كما أن الثقوب السوداء تتضخم من الداخل مع مرور الزمن، كذلك الكون فإنه يتسع.
ثقب أسود عملاق محاط بحلقة من الغبار يلتهم نجما (ناسا)
تمتلك الثقوب السوداء قوة جاذبية فائقة إلى درجة أن الضوء نفسه لا يمكنه الإفلات منها. ولهذا لا يمكن رؤية الثقوب السوداء، بل يستعين العلماء بأجهزة تلسكوب فضائية مجهزة بأدوات خاصة للعثور عليها. إذ يمكن الاستدلال على وجودها من خلال مراقبة تأثير جاذبيتها القوية على النجوم التي تقترب منها.
ويتباين حجم الثقوب السوداء تباينا كبيرا، فيرى علماء أن حجم أصغرها قد لا يتعدى حجم ذرة، رغم أن كتلته قد تعادل كتلة جبل شاهق. وهناك الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية، التي قد تفوق كتلتها كتلة الشمس بأكثر من 20 مرة. وربما تضم المجرة الواحدة، مثل مجرتنا درب التبانة، الكثير من الثقوب السوداء نجمية الكتلة.
هناك ثقوب سوداء ذات كتلة نجمية قد تفوق كتلتها كتلة الشمس بأكثر من 20 مرة (شترستوك)
ساسكند والأوتار الفائقة
بالنظر إلى قدرة الثقوب السوداء على التهام كل شيء يجرؤ على الاقتراب منها، هل من الممكن أن تتمدد الثقوب السوداء وتتضخم لتبتلع الكون بأكمله؟
عام 2018، طُرح حل لهذا اللغز المحير عن الثقوب السوداء قدمه عالم الفيزياء ليونارد ساسكند Leonard Susskind، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة ستانفورد Stanford University، الذي اشتهر بأبحاثه الرائدة في مجال نظرية الأوتار الفائقة.
وبنى ساسكند تفسيره على نظرية الأوتار الفائقة، التي تفترض أن كل شيء في الكون، كل جسيم وكل مادة، يتألف من أوتار أحادية الأبعاد. ويتحدد نمط اهتزاز هذه الأوتار بحسب كتلة المادة وشحنتها وبعض خصائصها الأخرى. ووفقا لهذه النظرية فإن الجسيمات الأولية مجرد انعكاسات لاهتزازات هذه الأوتار أحادية الأبعاد.
وبحسب تقرير نشر على موقع "ساينس ألرت" Science Alert، فقد اقترح ساسكند أن الثقوب السوداء تتمدد إلى الداخل وليس إلى الخارج. وهذه السمة لا نراها بالنظر إليها عن بعد. فهذه الكرات غير المرئية الغامضة يبدو حجمها ثابتا بالنظر إليها من الخارج، في حين أنها تتضخم وتنمو من الداخل إلى ما لا نهاية، فكيف يكون ذلك ممكنا؟
تأثير الأجسام الضخمة على الزمكان يشبه تأثير الكرة الثقيلة على قطعة قماش مشدودة (ناسا)
نظرية النسبية العامة
تنبأت نظرية النسبية العامة، التي وضعها ألبرت آينشتاين، بوجود الثقوب السوداء منذ ما يربو على قرن. إذ افترضت أن أي كتلة مضغوطة بما يكفي كفيلة بأن تشوه الزمان والمكان لتشكيل ثقب أسود.وقد وضع آينشتاين نظرية النسبية العامة لتفسير الجاذبية التي نراها بين الكتل، باعتبارها ناجمة عن انحناء في نسيج الزمان والمكان (الزمكان) رباعي الأبعاد، سببه وجود أجسام ضخمة. وهذا الانحناء يتحكم في حركة الأجرام في الفضاء.
ولكن الجاذبية في الثقوب السوداء تشتد بالقرب من مراكزها إلى حد تعجز معه معادلات آينشتاين عن تفسيرها. وفي الوقت الذي قد يبدو حجم الثقب الأسود ثابتا من الخارج، فإنه يتضخم وينمو من الداخل كلما سقطت فيه أجرام أو أشياء جديدة.
ولتبسيط الفكرة، تخيل أن الثقب الأسود قمع أو مخروط يتوسط لوحا مطاطيا ثنائي الأبعاد، يمثل نسيج الزمكان، بحسب نظرية آينشتاين. فإن القُمع سيزداد عمقا رويدا رويدا، دون أن يتمدد للخارج، حتى أن الأجسام التي تسقط فيه لن تصل قط إلى القاع. لكن الثقوب السوداء، في الواقع، تتمدد إلى الداخل من جميع الاتجاهات الثلاثة. ويحيط بها حد دائري يسمى "أفق الحدث" يمثل نقطة اللاعودة.
في كتابه "حرب الثقوب السوداء" وثق ساسكند جدله العلمي مع هوكينغ
حرب الثقوب السوداء
وفي سبعينيات القرن الماضي، اكتشف ستيفن هوكينغ، العالم الفيزيائي البريطاني، أن الثقوب السوداء تشع حرارة، وافترض أن هذا الإشعاع يؤدي إلى تبخرها وتقلص حجمها، ومن ثم ضياع المعلومات التي تسقط في هذه الثقوب الكونية السوداء.
بيد أن نظرية هوكينغ اصطدمت بقوانين ميكانيكا الكم التي تنص على أن الكون يحتفظ بجميع المعلومات عن الماضي، وقد فتح هذا بابا لما أطلق عليه "مفارقة معلومات الثقب الأسود" التي أدت إلى نشوب جدل واسع بين هوكينغ وساسكند، وصفه الأخير في كتابه "حرب الثقوب السوداء The Black Hole War" بأنه جدل علمي حقيقي بين علماء يفضلون التركيز على مبادئ النسبية في مواجهة أقرانهم الذين يفضلون ميكانيكا الكم.وتمخض الجدل عن نظرية "مبدأ الهلوغرام" التي وضعها "جيرارد هوفت" Gerard) Hooft) وتفترض أن المعلومات الخاصة بجميع الأجسام التي تسقط في الثقوب السوداء تختزن في التقلبات السطحية لأفق الحدث. وتقول النظرية أيضا إن الجاذبية مصدرها أوتار رقيقة تعد انعكاسا ثلاثي الأبعاد لكونٍ مسطح ثنائي الأبعاد.
شغلت الباحثين لعقود العلاقةُ بين مساحة سطح الثقوب السوداء والمعلومات التي تحتوي عليها (بيكسابي)
التعقيد الحسابي
شغلت العلاقة بين مساحة سطح الثقوب السوداء والمعلومات التي تحتوي عليها اهتمام الباحثين لعقود. ورأى بعض العلماء أن حجم "التعقيد الحسابي" -أي عدد العمليات الحسابية المطلوبة لاستعادة الحالة الكمية الأولى للثقوب السوداء عند بداية ظهورها- قد ينبئ عن حجم التغير الذي طرأ عليها.
وذلك لأن الجسيمات داخل الثقوب السوداء تتفاعل مع بعضها بعضا، وبالتالي تتشابك المعلومات المختزنة عن حالتها الأولية، ومن ثم تزداد الثقوب السوداء تعقيدا. وأثبت ساسكند أن الثقوب السوداء تنمو حجما وتزداد تعقيدا بنفس الوتيرة، وربما يكون أحدهما سببا في الآخر.ولو افترضنا أن التعقيد الحسابي هو المسؤول عن تضخم مساحة الثقوب السوداء، يتوقع ساسكند أن تؤثر هذه الفرضية على فهمنا للكون بشكل عام، ويقول في تقرير نشرته مجلة "ذا أتلانتك" The Atlantic "كما أن الثقوب السوداء تتضخم من الداخل مع مرور الزمن، كذلك الكون يتسع".
ويضيف "أرى أنه من المثير حقا التساؤل إن كان توسع الكون يرتبط بتزايد التعقيد الحسابي، وإن كانت الساعة الكونية، أي نشأة الكون، ترتبط بتطور التعقيد الحسابي. وهذه الأسئلة لا أعرف إجابتها بعد".