حروبه تُدمي الروح
بواسطة : فاطمة البدن
قد نسمع بالحروب الدامية التي تخلف وراءها المئات من الضحايا الذين يكون نصيب الأرض شرب دمائهم واحتواء أجسادهم، وأقرب مثال هي واقعة الطف والمجزرة التي طالت آل رسول الله (ع) فيها وجرى بها القتل والتمثيل بالأجساد وقطع الرؤوس وسبي النساء والأطفال والشماتة بهم من بلد إلى بلد.
كل هذه الأمور جعلت من الحرب مع الإمام الحسين (ع) وعاشورائه محطة خالدة في قواميس الحروب التي لم يُر مثلها أبداً، فخُلد أبطالها حتى لو كانوا بنظر أهل الأرض وقاموسهم أنهم بفئة الجيش المهزوم والمقتول، ولكنهم بقاموس السماء ورب السماء هم أهل النصر والظفر العظيم، لدرجة أصبح الأبطال فيها بدرجة الإمام لدى الأطفال! وسأقول لكم كيف.
إحدى الفتيات اللاتي أدرسهنّ لفتتني ونحن نتحدث عن ما جرى بالشام، حين قالت في طرف حديثها الإمام العباس، ولا أتذكر ما كانت جملتها بالضبط، لكن أتذكر استيقافي لها والتصحيح أن العباس ليس إماماً، وحين ذكرت أن لدينا اثني عشر إماماً فقط من ضمن أربعة عشر معصوماً، وجدت علائم الاستعجاب وكأن المعلومة جديدة لديهن، فقمت باستعراض أسماء المعصومين ابتداءً بالنبي محمد (ص) وأنا أحاول تحفيز ذاكرتهم وسؤالهم حال كتابة أي اسم أنه ما الاسم الذي يأتي بعده، استغربت أن البعض لم يضع الحسن بعد الإمام أمير المؤمنين (ع) وقال الحسين!!
وحين كتبت اسم الحسين بعد الحسن (ع) وسألتهنّ من يأتي بعده، بعضهن قالت العباس والبعض قال علي الأكبر والبعض قال زينب!!
أنا لا ألقي اللوم على صغر ثقافتهن لأنهن يبقين بفئة الصغار الذين بطور التعلم والتلقين، وأعلم أن هناك ممن هم بفئة الكبار والآن لا يعرفون ترتيب الأئمة والمعصومين، لكن نقطتي هنا التي أريد الوصول لها أن البطولة بحرب الحسين جعلهم بنظر أطفالي بمصاف الإمام.
ولا أعتقد أن النظر للبطل بالحرب ورفع مقامه يختص بعالم الأطفال فقط، فالكثير يحب عالم الأكشن والحروب ويمجد أبطالها حتى لو كانت بالفئة الطاغية مثل صدام حسين الذي للآن نرى من يمجده وينصره ويدعو له!!
كل ما قلته مقدمة لأقول نحن الماديين قد نرى الحرب وأصحابها ونمجد المنتصر فيها، ولا نعترف بمن يقيم حربه عبر السكوت والصبر.
إمامنا الحسن (ع) كانت له من الحروب الكثيرة التي ربما لم يكن الجميع يراها بعينه المجردة أو يتصفحها بكتب تاريخه، هو قطعًا اشترك بحروب دامية ظاهريا بعهد أبيه، لكن الحروب بزمن خلافته كانت باطنية تُدمي الروح وترديها قتيلة بصورة أفظع مما نتصور.
نحن بحياتنا العادية ونحن أناس عاديون لسنا بذاك المقام العالي، لكن تقتل أرواحنا كلمة واحدة مُحرجة أو تعليق مسيئ أو اتهام باطل أو غيره من صنوف الكلام، فنعيش بهم داخلي وانكسار نفسي من ذاك الكلام وننعزل عن الناس من أثرها وكأننا أموات بينهم، فما يكون تأثير ذاك الكلام بمن نصبه الله خليفة وإماماً كأن يمر عليه أحدهم ويلقي عليه سلام الأذى حين يقول له السلام عليك يا مذل المسلمين!! وليس هناك من يرد عليه ويدافع عن إمام زمانه.
لتمتد الجرأة العلنية حين يتجرأ أحدهم ويضربه بالخنجر بفخذه ولا يمرهم أحد ضربته بكلمة طيبة تضمده.
اتهامه بالكثير من التهم كأن ينسبوا له كثرة الزواج بصورة لا تصدقها العقول، أو وصفه بالجبان وغيرها فقط لأنه لم يحارب وأقام الصلح مع معاوية حقنًا لدماء المسلمين الذين لم يجد بهم عدة مخلصة تؤهل لإقامة حرب متكافئة تقاتل رأس الضلال معاوية لأنها ستكون محسومة النتيجة بالهزيمة.
حروب الإمام الحسن كانت روحية أكثر منها جسدية، كان يتلقى بكل يوم قذائف تطعن روحه الزاكية وتشكك مواليه بقدراته وإمكانياته، والتي يتساوى فيها بقدرات أخيه الحسين وكان مقدمًا فيها عليه، فقط فلننظر لأحاديث النبي الأعظم (ص) بحقه وبحق الحسين فلم يفرق بينهما، ويكفينا قوله: “الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا”.
وللأسف ليس التاريخ فقط من فرّق بين الحسن والحسين، بل نحن أيضًا من فرق بينهما، نعم مصيبة الحسين مصيبة عظيمة وشهد الإمام الحسن (ع) بذلك أيضًا حين قال “لا يوم كيومك يا أبا عبد الله”، لكن أيضًا لم نسمع عن يوم كيوم الحسن تُرمى فيه الجنائز بالسهام، أي حرب أقيمت على الإمام الحسن حتى وهو ميت بنعشه يواجه السهام بدرع كفنه الأبيض!!
بربكم أسأل؛ أيعقل أن الإمام الذي قدمه رسول الله بأحاديثه وفضله على أخيه الحسين نرى مجلس عزائه يشكو الهجر من الموالين وعدم إيلائه الاهتمام الذي يستحقه سبط النبي الأكبر وأول ريحانة نبتت من شجرة الزهراء وأمير المؤمنين (ع).
بعض المفارقات تُشجي الفؤاد حقيقة ويصعب حتى شرح تفسيرها للأطفال الصغار، فكيف نقول لهم نحن نغلق المحلات حدادًا وقد نعطل حياتنا وأعمالنا لنحضر مآتم الحسين باكرًا حتى لا تغلق علينا أبوابها لنفي بواجب المواساة حزنًا على مصاب الحسين، ولكن حين يأتي مصاب الحسن فهو أهون علينا أن نعمل شيئًا لمصابه مثل مصاب أخيه، حيث لم ندرك للآن مدى عظمة ألم الزهراء لولدها المظلوم المسموم، والذي لولاه ولولا حروبه الروحية التي تلقاها كلها بنفسه هو ولا يزال لليوم يتلقاها لوحده دون أي نصير ينصر قضيته المُهملة مع الحجارة المتناثرة التي على قبره، والتي لا نزال لا نستوعب ندبته الحقيقية حين نندب إمام زماننا ونقول له أين الحسن وأين الحسين!!
فحري بنا أن نسأل أرواحنا قبل أن نبدأ الندبة، ونقول لها أين الحسن وأين الحسين بولائنا وفدائنا؟؟
هل نقول لبيك يا حسن كما نقول لبيك يا حسين؟