النتائج 1 إلى 3 من 3
الموضوع:

زوجـــه فرعــون

الزوار من محركات البحث: 13 المشاهدات : 606 الردود: 2
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من المشرفين القدامى
    برنس
    تاريخ التسجيل: July-2012
    الدولة: ع ْـآلـمٌ لآ يليق إلآ بسموّيْ
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 8,663 المواضيع: 1,654
    صوتيات: 24 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 3961
    مزاجي: حسب الجو
    أكلتي المفضلة: برياني
    موبايلي: Galaxy S3
    آخر نشاط: 17/September/2024
    الاتصال: إرسال رسالة عبر Yahoo إلى prïnċë häïdër
    مقالات المدونة: 8

    زوجـــه فرعــون


    الكاتب في سطور :
    * فيتشيسلاف بيتسوخ من مواليد موسكو عام 1946م . أنهى كلية التاريخ بمعهد موسكو للتربية عام 1970م . كتب أول قصة عام 1973م ، وكانت بداية النشر عام 1978م . صدرت مجموعة القصصية الأولى عام 1983م بعنوان " ألف باء " . له عشر مجموعات منها " الأزمنة السعيدة " و " فلسفة موسكوفية جديدة " و " التنبـؤ بالمستقبل " .



    ترجمة : أشرف الصبَّاغ

    سونيا باروخودوفا متزوجة منذ عشر سنوات من لص بكنية فرعون . بدأ ذلك الفرعون كصاحب أول دار عرض سينمائى خاصة فى موسكو ، ولكنه أخذ يتطور بالتدريج حتى وصل إلى اللصوصية والإجرام نظرا لقصور النزعة التجارية ومحدوديتها لديه . كما أننا لا نستطيع أن نقول عن سونيا باروخودوفا أنها كانت تحب زوجها ، ولكنها على نحو ما ألفته وتقاربت معه خلال السنوات العشر . كانت أعماله ونشاطاته بالنسبة لها مجرد غرائب لا تزيد ، على سبيل المثال ، عن وظيفة غواص أو ساحـر قروى . وفى عام 1996م اشترى فرعون لسونيا باروخودوفا أتيليه لتصميم الأزياء . من هنا يمكن القول أنها بدأت تنهمك تماما فى مشاغلها الخاصة . فبعد أسبوع أو اثنين كوَّنت فريق عمل ، وموَّنت نفسها جيدا من مصانع الأنسجة بأرخص الأسعار ، وخاصة مما هو مسروق من مصنع " الخشخاش الأحمر " ، واشتركت فى مجلات نسائية لا تعد ولا تحصى ، وعقدت العزم فى جدية تامة على إعطاء أشهر خياط فى موسكو درسا لا ينساه .

    فى صباح 24 سبتمبر 1996م ، بالضبط ، بزغ فى ذهن سونيا باروخودوفا موديل فى غاية الروعة والجمال : قطع من الأقمشة المختلفة ، الألوان حمراء مائلة إلى الصفرة وبالذات البنفسجى مع القرمزى ، الظهر خال تماما من أى شئ ، بفتحة كبيرة عند الصدر تنزل بزاوية حادة إلى ما فوق السُّرة ، ومن فتحتى الأكمام يبدأ جناحان بطوايا وثنايا مثل جناحى الفراشة .

    تراءى هذا الموديل لسونيا باروخودوفا فى وقت مبكر فى المنام . إلا أنها عندما نهضت من الفراش لم تتوجه مباشرة إلى مكتبها لتوجع رأسها ، وإنما أسرعت لإجراء العمليات الصباحية الاعتيادية . بينما الموديل يقف طوال الوقت أمام عينيها بعذاب لذيذ . فى البداية راحت تتأمل نفسها ، وهى ما تزال بقميص النوم ، أمام المرآة الفينيسية العالية التى تعكسها بالكامل : فى الواقع لم يكن هناك أى داع للنظر فى المرآة : سونيا باروخودوفا تتمتع بقوام جيد ونِسَب ممتازة للجسد مع الوجه الرقيق الواهن الذى تتلألأ فيه عينان سلافيتان ورعتان . بعد ذلك أخذت حمَّاما ، ووقفت أمام المرآة القديمة : أنواع مختلفة من الكريم وسوائل التجميل ، والتدليك . بيد أن تدليك الوجه كان أصعب عملية ـ عموما فمن غير الممكن ، بعبارات رجالية ، وصف الجالسة أمام المرآة القديمة بدقة ووضوح إلا إذا أضعنا أربعين دقيقة كاملة . بعد أن انتهت سونيا باروخودوفا من زينتها الصباحية ، احتست أول كأس من الـ " بِرنو " ـ لسبب ما كانت تفضل الفودكا الفرنسية " برنو " من بين جميع المشروبات ، والتى كانوا يطلقون عليها أيضا تسميــــة " باستيس " . بعد ذلك ذهبت إلى المطبخ لتعد القهوة . هذا العمل البسيط تحول لديها إلى عملية طويلة مجهدة . ولكن هاهى رائحة القهوة المُتَحَدِّية ، المفرطة الحلاوة ، تنتشر فى الشقة . صبت سونيا باروخودوفا لنفسها فى فنجان من الخزف الثمين الذى كان شائع الاستعمال فى فرنسا وانجلترا وروسيا فى القرن الثامن عشر . وأقبلت أسوأ فترة خلال اليوم كله : حينما تبدأ الاتصال بالصديقات وهى تحتسـى القهوة ـ عندما تبدأ العمل .

    ـ كاتيا ، أنتِ ؟
    ـ أنا فعلا ، تصوَّرى ! ـ جاء الصوت غير واضح كما لو كان من مسافة بعيدة .
    ـ كيف تسير أمورنا ؟
    ـ أحضروا لتوهم حرير البطانات والزراير والشيفون .
    ـ وماذا بخصوص ثوب تلك العِرْسَة ؟
    ـ نعمل الآن فى خياطة العُرِّى .
    ـ وماذا ...
    ـ حضروا أيضا لإصلاح المكوتين ، ورغم ذلك فالاثنتين فى غاية السوء ، تعملان الآن بالكاد .
    ـ تخلَّصتِ منهم ؟
    ـ طبعا !
    ـ والآن نأتى إلى المهم ... واقفة أم جالسة ؟
    ـ واقفة .
    ـ إذن اجلسى . ابتكرتُ اليوم موديل فى غاية الفنتازيا ـ وراحت سونيا باروخودوفا تصف التفاصيل الدقيقة لموديلها الفنتازى الرائع .
    ـ معنى ذلك أن هذا الوغد سيكتئب ـ قالت كاتيرينا وهى تقصد الخياط الموسكوفى الشهير .
    ـ بمناسبة الحديث عن الأوغاد : كيف تسير أمورك مع صاحبك المحاسب ؟
    ـ بشكل سئ ! ففضلا عن أننى لا أحبه ، فهو يعانى أيضا من مرض البول السكرى ...

    بعد ذلك تحدثتا ما يقرب من نصف الساعة حول الموضوعات النسائية العامة ، وفى النهاية وضعت سونيا باروخودوفا السماعة وبدأت تدخن سيجارة . أخذت تجول هنا وهناك وهى تقترب حثيثا من مكتبها . وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتبها كان رائعا ، مغطى بالجوخ الإنجليزى ، ومزيَّن بالبتـولا الكاريلية ، بدرابزين عند الحواف ، ويقف على ـ لا ينبغى القول قائمتين ، وإنما ـ رجلين مفتولتين . على المكتب توجد أدوات التحبير ، وتمثال نصفى من الجبس لنابليون ، ولمبة كيروسين برونزية جميلة بغطاء من الزجاج المعتم . راحت سونيا باروخودوفا تجول هنا وهناك ، ويتولَّد بداخلها تدريجيا ذلك الإحساس السعيد جدا الذى لا تعرفه ، رغم أنه متوتر أحيانا ، إلا الطبائع الفنية ، وتحديدا عندما : هه ، هه ، سوف تتشكل صيغة السعادة . ومن فرط هذا الإحساس تبدأ دغدغة ما فى البطن ، ويندفع الدم إلى اليدين ، وينبض عصب ما فى الدماغ بحذر . جلست فترة طويلة ، أو قصيرة ، خلف مكتبها وهى تثنى قدمها اليمنى تحتها ، فتحت قنينة الحبر الصينى ، نشرت مجموعة الألوان المائية ، تناولـت قلما ، تنهدت مرتين بثقل ، وبدأت العمل فى موديلها الفنتازى الرائع . سار العمل فى البداية بشكل جيد . ولكن الحمية تبددت تدريجيا ، وقضت سونيا باروخودوفا الساعتين التاليتين جالسة على الرسم الكروكى من أجل التظاهر بالعمل ليــس إلا ، وذلك بسبب الانجذاب الطبيعى نحو العمل الإيجابى . إلا أنها نهضت من خلف المكتب فى أسوأ حالاتها المزاجية ، واحتست كأسا أخرى من الـ " برنو " ثم مَزَّتْ بقطعة ليمون مغطاة بحبات ملح كبيرة . وجلست إلى الهاتف .
    ـ كاتيا ، أنتِ ؟
    ـ أنا فعلا ، تصوَّرى ! ـ جاء الصوت غير واضح كما لو كان من مسافة بعيدة .
    ـ هناك شئ ما يحدث لى ، لا شئ يتحقق ...
    ـ أهم شئ ألا تتوترى . تذكرى دائما ما كانوا يعلمونه لنا فى المدرسة : يوجد دائما فى الحياة مكان للتطور ـ يلزم فقط هذا الـ ... الـ ... دأب !
    ـ فى سنوات المدرسة كنتُ أذهب حافية القدمين ، وكنتُ أحصل دوما على درجات الامتياز .
    ـ هه ، أ ترين ! كنتِ متفوِّقة ، ولذا فأهم شئ ـ أن تكونى دؤوبة .
    ـ ولكن ماذا بخصوص ثوب تلك العِرْسَة ؟
    ـ أخذته لتوها .
    ـ كانت سعيدة ؟
    ـ وأية سعادة !
    ـ وكيف لا ! فهى التى يجب أن تلبس الخيش وتتمنطق بالحبال ، سَعَّروها بثمن أكبر وأقاموا لها قصرا مثل قصر الأليزيه .
    ـ بالضبط ، بالضبط .

    ـ اسمعى ، أ لم يتصل بك صاحبك المحاسب ؟
    ـ اتصل ـ ولكن ما الفائدة ؟ إنه للعام الثالث لا يفعل شيئا سوى الاتصال .
    ـ ثلاث سنوات ـ فترة طويلة للكلاب ، ولكنها للإنسان ـ لا شئ .
    بعد ذلك تحدثتا ما يقرب من نصف الساعة حول الموضوعات النسائية العامة ، ثم خرجت سونيا باروخودوفا لتشم الهواء فى البلكونة . ولحسن الحظ أن الوقت كان نهاية سبتمبر والطقس صيفى : كان دافئا وجافا رغم تجهمه . غير أن علامات نعاس مقبل قد بدأت تعلن عن نفسها : شئ ما ناعس فـى الهواء ، الضوء خامل وضعيف ، الأوراق على الشجر صارت قاتمة وبدأت تفوح بروائح التحلل ، وفى بلكونة البيت المقابل ردد الجار المجنون كلمات بذيئة وهو يمد يده فى اتجاه سوق تيشينسكى ، وطائر الدِغْنَاش يجلس على الإفريز رغم أن موسمه لم يحن بعد . فجأة امتد شعاع شمس من خلال غشاوة السماء الغائمة فأحدث تأثيرا عذبا للغاية فى نفس سونيا باروخودوفا : شعرت كما لو أن صيغة السعادة سوف تتحقق فى التو واللحظة من تلقاء نفسها ، وستبدأ دغدغة ما فى البطن ن ويندفع الدم حارا إلى اليدين ، وينبض عصب ما فى الدماغ بحذر . فى تلك اللحظة أضاء وجهها بابتسامة كما لو كانت نابعة من الداخل ، فعادت ثانية إلى مكتبها .
    بعد ساعة كان الرسم الكروكى لموديلها الفنتازى الرائع جاهزا فى خطوطه العامة . وصارت سونيا راضية عن نفسها تماما ، واحتست لفرط سعادتها كأسا كاملة من البِرنو . بعد ذلك جلست إلى الهاتف وأخذت تفكر بمن تتصل لتخبره عن نجاحها .
    ـ كاتيا ، أنتِ ؟
    ـ أنا فعلا ، تصوَّرى ! ـ جاء الصوت غير واضح كما لو كان من مسافة بعيدة .
    ـ يبدو أن الهاتف يعمل بشكل سئ ...
    ـ غدا سآمر عمال التليفونات بإصلاحه .
    ـ ولكن إذا حضروا سكارى ؟
    ـ سأطردهم ، وسأرفع على شركتهم قضية فى المحكمة !
    ـ ولكن محاكم هذه الأيام يمكن أن نسميها ...
    ـ طُز فيها كلها ...
    ـ هذا صحيح فعلا .

    بعد ذلك تحدثتا ما يقرب من نصف الساعة حول الموضوعات النسائية العامة ، وفى ختام الحديث وجهت سونيا باروخودوفا الدعوة إلى كاتيرينا للذهاب إلى أحد المطاعم الصغيرة كى تحتفلا بميلاد موديلها الفنتازى الرائع . ولكن كاتيرينا اعتذرت بحجة أنهم ، بين اللحظة والأخرى ، سيحضرون إلى الأتيليه مساطر الرسم . وضعت سونيا باروخودوفا سماعة الهاتف وأخذت تفكر طويلا ماذا ترتدى . وفى نهاية المطاف وقع اختيارها على حذاء شمواه بلون أخضر فاتح ، وثوب محتشم من الكشمير الأسود ، وشال اسكتلندى بلون أخضر غامق .
    خرجت من المنزل فى الساعة الرابعة بعد الظهر . جلست فى سيارة تاكسى وانطلقت إلى مطعمها الصغير . من حسن حظها أن السائق كان كثير الكلام فراحا تبادلان الحديث طوال الطريق عن هذا وذاك .

    ـ أ تعرفون ... أنه أحيانا تجول برأسى فكرة غير سارة ـ قال السائق فى معرض حديثه ـ فعلى سبيل المثال ، توجد دوله اسمها أوروجواى حيث من الممكن أن يكون فيها إناس كثيرين رائعين لا يعرفون عنى أى شئ ، وأنا نفسى لا أعرف عنهم شيئا ، ولن أعرف أبدا ، وكأنهم غير موجودين ! وهذا أمـر فظيع ، أولا ـ لأن الحياة تبدو فى هذه الحالة غير مُعاشة كليا ، وثانيا ـ لأننى أنا نفسى وبدرجة ما أصبح غير موجود ـ وأتساءل : كيف يمكن العيش ؟!
    كان المطعم خاليا تماما من الزبائن : فقط نادلان يرتديان ثياب أوبرالية ، وبدا أنهما كانا ينامان واضعين رأسهما على قبضاتهما . طلبت سونيا باروخودوفا قدحا من البرنو وزجاجة شمبانيا وسلطة وجمبرى وكستليته نمساوية ، وكان الحلو عبارة عن آيس كريم من الفراولة . سيطرت عليها حالة عاطفية من تأثير الشمبانيا ، وشعرت برغبة فى الحديث .
    قالت للنادل الذى يحمل الكستليتة النمساوية :
    ـ إذا كان بالأتوبيس رجل عجوز ، وأردتَ أن تبدأ معه الحديث ، فماذا تفعل فى مثل هـذه الحالات ؟
    ـ أنا لا أركب الأتوبيس .
    ـ لنفترض أن هذه الحادثة قد وقعت ...
    ـ من الممكن أن أقول له ، يا والدى ...
    ـ ولكن ، تصوَّر ، هذه الكلمة فى انجلترا غير موجودة ! الكلمة طبعا موجودة ، ولكنهم لا يستخدمونها .
    ـ إذن فماذا يقولون ؟
    ـ إذا كنتَ زبونا فهم يقولون لك : يا سيد .
    ـ ولكن إذا كنتُ أنا الخادم ؟
    ـ إذن فأنت الذى يجب أن يقول : يا سيد . ولكن أن تقول : " أنتِ ، يا أمى ، لا تتدافعى هكذا " ـ فهذا غير موجود لديهم . كما أن الأطفال الإنجليز لا يقولون أبدا للرجال الغرباء ، يا عمى .
    ـ إذن فلمن يقولون ، يا عمى ؟
    ـ فقط إذا كنتَ أخا لأبيهم .
    خرجت سونيا باروخودوفا من المطعم فى حالة نشوة روحية عالية سببها فى المقام الأول الشمبانيا والنادل اللطيف . علاوة على أن اليوم كان صحوا : قد تكون الشمس حامية ، ولكنها مع ذلك تشرق بنفس الحنان والشجن الذين يطل بهما عجوزان لطيفان . كان الهواء راكدا ، ولكن لسبب ما كان شعر المارة منتفشا . وفى المنتزه أشعل الكناسون أوراق الشجر المتساقطة التى نشرت روائح التوابل ، وأشاعت شعورا بالقلق ، وأثَّرَت على الحالة النفسية مثل النبيذ . سارت سونيا باروخودوفا ببطء فى اتجاه شارع ميخافايا . ذَرَّت عينيها فى مواجهة الشمس وفكَّرَت فى حياتها التى هى فى واقع الأمر غاية فى الروعة .

    بيد أنه فى الفترة الأخيرة بدأ يسيطر عليها هاجس مزعج : ذلك الوجود السعيد ، المأمون ، الهادئ جدا ، يمكن أن نسميه ما نشاء ـ شذوذ ، حلم ، إحساس الأحاسيس ، ولكنه ليس الحياة بالمعنى الصحيح للكلمة . فالحياة الحقيقية هى شئ ما سرى ، مجهول ، رهيب ، هى ذلك الألم الفظيع الذى ، إضافة إلى ذلك ، يسحر ويجتذب .
    أخذت سونيا باروخودوفا تتجول فى المحلات ما يقرب من الساعة : اشترت زوج من الأحذية السوداء اللامعة ، زجاجة عطر ، قفازين من جلد الجدى ، طقم من الفرش العمودية للرسم ، علبـة شيكولاته ، باقة من زهور البنفسج ، كيس نقود من الخرز . وقبل انتهاء يوم العمل ذهبت إلى الأتيليه . لم تكن كاتيرينا موجودة ، فراحت تراقب ـ فى تشتت ـ كيف تعمل الفتيات وتتفحص بدقة خياطة أحـد الفساتين ، ودخَّنت سيجارة ثم انصرفت عن طريق الباب الخلفى للأتيليه .
    كانت الساعة حوالى السابعة مساء حينما ركبت سونيا باروخودوفا سيارة التاكسى منطلقة إلى منزلها . فى هذه المرة كان السائق قليل الكلام . فراحت تسأله :
    ـ هل صحيح أنهم سيرفعون أسعار الوقود ثانية ؟
    وهذا صامت .
    وبعد فترة تقول له :
    ـ هؤلاء الحمقى سيدفعون الشعب إلى ثورة روسية رابعة !
    وهذا صامت .

    كان أول شئ فعلته سونيا باروخودوفا بمجرد عودتها إلى البيت أن أخذت حمَّاما ، وارتدت فستانها الأسود القصير من دون أى شئ تحته ، ثم خرجت لتشم الهواء فى البلكونة دون أن تتنبه إلى خطر الإصابة بنوبة برد . كانت الشمس تحط فوق أسطح المنازل فى أزقة كوزيخينسكى ، وفاحت فى الجو رائحة حريق ما . وفى المنزل المقابل صاح الجار المجنون بكلمات بذيئة وهو يمد يده فى اتجاه سوق تيشينسكى ، وعلى الأفاريز راحت طيور الحمام الأزرق العرجاء تتمخطر . تنهدت سونيا باروخودوفا بشجن وعادت إلـى الغرفة . صبت لنفسها كأسا من البرنو وجلست إلى الهاتف .
    ـ كاتيا ، أنتِ ؟
    ـ تصوَّرى ! ـ جاء الصوت غير واضح كما لو كان من مسافة بعيدة .
    ـ لم تصلحى الهاتف بعد .
    ـ أ لم نتفق على إصلاحه غدا !
    ـ أين كنتِ حوالى الساعة السابعة مساء ؟
    ـ ذهبتُ لأتفقَّد بعض أنواع الدانتيللا الجيدة .
    ـ وكيف الحال ؟
    ـ كان من الممكن عدم الذهاب من أصله .
    ـ وهذا التيس ، أ لم يتصل بكِ ؟
    ـ أى تيس ؟
    ـ صاحبك المحاسب ، ناقص النمو هذا .
    ـ اتصل قبل موعد الإغلاق بقليل .
    ـ وماذا يرى ؟
    ـ يرى أننى حمقاء ، ومن الممكن قيادتى عبر سلك التليفون باعتباره أقصر مقود موجود . الشئ الهام هو أننى لا أنوى بأى حال من الأحوال الزواج منه .
    ـ بسب البول السكرى ؟
    ـ لا ، ولكننى ببساطة لن أتزوج من مجرد غراب .

    بعد ذلك تحدثتا ما يقرب من نصف الساعة حول الموضوعات النسائية العامة ثم وضعت سونيا باروخودوفا السماعة واقتربت من النافذة المفتوحة . كانت المساء قد ولج بيسر وهدوء فى الليل ، والنجوم لم تظهر بعد ، ولكن السماء كانت قد اكتست بذلك اللون الأحمر القانى الثقيل الذى ينبئ ، كما هو مألوف ، بظهور النجوم فى الطقس الغائم . تلك السماء فيها شئ ما يقبض النفس ويُلَمِّح إلى أمر ما . استولى على سونيا باروخودوفا ثانية هاجس بأنها تمتلك انطباعا سطحيا عن الحياة الإنسانية ـ على الأقل لا تعرف عنها كل شئ . بذلت جهدا شديدا لطرد هذه الفكرة غير اللازمة من رأسها . تجوَّلَت قليلا فـى الغرفة ، ثم جلست خلف المكتب وأخذت تدير لمبة الكيروسين القديمة الموجودة تحت الغطاء الزجاجى المعتم . وفى تمهُّل وحذر رفعت الغطاء ، فصلت الجزء الملئ بالكيروسين ،

    رفعته فوق رأسها وسكبت كل ما فيه على نفسها . فاحت ، على الفور ، فى الغرفة رائحة دكان المواد الكيميائية . وبدون وعى عادت سونيا باروخودوفا إلى طفولتها فى مدينة إيجيفسك ، فى بيت صغير مكوَّن من طابقين ، وفى أسفله يبيعون أشياء كثيرة من بينها الكيروسين على وجه الخصوص . تناولت علبة الثقاب ، أخذت تحك الأعواد فى محاولة لحرق الثياب التى ترتديها . ولكن إما أن الكيروسين كان مغشوشا ، أو أنه يشتعل بشكل سئ فى الهواء ، مما اضطرها إلى إشعال أكثر من نصف العلبة قبل أن تعلق ألسنة اللهب الوردية بفستانها الأسود فى بطء وتثاقل وتُحدِث دخانا كريها . وعندما بدأ شعرها يطقطق على رأسها ، راودتها فكرة : ها هى الحيـاة الأخرى ، الرهيبة والعظيمة بلا حدود ، تنتهى هى الأخرى بلا رجعة .
    أخذ جلد سونيا باروخودوفا يحترق سريعا ، ودون أن تعى راحت تركض نحو الدرج . ظلت لبضع ثوان تتلفت حولها فى ضراوة ووحشية ، ولكن وعيها كان يتلاشى ، فسقطت على الدرج وأخذت تتدحرج إلى أسفل دون أن تفكَّر ، وإنما كانت تشعر على نحو ما ، أنها الآن تعرف كل شئ .




  2. #2
    مراقبة
    ام عباس وزينب
    تاريخ التسجيل: September-2012
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 21,838 المواضيع: 967
    صوتيات: 61 سوالف عراقية: 2
    التقييم: 432116
    مقالات المدونة: 1
    شكرااا
    قصة جميلة

  3. #3
    استثنائية
    قتلني حسن الظن بهم
    تاريخ التسجيل: October-2012
    الدولة: Lost
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 25,437 المواضيع: 626
    صوتيات: 0 سوالف عراقية: 1
    التقييم: 4321
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: unemployed
    موبايلي: xperia z2
    آخر نشاط: 23/March/2018
    مقالات المدونة: 14
    شكراااا برنس كوه خلصت ههههههههههههه

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال