنسا، وصار المرشَّح للحكم أخاه هنري، الذي كان قد انتخب ملكًا على اتحاد بولندا وليتوانيا في عام 1573م بدعمٍ من فرنسا والدولة العثمانية[9]. اضطُرَّ هنري إلى ترك بولندا ليتولى عرش بلاده الأم تحت اسم هنري الثالث Henry III، وبذلك صار عرش بولندا شاغرًا. دعمت الدولة العثمانية حليفها استيفين باثوري Stephen Báthory أمير ترانسلڤانيا في ترشُّحه لحكم اتحاد بولندا وليتوانيا، فتولى الحكم فيها فعلًا في عام 1575م[10]، متقدِّمًا على منافسيه من فرنسا والنمسا. أدَّى هذا إلى فتورٍ نسبيٍّ في العلاقة بين الدولة العثمانية وفرنسا؛ لكنَّه كان فتورًا مؤقَّتًا -كما سيتبيَّن- وفي الوقت نفسه زادت قوَّة الموقف العثماني في وجه الإمبراطورية النمساوية.

صارت مملكة بولندا وليتوانيا «كأنها» تابعٌ للدولة العثمانية، وهذا ما يُصوِّره بعض المؤرخين؛ بل يُضيفون مساحة بولندا وليتوانيا في هذه المرحلة إلى مساحة الدولة العثمانية[11]، والواقع أن هذا ليس صحيحًا؛ فالمملكة كانت مستقلَّةً تمامًا، ولا ترجع إليها في قراراتها. غاية ما هنالك أنها صارت دولةً صديقةً تُحقِّق منافع بصداقتها للعثمانيين، وتدفع أحيانًا ضريبةً إلى الدولة العثمانية نظير مساعداتٍ عسكريَّةٍ فعليَّةٍ أو متوقَّعة، تمامًا كعلاقة الدولة العثمانية بفرنسا، وهي في الواقع صداقةٌ مفيدةٌ للغاية؛ ليس فقط في وجه النمسا، العدوِّ اللدود للدولة العثمانية؛ ولكن في وجه روسيا كذلك، وهو عدوُّ المستقبل للعثمانيين، ولقد حارب ستيفن باثوري ضدَّ الروس حربًا طويلةً كُلِّلت بالنجاح، فأوقف المدَّ الروسي فترة[12]، وكان هذا بلا شَكٍّ في صالح الدولة العثمانية.

الهدنة مع النمسا: (1576م)

كانت الإمبراطورية النمساوية في حالة هدنةٍ مع الدولة العثمانية منذ زمن سليم الثاني[13]، وفي 22 نوفمبر 1575م جدَّد الطرفان العثماني والنمساوي هذه الهدنة؛ ومع هذا لم تتوقَّف المناوشات العسكريَّة الطفيفة بين الطرفين، وخاصَّةً على الحدود البوسنويَّة (التابعة للعثمانية) والكرواتية (التابعة للنمسا)[14]. مات الإمبراطور النمساوي ماكسيميليان الثاني فجأةً في 12 أكتوبر 1576م عن عمرٍ يُناهز التاسعة والأربعين، وخلفه ابنه الإمبراطور رودلف الثاني Rudolf II، وهذا أدَّى إلى تجدُّد الاشتباكات العسكريَّة المحدودة في أرض كرواتيا. جُدِّدت الهدنة بين الدولة العثمانية والنمسا في 25 ديسمبر من عام 1576م، على أن تستمرَّ الهدنة ثماني سنوات[15]؛ ومع ذلك حدثت في عام 1577م مناوشاتٌ بين الطرفين انتهت باستيلاء العثمانيين في 13 يناير 1578م على قلعةٍ مهمَّةٍ في جنوب كرواتيا هي قلعة جوزدانسكو[16] Gvozdansko. كانت هذه المعركة هي الأخيرة بين الطرفين إلى عام 1584م، ونعمت هذه الحدود بالهدوء؛ وذلك لانشغال الدولة العثمانية بالجبهة الإيرانية في المرحلة المقبلة.

تبعيَّة إمبراطورية بورنو-كانم للدولة العثمانية: (1577م)

تقع إمبراطوريَّة بورنو Bornu في وسط إفريقيا، وهي إمبراطوريَّةٌ مسلمةٌ على المذهب المالكي نشأت على أنقاض إمبراطوريَّة كانم Kanem المسلمة كذلك. تضمُّ هذه الإمبراطوريَّة الكبيرة عدَّة أقطارٍ من عالمنا المعاصر؛ منها تشاد، والنيچر Niger، وشمال شرق نيچيريا Nigeria، وشمال الكاميرون، وغرب السودان، وجنوب ليبيا، وهي مساحاتٌ تتجاوز الثلاثة ملايين كيلو متر مربع. نشأت إمبراطوريَّة بورنو عام 1380م تقريبًا، وبلغت أعظم اتِّساعٍ لها في عهد سلطانها إدريس آلوما Idris Alooma، الذي حكم من عام 1564 إلى عام 1596[17]م. في عام 1577م عرض السلطان إدريس على الدولة العثمانية الدخول في تبعيَّتها[18]، وقبلت الدولة العثمانية ذلك، وقدَّمت الدعم العسكري لإمبراطوريَّة بورنو، وأمدَّتها للمرَّة الأولى في تاريخها بالأسلحة الناريَّة[19]. غنيٌّ عن البيان أن هذه التبعيَّة كانت كتبعيَّة المغرب؛ أي أن استقلال بورنو لم يُمَس، ولم تكن تدفع ضرائب إلى الدولة العثمانية[20]؛ ولكن هذه التبعيَّة أعطت أمانًا لحدود الدولة العثمانية الجنوبية في ليبيا، كما أعطت زيادةً «معنويَّة» لمساحة الدولة العثمانية إذا أضفنا الثلاثة ملايين من الكيلومترات التي يحكمها سلطان بورنو. كانت هذه التبعيَّة مؤقَّتة، ولم تستمر في الواقع إلا قليلًا. إنها كانت تُعبِّر عن انبهار العالم الإسلامي بقوَّة الدولة العثمانية في هذه المرحلة، والسعادة بالانضمام إليها، وكان الجميع، خاصَّةً هذه القوى البعيدة عن الأساليب المدنيَّة الحديثة في الحرب والسياسة، ينظرون إلى الدولة العثمانية على أنها راعٍ لشئون المسلمين. لن يلبث هؤلاء الراغبون في الالتحاق بركب الدولة العثمانية أن يكتشفوا أن العصر الذهبي للدولة بدأ في الانحسار؛ ومِنْ ثَمَّ سيُعيدون حساباتهم، ويهتمُّون باستقلالهم، وهذا يشمل إمبراطوريَّة بورنو، وكذلك المغرب!

بدء العلاقات الدبلوماسية مع إنجلترا: (1579م)

شهد عصر مراد الثالث بدء العلاقات الدبلوماسيَّة مع إنجلترا. تُعتبر هذه لحظةً تاريخيَّةً مهمَّة؛ لأن العلاقات ستكون متداخلةً بشدَّةٍ بعد ذلك بين الدولتين، ما بين صداقةٍ حميمة، وعداءٍ شديد! كانت البداية بخطاباتٍ إنجليزيَّةٍ من الملكة إليزابيث الأولى Elizabeth I تطلب فيها وُدَّ الدولة العثمانية، وتُحاول إقناع السلطان مراد الثالث بجدوى التحالف بين الدولتين. كانت البدايات عجيبة؛ إذ كان محور الكلام بين السلطان مراد والملكة الإنجليزية يدور حول التشابه بين الإسلام والبروتستانتيَّة؛ من حيث إن كليهما لا يُقدِّس الصور والرموز، وكليها لا يجعل وساطةً بين الربِّ والعبد، وكليهما يفرض على أتباعه قراءة الكتاب المقدَّس بأنفسهم، والعمل به؛ سواءٌ كان القرآن عند المسلمين، أم الإنجيل عند البروتستانت[21].

لم تكن هذه الخطابات دعويَّةً من أحد الطرفين بطبيعة الحال، ولم يكن أحدهما يرمي إلى تحويل الآخر لدينه؛ ولكنَّها كانت سياسيَّةً في الأساس، فموقف الملكة إليزابيث كان ضعيفًا في أوروبا بعد اعتناق بلادها لمذهب البروتستانت، وكانت في حروبٍ مستمرَّةٍ على المستويين السياسي والعسكري مع الدول الكاثوليكيَّة في أوروبا، وأخطرها إسبانيا، وفرنسا، بالإضافة إلى البابا وأتباعه من الإمارات الإيطالية. هذا دفع الملكة إلى البحث عن حليفٍ قوي، فكان هذا الحليف هو الدولة العثمانية على الرغم من كونها دولةً مسلمة.

أمَّا الدولة العثمانية فكانت تبحث عن حليفٍ أوروبيٍّ يُفتِّت الوحدة النصرانية، خاصَّةً إذا ما كان عدوًّا للإسبان. هكذا تلاقت المصالح، وهو ما يُعْرَف بالسياسة! وافق السلطان مراد الثالث على إقامة علاقاتٍ دبلوماسيَّة، وتجاريَّة؛ بل عسكريَّة، مع إنجلترا. كان هذا دليلًا على ثِقَل الدولة العثمانية في الميزان الأوروبي. صدَّرت إنجلترا القصدير والرصاص إلى الدولة العثمانية، وهما مهمَّان جدًّا في صناعة المدافع والذخيرة، وفي المقابل وافقت الدولة العثمانية على دخول السفن الإنجليزية الموانئ العثمانية تحت عَلَمِها الإنجليزي[22]، وكان قبل ذلك لا يُسمح للسفن الأوروبية بدخول المياه الإقليمية العثمانية إلا تحت العلم الفرنسي، وحيث إن العلاقات العثمانية الفرنسية كانت متوتِّرةً منذ دعم الدولة العثمانية لباثوري في الوصول لعرش بولندا على حساب مرشَّح فرنسا، فإن هذه الخطوة كانت موجعةً لفرنسا، خاصَّةً أنها على عداءٍ كبيرٍ مع الإنجليز. كانت هذه هي البداية، وسوف تُشجِّع هذه البداية إنجلترا على البحث مستقبلًا عن آليَّات التعاون العسكري المشترك ضدَّ إسبانيا. هذا التواصل العثماني الإنجليزي أزعج فرنسا، فراجعت حساباتها، وأعادت في عام 1581م التواصل مع الدولة العثمانية مؤكِّدةً على رغبتها في استمرار الحصول على الامتيازات التجاريَّة، وعلى تقدُّمها في الصداقة مع العثمانيِّين على كافَّة الأوروبيين[23].

تطوُّراتٌ مهمَّةٌ على الساحة الأوروبية: (1580-1598م)

لا تقف الدولة العثمانية بمعزلٍ عن الأحداث العالميَّة، خاصَّةً ما كان منها في أوروبا، ويشمل ذلك الأحداث التي لا تكون الدولة طرفًا مباشرًا فيها؛ لأن هذه الأحداث تعني قوَّةَ عدوٍّ أو ضعفه، وتبدُّلَ علاقاتٍ دبلوماسيَّةٍ أو أحلاف، وكلُّ هذا يعود بالأثر على السياسة العثمانية، خاصَّةً مع اتِّساع مساحتها، وتعدُّد علاقاتها؛ لذلك وجب إلقاء الضوء بإيجازٍ على التطوُّرات الحادثة في هذه الفترة، خاصَّةً أننا في مرحلةٍ انتقاليَّة، وسيكون لكلِّ حدثٍ وزنه المهم.

كانت إسبانيا في القرن السادس عشر هي أقوى الدول الأوروبية قاطبة، وازدادت قوَّةً في أواخر القرن نتيجة أمرين أشرنا إليهما؛ احتلال البرتغال عام 1580م بعد هزيمة البرتغاليين من المغاربة والعثمانيين في وادي المخازن، والاستيلاء على مناجم الفضة في أميركا اللاتينية.

كانت هناك عدَّة قوى أوروبية -فضلًا عن الدولة العثمانية- تُنافس إسبانيا على الصدارة. أهمُّ هذه القوى إنجلترا، وفرنسا، بالإضافة إلى البروتستانت الذين يعيشون في أملاك الإمبراطورية الإسبانية الواسعة، وخاصَّةً في الأراضي المنخفضة (هولندا وبلچيكا الآن). مع انشغال فرنسا في حروبها الداخليَّة بين الكاثوليك الحكَّام، والبروتستانت المعارضين، برزت إنجلترا كأكبر قوَّةٍ غربيَّةٍ منافسةٍ لإسبانيا. دعمت إنجلترا ثورة البروتستانت في الأراضي المنخفضة بدايةً من عام 1579م.
انتهى الأمر بانقسام الأراضي المنخفضة إلى قسمين؛ قسم شمالي بروتستانتي أعلن بمساعدة إنجلترا عن استقلاله عن إسبانيا؛ ومِنْ ثَمَّ تكوَّنت دولة هولندا عام 1581م، وقسم جنوبي كاثوليكي ظلَّ تابعًا لإسبانيا[24]، وسيكون مستقبلًا نواةً لتكوين دولة بلچيكا عام 1830م[25]. كانت هذه ضربةً كبيرةً لإسبانيا؛ حيث كانت التجارة الهولنديَّة تُمثِّل جانبًا كبيرًا من الاقتصاد الإسباني.

وُلِدَت هولندا عملاقة! في غضون سنواتٍ قليلةٍ جدًّا تكوَّن أسطول هولندي تجاري عسكري على أعلى مستوى. بدأت العمليَّات البحريَّة لهذا الأسطول في المحيط الهندي وإندونيسيا في عام 1595م[26]. في أوائل القرن السابع عشر، وبعد أقلَّ من عشرين سنةً من تأسيس الدولة، صارت هولندا هي صاحبة أقوى أسطولٍ في العالم، وصارت من الدول الاستعماريَّة الكبرى، وسيظلُّ هذا الوضع معظم القرن السابع عشر، وهو ما أطلق عليه المؤرِّخ الأميركي الهولندي كينراد سوارت Koenraad Swart «المعجزة الهولنديَّة»[27]!

أثَّر الموقف على إسبانيا بشدَّة، إلى درجة التصعيد المستمر ضدَّ إنجلترا، والتفكير في غزو بلاد الإنجليز ذاتها، وطرد الملكة إليزابيث الأولى من لندن! بدأت الحرب فعلًا بين إسبانيا وإنجلترا في عام 1585م، وتطوَّر الأمر إلى معركةٍ عسكريَّةٍ بحريَّةٍ كبرى بين الأسطولين الإسباني والإنجليزي في القنال الإنجليزي عام 1588م. انتهت المعركة بهزيمةٍ كبيرةٍ للإسبان[28]. كان هذا الحدث هو أحد الأسباب في بدء اضمحلال القوَّة الإسبانيَّة نسبيًّا. زاد الأمر عام 1598م بوفاة الملك المخضرم فيليب الثاني، فشهدت إسبانيا اضمحلالًا جديدًا[29]. كانت هذه الأحداث -أيضًا- إيذانًا بظهور إنجلترا كقوَّةٍ أوروبِّيَّةٍ وعالميَّةٍ كبرى.

تعرَّضت روسيا في أواخر القرن السادس عشر إلى ضربةٍ كبيرةٍ بوفاة قيصرها القوي إيڤان الرابع عام 1584م[30]، لتدخُّل الإمبراطورية الروسية في مرحلة اضطراباتٍ أخرجتها نسبيًّا من التأثير على سياسة العالم.

كان هذا هو الوضع في أخريات القرن السادس عشر، وكان لهذه التغييرات في موازين القوى آثارٌ مباشرةٌ على الدولة العثمانية، وهي آثارٌ في المجمل إيجابيَّة؛ إذ إنها قلَّصت من قوَّة المنافس التقليدي إسبانيا، وصبَّت في قوَّة الصديق الجديد إنجلترا، وإن كان ظهور هولندا المفاجئ سيُؤثِّر سلبًا على التجارة العثمانية، كما سيحرم الدولة العثمانية من علاقاتها مع مسلمي جنوب شرق آسيا، الذين سيقعون تحت الاحتلال الهولندي[31].

[1] Abi-Mershed, Osama & Farrar, Adam: A History of the Conflict in Western Sahara, In: Boukhars, Anouar & Roussellier, Jacques: Perspectives on Western Sahara: Myths, Nationalisms, and Geopolitics, Rowman & Littlefield, Lanham, Maryland, USA, 2014., p. 7.
[2] Cook, Weston F.: The Hundred Years War for Morocco: Gunpowder and the Military Revolution in the Early Modern Muslim World, Avalon Publishing, New York, USA, 1994 ., p. 242.
[3] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/385.
[4] حركات، إبراهيم: السياسة والمجتمع في العصر السعدي، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء-المغرب، 1987م، 1987 صفحة 149.
[5] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م، 1895 صفحة 1/574.
[6] أوزتونا، 1988 صفحة 1/385.
[7] Abun-Nasr, Jamil M.: A History of the Maghrib in the Islamic period, Cambridge University Press, New York, USA, 1987., p. 213.
[8] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 534.
[9] Davies, Brian L.: Warfare, State and Society on the Black Sea Steppe, 1500–1700, Routledge, London, UK, 2007., pp. 25-26.
[10] Kolodziejczyk, Dariusz: The Crimean Khanate and Poland-Lithuania: International Diplomacy on the European Periphery (15th-18th Century): A Study of Peace Treaties Followed by Annotated Documents, Brill, Leiden, Netherlands, 2011., p. 102.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/396.
[12] Besala, Jerzy & Biedrzycka, Agnieszka: Stefan Batory (in Polish), Polski Słownik Biograficzny, 2004., pp. 120-121.
[13] جرامون، ﭼان – لوي باكي: أوج الامبراطورية العثمانية: الأحداث (1512-1606)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م، صفحة 1/231.
[14] Klaić, Vjekoslav: Povijest Hrvata od najstarijih vremena do svršetka XIX. stoljeća (History of Croats from the Earliest times to End of 19th Century) (in Croatian), Nakladni zavod Matice hrvatske, Zagreb, ‏Croatia, 1973., p. 396.
[15] Mažuran, Ive: Povijest Hrvatske od 15. stoljeća do 18. stoljeća (History of Croatia from the 15th to the 18th century) (in Croatian), Golden marketing, Zagreb, Croatia, 1998., p. 128.
[16] Klaić, 1973, p. 414.
[17] باركيندو، 1997 الصفحات 5/549، 552.
[18] Flynn, Sébastien: The Relationship between the Ottoman Empire and Kanem-Bornu During the reign of Sultan Murad III, A Master’s Thesis, Department of History, İhsan Doğramacı Bilkent University, Ankara, Turky, 2015., p. 3.
[19] أوزتونا، 1988 صفحة 1/392.
[20] باركيندو، ب. م.: كانم – بورنو: علاقاتها بالبحر الأبيض المتوسط وبجيرمي وسائر دول حوض التشاد، ضمن كتاب: أوغوث، ب. أ.: تاريخ أفريقيا العام (أفريقيا من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر)، اللجنة العلمية الدولية لتحرير تاريخ أفريقيا العام (اليونسكو)، 1997 الصفحات 5/558-560.
[21] Kupperman, Karen Ordahl: The Jamestown Project, Harvard University Press, Massachusetts, USA, 2007., p. 40.
[22] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م، 1895 صفحة 1/564.
[23] Testa, T. D.: Recueil des traités de la Porte ottomane avec les puissance étrangères: depuis le premier traité conclu, en 1536, entre Suléyman I et François I jusqu'à nos jours (in French), Amyot, Paris, France, 1864, vol. 1, pp. 137-140.
[24] Green, Daniel M.: Democratization: The World-Wide Spread of Democracy in The Modern Age, In: Modelski, George & Denemark, Robert A.: World System History, Encyclopedia of Life Support Systems (EOLSS), EOLSS Publishers Co. Ltd/ UNESCO, Oxford, UK, 2009., vol. 1, p. 256.
[25] Deschouwer, Kris: The Politics of Belgium: Governing A Divided Society, Red Globe Press, London, UK, 2012., p. 18.
[26] Masselman, George: The Cradle of Colonialism, Yale University Press, New Haven, Connecticut, USA, 1963., pp. 92-96.
[27] Swart, Koenraad Wolter: Sale of Offices in the Seventeenth Century, Springer, 1949..
[28] Vego, Milan N.: Naval Strategy and Operations in Narrow Seas, Frank Cass Publishers, New York, USA, 2013, p. 148.
[29] برون، جفري: تاريخ أوروبا الحديث، ترجمة: علي المزروقي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان–الأردن، 2006 صفحة 207.
[30] ديورانت، 1988 صفحة 26/13.
[31] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 550- 566.