مصدر الصورة: mpg.de
تغير مناخ عصور ما قبل التاريخ وجَّه بشكل متكرر هجرات بشرية عبر شبه الجزيرة العربية – ترجمة* محمد جواد آل السيد ناصر الخضراوي
Prehistoric climate change repeatedly channelled human migrations across Arabia
(Max Planck Society – تقديم: جمعية ماكس بلانك)
ملخص المقالة:
يظهر اكتشاف آلاف الأدوات الحجرية في موقع خل عميشان 4 موجات متعددة من الاستيطان البشري، ويبين تغيرَ الثقافة البشرية بمرور الوقت. ويقع خل عميشان 4 في حفرة بين الكثبان الرملية الكبيرة في أطراف منطقة تبوك بشمال المملكة العربية السعودية، حيث وجد باحثون دليلا على ست مراحل تشكيل البحيرة، ارتبطت خمس منها بأدوات حجرية صنعها البشر قبل 400000، 300000، 200000، 100000، و 55000 سنة. وتتميز كل مرحلة من مراحل الاستيطان البشري بنوع مختلف من الثقافة المادية، مما يشير إلى أن السكان وصلوا إلى المنطقة من اتجاهات ومناطق متعددة، طغت عليها شخصية أفريقية.
( المقالة )
موقع خل عميشان 4 في شمال المملكة العربية السعودية، حيث تم العثور على أدلة على الزيارات المتكررة من قبل البشر في وقت مبكر خلال السنوات الـ 400,000 الماضية، ارتبطت مع ما تبقى من البحيرات القديمة. المصدر: مشروع الصحاري القديمة (مايكل بتراغليا).
بدأت الأبحاث الحديثة في شبه الجزيرة العربية – وهي عبارة عن تعاون بين العلماء في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري في جينا بألمانيا، وهيئة التراث بوزارة الثقافة السعودية، والعديد من الباحثين السعوديين والدوليين الآخرين – في توثيق ثراء ما قبل التاريخ بشكل لا يصدق في المملكة العربية السعودية، أكبر دولة في جنوب غرب آسيا. وركزت الأبحاث السابقة في المنطقة على هوامش السواحل والأراضي الحرجية، في حين أن عصور ما قبل تاريخ البشرية في المناطق الداخلية الشاسعة ظلت غير مفهومة جيدًا.
وقد تم وصف النتائج الجديدة، بما في ذلك أقدم دليل مؤرخ للبشر في شبه الجزيرة العربية قبل 400000 عام، على أنها تقدم كبير في علم الآثار العربية من قبل الدكتور هوو غروكت، المؤلف الرئيسي للدراسة ورئيس مجموعة أبحاث مجتمع ماكس بلانك “الأحداث المتطرفة” في جينا بألمانيا، ومقرها في معهد ماكس بلانك للإيكولوجيا الكيميائية.
ويظهر اكتشاف الآلاف من الأدوات الحجرية عن موجات متعددة من الاستيطان البشري ويبين تغير الثقافة البشرية بمرور الوقت. وفي موقع خل عميشان 4، والذي يقع في حفرة بين الكثبان الرملية الكبيرة، وجد الباحثون دليلا على ست مراحل تشكيل البحيرة، خمسة منها ارتبطت بالأدوات الحجرية التي صنعها البشر في وقت مبكر بحوالي 400000، 300000، 200000، 100000، و 55000 سنة مضت. وتتميز كل مرحلة من مراحل الاستيطان البشري بنوع مختلف من الثقافة المادية، موثقةً الانتقال من “ثقافة” الفأس اليدوي في العصر الحجري القديم الأدنى الأشوليني الى أنواع مختلفة من تقنيات العصر الحجري القديم الأوسط القائمة على تقشر الحجر. كما عثرت الحفريات في واحة جُبَّه، على بعد 150 كيلومترًا إلى الشرق، على أدوات حجرية تعود إلى ما قبل 200000 و 75000 عام.
أداة فأس يدوي حجري منذ 400,000 سنة من موقع خل عميشان 4. المصدر: مشروع الصحاري القديمة (إبان كارترايت) الجزيرة العربية الخضراء.
يُظهر تحديد تاريخ المواقع الأثرية – الذي تم تحقيقه بشكل أساسي من خلال تقنية تسمى التأريخ اللامع، والتي تسجل طول الفترة الزمنية منذ أن تعرضت حبيبات الرواسب الصغيرة لأشعة الشمس لآخر مرة – إلى أن كل فترة استيطان تعود إلى وقت من المعروف أن هطول الأمطار زاد في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، ترتبط جميع مجموعات الأدوات الحجرية بالرواسب المميزة التي تنتجها بحيرات المياه العذبة. ولذلك تُظهر النتائج أنه، ضمن نمط سائد من الجفاف، أدت المراحل القصيرة العرضية لزيادة هطول الأمطار إلى تكوين الآلاف من البحيرات والأراضي الرطبة والأنهار التي عبرت معظم شبه الجزيرة العربية، مشكِّلةً طرقَ هجرة رئيسية للإنسان والحيوان مثل أفراس النهر.
وفي حين أن صحراء النفود اليوم منطقة قاحلة للغاية، فإن التجاويف العميقة بين الكثبان الرملية الكبيرة خلقت أماكن لتكوين البحيرات الصغيرة أثناء الزيادات العرضية في هطول الأمطار. ونتيجة لذلك، تحولت منطقة النفوذ بشكل دوري من واحدة من أكثر الأجزاء غير الصالحة للسكنى في جنوب غرب آسيا إلى أرض عشبية خصبة توفر فرصًا لتحركات السكان المتكررة.
وصول عاصفة خلال عمليات التنقيب الأثري عن بقايا بحيرة قديمة في شمال المملكة العربية السعودية ، حيث عاش البشر القدامى جنبًا إلى جنب مع حيوانات مثل أفراس النهر. المصدر: مشروع الصحارى القديمة [١] (كلينت جانوليس).
تداعيات أوسععلى عكس العظام والمواد العضوية الأخرى، يتم الحفاظ على الأدوات الحجرية بسهولة، وتتأثر شخصيتها إلى حد كبير بالسلوكيات الثقافية المكتسبة. ونتيجة لذلك، تسلط هذه الأدوات الضوء على خلفية صانعيهم وكيف تطورت الثقافات على طول مساراتها الفريدة في مناطق مختلفة. وتعكس موجودات خل عميشان 4 وواحة الجبه نبضات قصيرة الأجل من الاستيطان التي تمثل المراحل الأولى من أمواج الهجرة.
وتُظهر كل مرحلة من مراحل الاستيطان البشري في شمال شبه الجزيرة العربية نوعًا مميزًا من الثقافة المادية، مما يشير إلى أن السكان وصلوا إلى المنطقة من اتجاهات ومناطق متعددة. ويلقي هذا التنوع ضوءًا فريدًا على مدى الاختلافات الثقافية في جنوب غرب آسيا خلال هذا الإطار الزمني، ويشير بشدة إلى التقسيم الفرعي للسكان.
وفي بعض الحالات، تكون الاختلافات في الثقافة المادية كبيرة جدًا بحيث تشير إلى الوجود المعاصر لأنواع مختلفة من أشباه البشر (hominin) في المنطقة، مما يشير إلى أن الجزيرة العربية ربما كانت أيضًا منطقة واجهة لمجموعات مختلفة من أشباه البشر نشأت في إفريقيا وأوراسيا. وتشير أحافير الحيوانات إلى نمط مماثل: على الرغم من أن سجل الأحافير في شمال الجزيرة العربية يظهر شخصية أفريقية بارزة، فإن بعض الأنواع أتت من الشمال، بينما يمثل البعض الآخر سكانًا لفترة طويلة في شبه الجزيرة العربية.
وتسلط النتائج الضوء على أهمية سد الفجوات في خريطة أشباه البشر. ويقول الدكتور غروكت: “لطالما كان يُنظر إلى الجزيرة العربية على أنها مكان فارغ عبر الماضي. يظهر عملنا أننا ما زلنا نعرف القليل جدًا عن التطور البشري في مناطق شاسعة من العالم ويسلط الضوء على حقيقة أن العديد من المفاجآت لا تزال موجودة”.
ويقول رئيس المشروع البروفيسور مايكل بتراغليا، من معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري: “إنه أمر رائع؛ في كل مرة كان الجو رطبًا، كان الناس هناك”. ويضيف: “يضع هذا العمل شبه الجزيرة العربية على الخريطة العالمية لعصور ما قبل التاريخ البشري”.
*تمت الترجمة بتصرف
نُشرت الدراسة في مجلة “الطبيعة” (Nature).