قصور العثمانيين
هذا البحث لا يعالج الحياة الاجتماعية في قصور سلاطين بني عثمان، ولا أخبار سيدات الحرم وعلاقاتهن بعض مع بعض أو مع الخصيان، بل دراسة الأشخاص الذين كانوا يقاسمون السلطان العيش في قصوره، ووضعهم في مراتبهم والتطرق إلى أعمالهم وواجباتهم ووظائفهم باعتبار أنهم يشكلون العنصر الأساسي من عناصر الأجهزة الحاكمة العثمانية.
القصر كان يموّل الدولة بالرجال
فالقصر كان المنبع الهام الذي يمول الدولة بالموظفين الكبار ورجال الجيش، كما كان المدرسة التي تعلـّم سكان السلطنة في مختلف أقطارهم وأمصارهم آداب السلوك والمعاشرة وأصول التخاطب والتعامل، وذلك عن طريق رُسُله إلى هذه الأقطار والأمصار الذين رُبّوا بين جدرانه وصقلتهم الحياة فيه.
لقد سيطر على الحياة في القصر السلطاني عاملان وجّها سير الحياة فيه وطبعاه بطابع خاص ميّزه عن غيره من القصور الملكية المعاصرة. هذان العاملان هما: وجود الحريم ومراعاة التقاليد الفارسية القديمة في أصول السلوك السلطاني.
الحريـــــــــم
أما وجود الحريم فمصدره أن عادة حجاب المرأة عادة شرقية قديمة لها تاريخها العريق في بعض حضارات الشرق الأوسط القديمة... ومع مرور الأيام وتطور المؤسسات الاجتماعية انقلب الحجاب عند العثمانيين إلى عزلة تامة للمرأة وسجن كامل لها، يمنع أي اتصال بينها وبين العالم الخارجي.
فالحريم إذاً كان الأداة العثمانية لتطبيق فكرة الحجاب، وكلمة (حريم) كما هو معروف، ذات صلة وثيقة من الناحية اللغوية بفكرة (التحريم)، وقد أدى (تحريم) الاختلاط إلى نشأة (الحريم) كمؤسسة اجتماعية لها حدودها وقوانينها ومفهومها من الناحية التطبيقية.
وهكذا أفرد السلاطين جزءاً من قصرهم وجعلوه حريماً. أما بقية أجزاء القصر فكانت تتألف من قسمين أساسيين: قسم يمكننا أن نعتبره بمثابة مسكن خاص للسلطان لا يدخله إلا هو وخاصة خدمه، وقسم آخر للاستقبال وإقامة الاحتفالات وعقد الإجتماعات، وهو مفتوح لرجال الدولة وأعيان الرعية والوفود الأجنبية وما شابه ذلك.
ولا يدخل المسكن الخاص ودار الحريم إلا السلطان وخصيانه وقهرماناته. ويصل بين هذين الجزئين من القصر جزء وسط يعرف باسم الـ (ما بين)، ويتكون من عدة غرف يتهيأ فيها السلطان لدخول الحريم، كأن يرتدي ثياب الراحة أو يقص شعره أو يستكمل زينته ليدخل على حريمه.
وكما كانت أبنية القصر، أو (السراي) مقسمة إلى عدة أقسام فقد كان ساكنوها أيضاً أصنافاً وأنواعاً، وأهم هذه الأصناف:
ساكنات الحريم
الحريم هو الجزء من القصر السلطاني الذي تسكنه نساء السلطان ومحظياته وأطفالهن الصغار وبعض الخصيان الذين يقومون بخدمتهن. وقد كانت عادة السلاطين الأوَل ألا يتزوجوا إلا أميرات مسلمات أو نصرانيات، وألا يجمعوا تحت عصمتهم إلا الحليلات الأربع اللواتي أباحهن الشرع للرجل المسلم. وكان آخر من سار على هذا النهج السلطان محمد الفاتح.
أما من جاء بعده من السلاطين فقد هجروا عادة الزواج واكتفوا بالسُّريّات لا يتخذون منهن أكثر من أربع في أول الأمر، ويعاملوهن معاملة الزوجات رغم عدم وجود عقد زواج يربطهم بهن.
القادنات
وكان لقب السُّريّة (القادن)، وتعتبر (القادنات) أرفع سكان الحريم من النساء منزلة. فقد كان لكل منهن جناحها الخاص وخدمها الخاصون، ولا ترى القادنات الأخريات إلا في المناسبات والاحتفالات الرسمية.
وأرفع القادنات مقاماً أقدمهن في صحبة السلطان، ويليها في المرتبة من ينضم بعدها إلى الصحبة السنية. ويترتب على قِدمها وعلو مقامها ازدياد مخصصاتها المالية على مخصصات زميلاتها المتأخرات عنها.
والقادن التي تنجب الأولاد أعلى مقاماً من التي لا تنجب، وإذا أنجبت صبياً فقد ضمنت لنفسها الحظوة التامة عند مولاها وأصبح إسمها (خاصة كي سلطان) أي (المفضلة عند السلطان) وأخذ الناس ينادونها بالسلطانة، وهو لقب مخصص لبنات السلطان فقط. أما القادنات اللواتي ينجبن البنات فيصبح إسمهن (خاصة كي قادن) وهن دون الـ (خاصة كي سلطان). ولعل أروع ما تحلم به القادن هو أن يصبح أحد أولادها سلطاناً، فتحمل حينئذ لقب (والدة السلطان)، وتتمتع بأرفع مركز نسائي في الدولة، ويصبح من حقها أن تتوجه بالخطاب إلى الوزير الأعظم مباشرة دون ما حاجة لوسيط.
والجواري، وهن طبقات
ويلي القادنات في المرتبة أربع طبقات من الجواري، أعلاها الطبقة المسامة باسم الـ (غديكليس) التي تنتخب القادنات من بين أفرادها، كما أن بعض جواري هذه الطبقة يصبحن وصيفات شرف للسلطان ويتولين خدمته أو يتسلمن وظيفة خازن دار الحريم.
ويلي هذه الطبقة طبقة ثانية، مهمة ُ أفرادها خدمة والدة السلطان والقادنات وأولادهن. أما الطبقة الثالثة من الجواري فهي طبقة الجواري المتمرنات اللواتي ألحقن بالحريم مجدداً، ويجري تدريبهن على القراءة والكتابة والخياطة والتطريز والموسيقى والغناء والرقص حتى يستطعن الالتحاق بالطبقات الأعلى حين تدعو الحاجة ويتوفر الشاغر.
أما الطبقة الرابعة فهي طبقة جواري الخدمة ولا تستطيع الواحدة منهن أن ترتفع من طبقتها هذه، بعكس زميلاتها في الطبقات الأعلى.
أغلبهن أوروبيات
كانت نساء الحريم من الجواري الأجنبيات، وكن في غالبيتهن من الأوروبيات اللواتي أسرن في الحروب التي خاضتها الجيوش العثمانية ضد الدول الأوروبية.
وقد اشتهر من هؤلاء الجواري الأوربيات الأصل: خرم سلطانه سرية السلطان سليمان القانوني التي عرفها الأوربيون باسم روكسلانا، والتي كانت من أصل روسي. ثم والدة السلطان محمد الثالث التي كانت من سبايا البندقية، ووالدة مراد الرابع وابراهيم التي كانت سبيّة يونانية.
جواري القوقاز
ومنذ نهاية القرن السادس عشر اتجهت تجارة الجواري إلى القوقاز (القفقاس) وأخذت أعداد كبيرة من الجواري القوقازيات تتدفق على العاصمة العثمانية ومنها إلى القصر السلطاني.
وقد أعجب السلاطين بالقوقازيات كثيرا وذلك لجمالهن وذكائهن وبراعتهن في فنون الخدمة، وكن يُلحقن بالحريم وهن صغيرات لا يزيد عمر الواحدة منهن عن العاشرة أو الحادية عشرة، فيدرّبن ويربيّن حتى يصبحهن أهلا لخدمة السلطان أو صحبته. وكثيراً ما كان رجال الدولة يهدون السلطان جواري أكبر سنا، وذلك بعد تدريبهن وتثقيفهن وصقل مواهبهن، فيتقبل السلطان الهدية وينعم على صاحبها إذا صادفت من نفسه قبولاً.
السلاطين تعتق الجواري
وكثيراً ما كان السلاطين يُنعمون على جواريهم بالعتق، فتصبح الواحدة منهن حرة تستطيع الزواج من أي شخص تريد وتترك الحريم.
وإذا توفي السلطان كان من حق قادناته اللواتي لم ينجبن أولاداً أن يتمتعن بحريتهن وأن يتزوجن من يرغبن من الرجال. وكان كبار رجال الدولة يحبذون الزواج من قادنات السلطان المتوفي لما لهن من نفوذ في الدولة ولما لاتصالاتهن ومداخلاتهن من أهمية في تثبيت مراكز الزوج أو رفع شأنه.
نفوذ نساء الحريم
وتتناسب أهمية القادن ونفوذها مع ضعف شخصية السلطان واستعداده للتأثر بآراء من حوله من نساء وخدم. وقد وصل نفوذ نساء الحريم أوجَه زمن السلطان ابراهيم، فقد استطاعت إحدى جواريه، لشدة ما لها من تأثير عليه، أن تنال حكم مقاطعة من المقاطعات، وأن تنيب عنها في إدارتها شخصاً غيرها، لأنه لم يكن مسموحاً لنساء الحريم، مهما كانت طبقتهن أن يغادرن القصر إلا إذا صحبهن السلطان في رحلة من رحلاته الصيفية خارج العاصمة. حتى أنه لم يكن ليسمح لهن في أغلب الأحيان بتعدّي جدران دار الحريم إلى جزء آخر من أجزاء القصر، ولا بد لهن من استئذان السلطان نفسه إذا أردن الخروج إلى حدائق القصر.
وإذا سَمحَ لهن، ونادراً ما كان يفعل، فإن حراسة شديدة تقام حول الحدائق ويُمنع اقتراب أي شخص منها حتى لا تمتد الأنظار الفضولية إليهن.
مباني الحريم تشبه مستعمرة صغيرة
كانت مباني الحريم تضم إلى جانب بيوت القادنات والجواري بعض الساحات المكشوفة والحدائق الصغيرة، كما تضم جناحاً خاصاً بالسلطان يتكوّن من عدة غرف للنوم وقاعة كبيرة للاستقبال وحمّام خاص. وكان لكل من القادنات ولوصيفة الشرف ولخازنة دار الحريم حمّامها الخاص، أما بقية الجواري فكان لهن جمعاً حمّام مشترك واحد.
ويشبه الحريم مستعمرة صغيرة تتألف من عدد من البيوت والحدائق والساحات يسكنها نساء السلطان وجواريه وأولاده وخدمه، ولا يدخلها من الرجال سواه. ويعامَل السلطان في هذه المستعمرة بأسمى معاني الإجلال والإحترام، فلا ترفع واحدة من النساء عينها لتلتقي بعينه، وإذا سمعن وقع خطواته عليهن أن يختبئن وألا يظهرن إلا إذا دعاهن. وحتى تـًعرف ساكنات الحريم أن السلطان قادم إليهن كان يلبس خـُفاً نعله من الفضة إذا مشى به فوق الرخام أخرج صوتا معينا تعرفه نساؤه فيتأهبن للقيام.
الخصيان في دار الحريم
وكان الخصيان هم الذين يحرسون دار الحريم ويقومون بإدارة الكثير من شؤونها. ومنذ مطلع القرن الخامس عشر، وحتى نهاية القرن السادس عشر، كان أغلب خصيان الدار من البيض، ومن أصول قوقازية كجواري الدار أنفسهن. وأثناء حكم مراد الثالث استلم ثلاثة من الخصيان السود مناصب هامة في الحريم. ومنذ ذلك الحين أخذت أعداد كبيرة منهم تدخل الدار وأصبح لهم الرئاسة على البيض.
الوزير الأول يحاول إلغاء الخصيان
وفي سنة 1716 حاول الوزير الأول الداماد جور لولو علي باشا أن يلغي استعمال الخصيان في القصر السلطاني فأوعز بمنع خَصْي العبيد السود وبيعهم إلى وسطاء القصر. ولما توفي علي باشا هذا عادت تجارة الخصيان السود إلى الإزدهار وتدفقت أعداد كبيرة منهم على قصور السلطان وازداد نفوذهم لحد كبير وتدخلوا في شؤون الدولة وسلـّمهم السلاطين مقاليدَ الأمور.
رئيس الخصيان ثالث رجل في الدولة
وقد أصبح رئيسهم الذي كان يعرف باسم (دار السعادة آغاسي) أو (قزلار آغاسي) أكبر موظفي القصر، واحتل المركز الثالث في الدولة بعد السلطان والصدر العظم. وكان الصدر الأعظم وشيخ الإسلام لا يستطيعان مقابلة السلطان إلا بعد المرور برئيس الخصيان الأسود هذا. أما الخصيان البيض فقد اقتصرت مهامهم على أعمال الخدمة، وأوكل إلى السود أمر حماية الحريم والإشراف على شؤونهن كما أوكل إلى رئيسهم (القزلار آغاسي) الإشراف على أوقاف الحرمين الشريفين، وكانت هذه الوظيفة من قبل من اختصاص رئيس الخصيان السود.
عدد الخصيان
وقد بلغ عدد الخصيان السود المستخدمين في حريم السلطان في القرن الثامن عشر 200 خصي، يضاف إليهم عدد آخر كان يقوم بالخدمة في قصور السلطان الأخرى وفي أجنحة الأميرات العازبات وقصور الأميرات المتزوجات.
وكان هؤلاء الخصيان يُنتقون من بين العبيد الذين تحضرهم القوافل القادمة إلى مصر من دارفور وسِنار وغيرهما.
وكان الأطفال منهم يُخصون قبل وصولهم إلى مصر عند موقع قرب أسوان. وبعد أن يلتحقوا بالقصر تبدأ عملية تثقيفهم وتدريبهم على الخدمة وآداب السلوك من قِبل متقدميهم من بني جنسهم، ويتولون أثناء تدريبهم حراسة أبواب دار الحريم، وينامون في مهاجع مخصصة لهم قرب الدار. وبعد أن ينهوا تدريبهم ودراستهم يمرون بمراتب مختلفة في السلـّم المهني، تبدأ بعضوية الحرس وتنتهي بمنصب رئيس هذا الحرس. ويتولون أثناء ذلك خدمة القادنات، ويرتقون منها إلى وظائف أعلى قد تصل إلى مرتبة (القزلار آغاسي) التي تعادل رتبة الوزير في الدولة.
عناصر الخدمة داخل القصر
وإذا تجاوزنا دار الحريم وسكانها وأحوالهم ومراتبهم، وانتقلنا إلى القسم الثالث من أقسام القصر حيث يقيم الخصيان البيض والوصفاء لوجدنا أن سكان هذا القسم شباب لا تزيد سن أكبرهم عن الخامسة والعشرين.
وكان الإشراف على الوصفاء من اختصاص الخصيان البيض، فحين توكل إلى بعضهم مهمة الخدمة في جناح من أجنحة القصر أو عند بعض سكانه، كان أحد الخصيان البيض يشرف عليهم ويكون مسؤولا عنهم. ويدعى رئيس الخصيان البيض باب السعادة آغاسي أو قيي آغاسي أي رئيس البوابة. وقبل أن ينازعه مكانته رئيس الخصيان السود كانت له رئاسة أمور دار الحريم والإشراف على شؤونها. ويتبع الـ قيي آغاسي فريق من الخصيان البيض يبلغ عددهم أربعين خصياً، كما يتبع الخصي المسؤول عن الخدمة في الأجنحة أربعون آخرون يوزعهم في مهام الخدمة المختلفة.
وينام الخصيان في مهاجع جماعية، ويرأس كل عشرة وصفاء خصي أبيض، أما رؤساء الخصيان فيفرد لكل منهم جناح خاص.
قواعد الخدمة الداخلية وآداب السلوك
كان السلطان محمد الفاتح هو أول من وضع أصول وقواعد الخدمة الداخلية، ولما جاء السلطان سليم الأول وفتح سورية ومصر، تعرف على آداب السلوك في قصور سلاطين المماليك فيها، فأدخل بعض التعديلات على تنظيمات الخدمة الداخلية في بلاطه، وألبسها ثوبا من الأبهة والتفخيم، سيما وأنه حصل على البردة النبوية الشريفة، واتخذ لنفسه صفة خليفة المسلمين. وكان السلطان بايزيد الثاني، والد السلطان سليم قد أسس مدرسة لتدريب الوصفاء وتعليمهم هي مدرسة غلطة سراي يدخلها كبار الخصيان ويتخرجون منها بعد مدة قد تطول أو تقصر حسب قابليتهم واستعداهم للتعلم.
وبعد تخرجهم من هذه المدرسة ينتقلون إلى القصر السلطاني فيتابعون دراستهم وتدريبهم على أيدي خوجات من الخصيان البيض والوصفاء المدربين الذين لا تقل أعمارهم عن الثلاثين والذين لهم خبرة ومعرفة كافية بآداب السلوك وأصول الخدمة. وبعد انتهاء تدريبهم ودراستهم ينقلون للعمل في الأقسام الثانوية من القصر. فإذا ما أظهروا براعة ومقدرة استطاعوا الوصول إلى منصب خادم السلطان الخاص.
موظفون بالقصر آخرون
وتجدر الإشارة هنا إلى أن القصر السلطاني كان يحوي إلى جانب هؤلاء الوصفاء والخصيان موظـَفين كبيرين هما: المسؤول عن المؤن والمسؤول عن الخزينة الخاصة. كما كان يحوي عددا من الموظفين الاختصاصيين الذين تتناول واجباتهم أموراً تهم السلطان شخصياً، كالحلاقين والمسؤولين عن (العِمّة) والموسيقيين والخدم والأقزام، والصُمّ الذين يقومون بحمل رسائل السلطان أو يحضرون مقابلاته مع شخصيات الدولة لحمايته دون أن يفهموا ما يجري بينه وبينهم من أحاديث.
ويبلغ عدد الخدم الخاصين بالسلطان أربعين خادماً، ويسمى الواحد منهم (خاص أوضه لي)، ومهمتهم حلاقة ذقنه ومساعدته في ارتداء ملابسه وخدمته أثناء طعامه وغير ذلك. ويرأسهم رئيس يعرف باسم (الصلحدار آغا) أي حامل السيف. وقد احتل (الصلحدار آغا) اعتباراً من مطلع القرن الثامن عشر، مركزاً رفيعاً في القصر وأصبح له الإشراف على جميع شؤون الخدمة الداخلية عوضاً عن رئيس الخصيان البيض، وغدت مهمة الخصيان البيض ورئيسهم تقتصر على الإشراف على الوصفاء وتدريب المستجدين منهم.
وقد شهد القصر السلطاني أشكالاً عديدة من الصراع الدامي والدسائس والمؤامرات بين رجال الخدمة الداخلية العديدين، وكانت نتائج هذا الصراع علو قدر فئة لمدة من الزمن على حساب الفئات الأخرى تسعى خلالها هذه الفئات المغلوبة لاسترداد مكانتها عن طريق التآمر وتدبير المكائد. فإما أن تفلح وإما أن تتردى إلى درك أسفل. وقد لعبت نساء الحريم في هذا الصراع دوراً بارزاً تحفظ لنا بعض أخباره كتب التاريخ العثماني. وإن كنا لا نريد الدخول في تفاصيل هذا الصراع وأخباره، فإنا نستطيع القول بكل ثقة وتأكيد أن الدولة العثمانية لم تجن منه إلا شوكا وحنظلا وأنه كان من بين العوامل التي نخرت في جسدها وعجّلت نهايتها.
عناصر الخدمة خارج القصر
اشتمل الجهاز المسؤول عن الخدمة الخارجية على عدد كبير من الموظفين، بعضهم يسكن داخل حدود القصر السلطاني، وبعضهم يسكن خارجه.
وكان على رأس هذا الجهاز عدد من أصحاب الوظائف يحملون رتبة الآغا، بينهم: حامل العلم والمسؤول الأكبر عن الخيول السلطانية ورئيس البوابين ورئيس البستانية.
حامل العلم
ويعتبر حامل العلم أعلى موظفي الخدمة الخارجية، وهو المسؤول على اللواء السلطاني والجوقة الموسيقية العسكرية التابعة للقصر، والمراسلين الذين يحملون رسائل السلطان المختلفة.
المسؤول عن الخيول
أما المسؤول الكبر عن الخيول فكان له الإشراف على الإصطبلات التابعة للقصر والمراعي المخصصة لخيول السلطان والتي تقع على جانبي البوسفور. ويليه في المرتبة مسؤول أصغر عن الخيول وبعهدته حيوانات النقل والمركبات التي يستعملها السلطان في تنقلاته.
رئيس البوابين
وكما هو متوقع فإن مسؤولية رئيس البوابين هي حراسة بوابات القصر ومراقبة الداخلين إلى القصر والخارجين منه. وقد عهد إليه فيما بعد بالإشراف على الإحتفالات التي تقام في القصر. ويشترك معه في هذه المسؤولية الوزير الأعظم الذي ما لبث أن احتكر هذه المهمة لنفسه وأقصى عنها رئيس البوابين.
رئيس البستانية
ولا ينتظر المرء أن يكون لرئيس البستانية أية قيمة تذكر، ولكن الواقع كان عكس ذلك، إذ أنه كان من أكبر موظفي الخدمة الخارجية ومقامه يلي مقام حامل العلم مباشرة. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنه كان المشرف على استجواب وإعدام موظفي القصر الذين يشك السلطان في ولائهم، ولأنه كان يقوم على رأس جهاز يتألف من ألفي رجل يعملون في البستنة وفي أعمال أخرى. وقد جند هذا العدد الكبير من الرجال أول الأمر لاستصلاح الأراضي الوعرة التي قام عليها القصر السلطاني ولتحويلها إلى حدائق وبساتين تتناسب مع جمال القصر وبهائه.
وبعد أن أتم الرجال هذه المهمة غدا عمل الكثيرين منهم بعيدا عن الزراعة كل البعد، فأصبح بعضهم يقوم بمهمة حراسة مباني القصر المختلفة، وبعضهم يشرف على أمن البوابات الكثيرة التي تؤدي إلى القصر، وبعضهم يحرس موانئ القرن الذهبي والبوسفور وبحر مرمرة. وكان الفريق الذي يشرف على شؤون الأمن في الموانئ يقوم بمهام الشرطة المحلية ويراقب عمليات شحن السفن وتفريغها ويمنع التهريب ويهتم بالحراج ومجاري المياه وما شابه ذلك. وقد عين السلطان بعضهم كحرس خاص، أو عهد إليهم بقيادة السفن الخاصة به. وكان لرئيس البستانية إلى جانب الإشراف على هذا الجيش من الموظفين مهام أخرى، كتمويل مطابخ القصر بالأغنام والدواجن والطيور ورفع القمامة والإشراف على (الحكواتية) والمهرجين والسحرة والموسيقيين الذين يؤمون القصر لتسلية السلطان وحاشيته.
الأمنـــاء
وتلي طبقة الأغوات طبقة الأمناء التي تحوي خمسة (أمناء) أهمهم (الشهراميني) أي متسلم المدينة و (الضرب خانة أميني) أي متسلم دار المسكوكات، و(المطبخ أميني)، أي المشرف على المطابخ السلطانية، والـ (أريا أميني) أي المسؤول عن الشعير و الـ (قصرفي شرياري أميني) أي المسؤول عن المؤن. ومن هم دون الأمناء من موظفين لا قيمة كبيرة لهم ويتبعون الأغوات والأمناء أو الخصيان وغيرهم من موظفي القصر الكبار. ويمكننا أن نذكر ضمن هذه الفئة السقائين والخياطين والفرانين والحطـّابين وغيرهم من أصحاب المهن.
سكان القصر لم يحملوا له الولاء
وهكذا فقد كان القصر أهم المؤسسات الإجتماعية والسياسية في الدولة العثمانية، وكان بعناصره ورجالاته المصنع الكبير الذي يموّل الدولة بإدارييها وعسكرييها وأدمغتها المحركة. ولا بد من الملاحظة في ختام هذا المقال أن الكثير من ساكني هذا القصر كانوا من أصل أجنبي، مما يستنتج منه أن عددا كبيراً ممن وقعت بين أيديهم مقدّرات الدولة كانوا لا يحملون لها ولاء المواطنة وإخلاص ذي النسب. بل كثيراً ما كانت أحقادهم أو مصالحهم هي منارتهم في تصرفاتهم وأعمالهم. وقد أدى هذا إلى أسوأ النتائج سيما حين ضعفت أجهزة الدولة وقل اهتمام السلاطين بشؤون البلاد، ومع استشراء هذا الداء كانت الدولة العثمانية تنتقل من دور الرجل المريض إلى دور الرجل الذي يدق أبواب الأبدية بكلتا يديه
منقول