المدخل إلى فهم علم العلل
اخْتَصَرَهُ وفَرَّغَهُ وهَذَّبَهُ
وزَادَ عَلَيْهِ
أَبُـو هَـمَّــامٍ السًّـعْــدِيُّ
1431هـ
.. يسألكم (بالله) صاحبُ هذا التفريغ أن تدعوا له بالتوفيق في طلب العلم ...
( المَدخَلُ إلى فَهْمِ عِلْمُ العِلَلِ )
الحمدُ لله ربّ العالمين , والصلاة والسلام على سيّد المرسلين , وعلى آله وصحبه الناقلين , والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين , وبعد :
فقد تفضًّل الشيخ "حاتم بن الشريف العوني" المدرّس بمكة المكرمة بعقد دورةٍ على دروسٍ مطوّلةٍ بالكلام على علم مفقود مهجور, وهو علم ( العلل ) فأجاد الشيخ بتبيين أهميته ونشأته ورجاله وكتبه وقرائنه وغير ذلك, فرأيت أن أختصر كلامَه من تلكمُ الدروس بما يوصل على طريقة سهلةٍ ميسّرةٍ علَّها تكون مدخلا للتعرّف على هذا العلمِ الجليل, ولقد أزدتُ على ذلك تنقيحاً وتفريغاً وتنسيقاً ودرراً, واللهَ أسألُ أن يزيدَ في فضلِه وأن يرزقَنا العملَ بكتابِه وسنَّةِ رسوله –صلى الله عليه وسلم- .
علمُ العلل علمٌ صعب ودقيق, لا يسهل تناوله بدروس وأحقاب من الزمن, وذلك لجمودة المادة, ولعدم وجود ضوابط وقواعد تعين على فهمه إلا يسيرا, ولا يمكنُ فهم هذا العلم إلاَّ بـالممارسةِ, فلا يؤخذ بالكلام النظري وحده, ولكن لا استغنَاء عَنه, لأنه المدخل الأساسيُّ إلى التطبيقِِ العمليِّ, لذا.. سنعطي مدخلاً لهذا العلم بأسلوبٍ عصريّ مناسب.
( أَهَمِيَّةُ عِلْمِ العِلَـلْ )
(1) أنَّه من وسائل نقد المرويات عن النبيّ, وتمييز صحيحها من سقيمها, وذلك لمكانةِ السنّة النبويّة, ولأنَّه المصدر الثاني من مصادر التشريع, فزاد لذلك جلالةً وعظمةً وأهميةً كبرى .
(2) أنَّّه أغمرُ عُلومِ الحديثِ وأعظمِها وأدقِها وأعمقِها, بإجماع أئمة الحديث من المتقدمين والمتأخرين . قال ابن مهدي (198هـ): كتابةُ الحديث عند الجهَّال كهَانة. وقال: لأن أعرف علة حديث واحد أحب إليّ من أسمع 20 حديثاً لم أسمعه. وذلك لأنَّه قائمٌ على النقدِ الخفيّ, بل هو خلاصةُ ونهايةُ علوم الحديث بأكملِها, من قواعدَ وضوابطَ وشروطَ وأنوع (المدلّس, المدرج, المرسل, الجرح والتعديل النظري والتطبيقي) وغيرها .
(3) أنَّّه لا يحقّ لأحدٍ الخوضَ فيه, بل لا يجرأ إلا قليلُ عقلٍ أنْ يتكلمَ فيه, ما لم يكن من أهلِ الاختصاصِ الكاملِ فيه. ولهذا لم يخض فيه من العلماء السَّابقين إلا القلال, فتجد آلاف الرجال من الثقاتِ والحفَّاظِ, ولكن مع قلّةٍ فيهم. وسأل أبن أبي حاتم الرازي (324هـ) أباه أبو حاتم الرازي (277هـ) من أئمة هذا الشأن؟ فذكر له أحمد بن حنبل (241هـ) ويحيى بن معين (233هـ) وأبو زرعة الرازي (264هـ) وعليّ بن المديني (234هـ) والبخاري (256هـ) وغيرهم. ثم سأله بعد وفاة أبي زرعة –وهو آخرهم وفاةً- فقال: والله لا أعرف أحدا من البلدانِ يعرف شيئا في هذا الشأن. فسأله عن محمد بن مسلم بن وارة؟ فقال: عنده طرفٌ منه. فهذا في زمنه, فما تقول في زمنِ من بعده؟
(4) أنَّه أي علم –العلل- هو العلمُ الوحيدُ الذي أوصلَ علماءَ الحديثِ إلى القطعِ بصحَّة الحديثِ وضعفِه, فلا يمكن لهم ولا لغيرهم أن يصِلوا إلى درجةِ اليقين بغير الاعتماد عليه. فلا يمكن الوصول إلى القطع به بمعرفة وجود شروط الحديث الصحيح, لأن الخطأ والوهم واقع من جميع الطبقات (حفَّاظاً, ورُواةً, ونقَّاداً) .
فالحديثُ الموضوعُ لا يُكتفى في الحكم بوضعه بمجرّد النظرِ على السند والحكم عليه !, بل يتم بـ "القرائن" التي تعينُ وتوصلُ للحكم عليه, وقد تكون خفيَّة وقد تكون ظاهرةً, كحديث "قُدس العدس على سبعين نبيّا" وحديث ابن عباس في "الإسراء والمعراج" وهو مليء بالوضعِ والنقدِ, فمن تكلّم بالحديث دون معرفةٍ بعلم العلل فاضربْ بكلامه عرضَ الحائطِ بلا تردّد .
(5) أنَّه يعيدُ إلى علوم السنَّة هيبتَها ومكانتَها عندَ المسلمين, لأنه وجد أناسٌ يتسلّقون على العلم بل يتطاولون على العلوم الشرعية, فتراه يقول: إسناده حسن أو حديث ضعيف, ويُنهي الحكم به. والسبَبُ: عدم معرفتهم بقيمة هذا العلم, وعظيم شأنه. ولهذا..لن تجدَ حديثاً واحداً حكم عليه البخاري أو أحد النقَّاد بالصحة أنه معارض لأصل معتبر, أو متن مبتكر, ليدلّ على كبير علمهم وقصور معارضيهم وناكري أحاديثهم (1) .
لذلك..نعلم أنّ علوم السنّة هي التي بها يتم "معرفة الصحيح والضعيف" ولا يتم معرفة السنّة إلا بمعرفةِ رجالِها وحفّاظها, فلن تجد في ملّة ولا طائفة توصل الحكم على الحديث والنقد الكامل بغير هذا الطريق.
قالَ الأديبُ الجاحظُ (2) في معرض تضعّيفه حديثاً يحتج به الشيعة: ومتى ادّعينا ضعف حديث وفساده فاتَّهمتم رأينا وخفتم ميلنا وخفتم غلطنا فاعترضوا عمال الحديث والأثر, فإنَّ عندهم الشفاء فيما تنازعنا فيه..وقد أنصف كل الإنصاف من دعاكم إلى المقنع –ما فيه إقناعكم- مع قرب دارٍ وقلة جور وأصحاب الأثر من شأنهم رواية كل ما صح عندهم, عليهم كان أو لهُم اهـ. صدق..إذ هذا ما تميَّز به أهل السنًّة والجماعة من أهل الحديث والأثر, وأنهم أئمة حفاظا نقادا, فليس العلم بالحفظ, إنما العلم المعرفة. وقال الحاكم : الحجَّة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة.
( تَعرِيفُ علمُ العِلـلْ )
العلّةُ في اللّغة: المرض . واسم المفعول من علّ يعل فهو معلّ ومن اعتل فهو معتلّ. وعلى قلّة عند العرب معلول . والأفصح أن تقـول "حديث معتل أو معلّ" وأقـله فصاحةً قول "حديث معلول" وأشنعُه "معلَّل" فهو لحن لأنّ المعلل هو الملحّى(3).
العلةُ في الاصْطلاحِ: سببٌ خفيُ يقدحُ في صحّة الحديث –ظاهره السلامة-. ولعلّ الحاكم هو أوّل من عرّف العلل في قوله: الحديث المعلل يُقدح فيه من أوجه ليس للجرح والتعديل فيها مدخل.
علم العلل ينقسم إلى قسمين :
أ- النظري: وهيَ قواعد وأمثلة لقرائنَ تعينُ على فهمِ النقد الخفيّ للأئمةِ الحديث, وبالممارسة تعين على تكوين الملكةِ فيه .
شرح التعريف: (قواعد) فهي غير معرّفة لأنه لا عد لها ولا حصر. (قرائن) تحوم حول الراوي والمروي (للأئمة الحديث) كأبي حاتمٍ وأبو زرعةَ, ولا يمكن إدراك شأوهم فقد انتهى. (بالممارسة) وبغيرها لا يفهم هذا العلم, فمن تدرّب فقد انتهى من دراسته .
( أهَمِّيَّةُ الكُتُب المُؤلَّفةِ فِي التَّعلِيلِ النَّظِرِي )
أولا: ما جاء في كتب المصطلح قد تطرّقت إلى بيان العلّة, وشروطها وأسبابها إلى غير ذلك, ومن أوّل من كتب في ذلك الترمذي في "العلل الصغير", الذي شرحه الحافظ ابن رجب, فهوَ أوّل من كتب في العلل بشكلٍ موسّع, مع بيان القواعد والقرائن التي تبيّنه. ثم كتاب الحاكم "معرفة علوم الحديث" ثم امتداد كتب المصطلح كـ "مقدمة ابن الصلاح" و"نزهة النظر" لابن حجر, ثم من المعاصرين كـ "الحديث المعلّ" للخاطر وكتاب "مقايسس نقد المتون" للدميني وكـ" الحديث المعلول" للميباري وكتاب "قواعد العلل وقرائن الترجيح" لعادل الزرقي وكتاب "العلّة وأجناسها" للشيخ مصطفى باحو. وهو أجودها وأفضلها, وكذلك مقدمة الدكتور همام سعيد في تحقيقه لكتاب "شرح علل الترمذي" وهي مقدمة متميِّزة. وكتاب "العلل لابن أبي حاتم" بإشراف الشيخين سعد الحميّد وخالد الجريسي, وهو تحقيق نفيسٌ جداً . وكتاب "منهج الإمام أحمد في علل الأحاديث" لبشير عمر وكتاب "منهج أحمد في التعليل" للنشمي والدكتور أبي بكر الكافي. وهما رسائل علمية. وكتاب "علم علل الحديث" للغماري وهي في كتاب "الوهم والإيهام" للقطّان الفاسي .
ب- العملي : وله اصطلاح خاصٌ وعامٌ . وكلاهما مراعى عند المحدثين.
فالاصطلاح الخاص/ النقدُ الخفيّ للأحاديثِ من خلالِ جمعِ الطرقِ والموازنة بين اختلافاتها لمعرفةِ الصوابِ من الخطأ .
شرح التعريف: (النقد الخفيّ) فليس من أن الراو كذاب أو قول مالك قال عمر بن الخطاب فهذا لا يخفى على أحد. (خلال جمع الطرق) وهذا قيد مهمّ, فتعرف اختلاف ألفاظ الرواة مثلاً.
قال الحاكم: معرفة علل الحديث، وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم، والجرح والتعديل، وإنما يعلل الحديث من أوجهٍ ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واهٍ، وعِلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات، أن يحدثوا بحديث له عِلَّةٌ فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولاً انتهى .
والاصطلاح العام/ كلّ نقدٍ للأحاديثِ (سواء ظاهراً أو خفيّاً) وسواء (لزم منه ردّ بعض الوجوه أو لم يلزم) وسواء كان (معتمداً على جمع الطرق أو بالحكم على التفرّد) .
فتجد في كتب العلل: يقولون : فيه رجل متروك. وهذا رجل مدلّس. وتراه يبيّن علةً لحديث ثم يقول والحديث معمولٌ به. وقد يكون للحديثِ إسناد واحد فيردّه أهل الحديث, وهذا الذي يسمّيه الحاكم "الشـاذ" وصرّح أنه يختلف عن المعلول . لأن تعرف الشاذ عند المتقدمين: "التفرد" . والشاذ عند المتأخرين: "مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه" .
قَالَ الحَاكِمُ فِي "مَعرِفَةِ عُلُومِ الحَدِيثِ": والشاذ غير المعلولِ, فإن المعلول ما يوقف على علَّته أنه دخل حديث في حديث أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة اهـ (4) .
فنَعلم أن هذا التعريف بالاصطلاح الخاص لا العام, وعلى هذا لا نستطيع تخطئة الحاكم فإنه إمامٌ حافظٌ وهذا اصطلاح عنده, فبعضهم ذكر العلة بأوسع ممّا ذكره الحاكم, وبعضهم يطلقون العلة مما هو خفيّ القادح, وأكثر من مثّل على هذا النوع الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدار قطني في "علله" وهو أوسع كتاب في العلل.
قَال الشَّيخُ عبد الله السَّعد: توسَّع فيه وشرح أكثره في بيان العلة، فيذكر الحديث، ويبين أوجه الاختلاف، ويبين من تابع فلان، ومن خالفه، وقد يتكلم على الحديث في نحو عشرين صفحة, ونحو ذلك، مثل ما تكلم على حديث: «شيبتني هود وأخواتها» وأطال في الكلام عليه اهـ.
( أهمِّيَّةُ الكُتُب المُؤلَّفةِ فِي التَّعليلِ العمليُّ )
(1) أبو الحسن عليّ بن المديني (234هـ), وهو أول من ألَّف في "العلل" الذي قال فيه البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد ما استصغرته عند ابن المديني. وقال النسائي: كأنّه خُلق لهذا الشأن. وقال أحمد بن حنبل: المديني أعلمنا بالعلل وابن معين أعلمنا بالرجال وأشار إلى نفسه يعني أفقههم للحديث (5) .
وفي الكتاب مقدِّمة مهمّة جداً لا توجد في كتاب آخر, فابتدأ بالمكثرين من الصحابة ثم التابعين في جميع الأعصار إلى أن أوصل كلامه إلى طبقته, ثم ذكر علل رواة الحديث, وهو على اختصاره إلا أنَّه نفيسٌ جداً وهذا الكتابُ من رواية "ابن البراء" ولم تصل لنا مخطوطة غيرها. كذلك كتاب "مسند الفاروق" لابن كثير المفسِّر, فقد جمع أقوال علي بن المديني من غير رواية ابن البراء, ولها أهميّةٌ كبرى لاستكمالِ منهجِه فِي التعليلِ. وأكثر بالنقلِ عن ابن المديني تلميذه البخاري في "التاريخ الكبير" و "التاريخ الأوسط" .
(2) الإمام أحمد بن حنبل(241هـ), وله كتب كثيرة في العلل –وهي من جمع التلاميذ عنه لا من تأليفه- فعُرفت هذه الكتب برجال راويها, ككتاب "العلل ومعرفة الرجال" برواية ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل, وكتاب "العلل ومعرفة الرجال" براوية "المرّوذي والميموني وأبي صالح بن أحمد" وهو مطبوع في مجلّد واحد, وكتب المسائل الفقيهة والسؤالات الحديثيّة عنه فوجد فيهما كلام كثير في العلل, كمسائل "الكوسج" ومسائل "إسحاق بن راهويه" ومسائل "الكرماني" ومسائل "أبو داود" وأكثر من خدم مذهبَه وأقوالَه "أبو بكر الخلال" (311هـ) ورتبها على أبواب الفقه والحديثية في كتاب مخصَّصٍ في ثلاثِ مجلدات كما وُصف, ولكنَّه مفقود إلا أجزاءً ككتاب "الترجل" -الامتشاط والتزين والتدهن-. ووُجد آخر الكتاب وطبع, ولكن انتخَب ابن قدامةَ من هذه المسائل, ولم يوجد إلاَّ بعضه ولكنه مشحوبٌ بالفوائد.
(3) يحيى بن معين (233هـ), فجمع الدوري والدارمي وابن جنيد مسائلَه وأقوالَه في العللِ والرجالِ, وكلُّها مطبوعة, وألف أحد طلبة العلم "العلل الخفيّة التي انقدها ابن معين في مسائله" وهو كتابٌ نافعٌ في بابِه .
(4) الإمام البخاري (265هـ), فقد أودع علمَه الجمّ –الذي يدلّ على إمامِته في هذا الفَنِّ- في كتاب "التاريخ الكبير" فقد ملأه بالكلام العلمي التعليلي للأحاديث.
وهذه الكتاب تضمّن أربعة علوم حديثية مهمة :
1- التعريفُ بالرواة, وهو الغرض الأساسي من تأليف الكتاب .
2- بيانُ مراتبهم جرحاً وتعديلاً, ولم يكن هذا عنده غرضاً أساسيّاً, حيث إنه سكت كثيراً في الحكم عن رجال مما يدلّلُ على عدم اشْتراطِه هذا .
3- علمُ المراسيلِ والسَّماعِ, فقد ملأ كتابه بقولِ "لا يعرف لفلان سماعه من فلان" أو "لم يسمع إلا من فلان" .
4- علمُ العلل, وعندَه من الإشاراتِ الخفيَّة في الدلالة على العلل ما يخفى على النقاد من غموضه ودقّته, فتخرج فوائدُه على وجهِ الإلغازِ, ويشهدُ على هذا "صحيحه" من التراجم وترتيب الرواة, والشيخ المعلّمي (1386هـ) قد حقق في إخراج الكتاب وقد أجاد إلاَّ أنَّه لم يستوعب (6).
(5) الناسخ والمنسوخ لأبي بكر الأثرم (273هـ), وهو تلميذ الإمام أحمد, وذُكر له كتاباً في "العلل", وكتابه الآنف ذكره ليس خاصا بالناسخ والمنسوخ, إنما اهتمّ بذكر الاختلاف بين الأحاديث, من أوجه للتعارض مع بيان صحتها وسقيمها.
(6) الإمام مسلم بن الحجاج –رحمه الله- (261هـ), له كتابٌ خاصٌ بالعلل مخطوط وأكثره مطبوع وهو "التمييز" وهو مفيد جداً على اختصاره ووجازته, وهذا الكتاب يَشهد لمؤلفه بالعلمِ الغزيرِ في هذا الفنّ, ونقل البيهقي نقولاتٍ عديدةٍ من الجزء المفقود من كتاب "التمييز" وخاصةً كتاب "السنن الكبرى" وكذلك ابن رجب الحنبلي في كتابه "فتح الباري" .
(7) يعقوب بن شيبة (262هـ), وله كتاب سمَّاه "المُسندُ المعلّل" ويلقبه العلماء "المسند الفحل" لقوتِه ومتانتِه, وهو مرتبٌ على أحاديث المسانيد بأنْ يَذكرَ الصحابيّ ثم أحاديثَه ثم العلة. وللأسف فإن هذا الكتاب لم يتمّ لضخامتِه, وفُقد ولم يبقَ منه إلا أجزاءً منه, منها مخطوط ومنها مطبوع كـ "مسند عمر بن الخطاب".
(8) الإمام أبو داود السجستاني (275هـ), ويظهر من ذلك سؤالات الإمام الآجري (360هـ) له مسائل في التعليل والجرح والتعديل, وكذلك مِنْ كتبه المتعلقة بهذا العلم كتاب "المراسيل". فائدة هذا الكتاب: الأحاديث التي ذكرها في كتابه إنما تصحّ مرسلة من هذا الوجه, فقد يضع أحاديث موصولة وأحاديث مرسلة, فيبيّن في كتابه من طريق يبيّن أن الصواب فيه الإرسال. كما يوجد في كتابه "السنن" أحاديث بيّن بعض عللِ الحديث –ولمّا يكثر-, كما أنه قد ألف رسالة أسماها "رسالة إلى أهل مكة" طلب أهلُ مكة منهُ معرفة منهجَه في كتابِه "الـسنـن" .
(9) الإمام عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعةَ الرازي (264هـ), وكُتبت عنه سؤالات, كالبرذعي في "سؤالاته" وهو مطبوع. وله كتبٌ كثيرةٌ لكنّها مفقودةٌ, لكن اعْتنى الإمام ابن أبي حاتمٍ الرازيّ والإمام الترمذي في "العلل الكبير" و "الجامع الصحيح" بالنقل عنه كثيراً وذكرِ مسائلِه في الجرحِ والتعديل .
(10) الإمام أحمد بن سورة أبو عيسى الترمذي (729هـ), وله كتابان "العلل الكبير" ويسمَّى "العِلَلُ المُفْرَدَة" أي أنّه ألّفها بانفرادٍ حتى يفرَّق بينه وبينَ العلل الصغير, وقد وصَلنا بترتيب أحد القضاة على أبواب الفقه, وأجود طبعاته بتحقيق الشيخ صبحي السامرائي. من حيثُ الطبعة, وتحقيقه مختصر. و "العلل الصغير" وهو قطعة من كتابه "الجامع" جعله في آخره. وهو الذي شرحه ابن رجب الحنبلي. واسم جامعه: الجامع المختصر من السنن ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل. فيدلّ على أنّه ذكر علل أحاديثه, بل إنّ أغلبها مأخوذٌ من كتابه "العلل الكبير" كما هو واضح من تعليلاته .
(11) الإمام أحمد بن عمرو أبو بكرٍ البزار (292هـ), له مسند كبيرٌ جداً ويسمونه "المسند الكبير المعلّل" ولا يصح تسميته بـ "البحر الزخّار" إنما هو وصف من أحد العلماء, ومما يدلّ على كبير فائدته وأنّه مصدر أساسيّ ما قاله ابن كثير: في مسند البراز من التعاليل ما لا يوجد في غيره. وقد وصل في طبعات كتابه "13 مجلّداً" والمفقود لا يساوي مما هو مطبوعٌ حَاليّاً.
(12) الإمام أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي (303هـ), من أواحد الأئمة في العلل, وليس من ذُكر آنفاً مثل الإمام النسائي, فترى الترمذي ينقل تعليلاتٍ لأبي زرعة وأحمد بن حنبل, قال الذهبي عند ترجمة النسائي: هو جارٍ في مضمار البخاري وأحمد وفوقَ مسلم وأبي داود. وكانت له مكانة كبيرة في زمنه, وإذا اجتمع معه الأقران أوكلوا إليهِ الكلام. وقال الذهبي: ليسَ على رأس الثلاثمائة أعلمُ من النسائيِّ.
ولما سئل الدار قطني عن النسائي وابن خزيمة قال: لا أقدّمُ على النسائي مِن أهل عصره أحداً وإن كان ابن خزيمة إماماً. وهو أحد من قيل فيه: كأنّه خُلق لهذا الشأن .
وتظهر جهوده في التعليل في كتابه "السنن الكبرى" فإنه قد يعقد باباً كاملاً لذكر مسائل التعليل فيقول: باب الاختلاف عن نافع وأبي إسحاق وهكذا..ثم كتابه "المجتبى" المسمى بـ "السنن الصغرى" له شأو جيّد فيه وإن كان دون الأول.
(13) الإمام محمد بن عمرو أبو جعفر العقيلي (322هـ), وله كتاب "الضعفاء" الملقب "الضعفاء الكبير" وقد ملأَ كتابه بالكلام على الأحاديث وببيان عللها, وفيه من التعليل ما لا يوجد في غيره. وقد أخذ عن البخاري مباشرة وبواسطة فهو من صغار الآخذين عنه.
(14) الإمام محمد بن عمَّار أبو الفضل الشهيد, وله كتاب "علل الأحاديث في صحيح مسلم" وخصّه بأحاديث انتقدها على صحيح الإمام مسلم .
(15) عبد الرحمن بن محمد أبي حاتم الرازي (327هـ), له كتاب "العلل" وهو من أجلّ كتب العلل, وله مزايا كبيرة, لأشياء:
1- أنّ ابن أبي حاتم رتّبه على أبواب الفقه .
2- أنَّه حوى علمي إماميْ الدنيا, لأنَّ عامة الكتاب أسئلةٌ لأبيه أبو حاتم الرازي وابن خالته أبو زرعة الرازي .
3- اعتنائُه بذكر العلل المرتبطة بالتفرُّد .
(16) محمد ابن حبّان أبو حاتم البستي (354هـ), وأكثر كتابٍ تكلّم فيه عن العلل "المَجْروُحِينَ" فقد تعرّض كثيراً لمسائل في العلل, وإن كان قد أكثر من إِملائِه في الكتابِ كلامه عن الرجالِ الضعفاء .
(17) الإمام سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني (360هـ), له "المعجم الأوسط" وهو خاص بالأحاديث الغرائب, وهي: الأحاديث الذي تفرد بروايتها شخص, والحكم بالغرابة يقود كثيرا على معرفةِ علّة الحديث, فهو معينٌ ومشيرٌ ليسَ إلاّ .
(18) عبد الله بن عديّ أبو أحمد الجرجاني (365هـ), له "الكامل في معرفة ضعفاء المحدثين وعلل الحديث " وهو مطبوع , ويقتصرُ أهل الحديث بالاقتصار على "الكامل" .
(19) علي بن عمر أبو الحسن الدار قطني (385هـ), يبنغي أن تقف القلوب عند ذكره, ولو فُقد كتاب "علل الدار قطني" لخفيَ علينا كثيراً من معالم منهج المحدّثين في التعليل, فبقاءه حفظ للإسلامِ والسنَّة, وهو دليل على عظم هؤلاء الأئمة وعلى ما حباهم الله من علم جمّ ومعرفةٍ واسعةٍ. وقد ألّفه الدار قطني حفظاً والدليل على ذلك: .
قال أبو بكرٍ الخطيب (463هـ): سألتُ أبا بكرٍ البَرقاني هل صحيح أن الدار قطني أملى عليكم كتاب العلل حفظاً؟ فأجابه البرقاني: أنا الذي كنتُ أسأله ويجيبني.اه وهو مرتّبٌ على المسانيد, ومن غريب الكتاب أنه لم يَحوِ مسنداً لابن عباس, وعامةُ ما يحكي الكتاب إنما هو في اختلافِ الرواة, ولَه مِنْ سعةِ العلم ودقةِ الفهمِ والإِفادةِ بذكرِ وجوهِ الترجيحِ وأسبابِ الوهمِ وقرائنِ الترجيحِ. وهو الوحيد الذي في غايةِ البسط والشرح, فتجد كتاب العلل لابن أبي حاتم يحكم يقول: هو منكر. من عير ذكر السبب وهذا كثيراً . فكتاب الدار قطني سهل التعامل سلس العبارة, لذا قالوا : لم يؤلّف في العلل كتاباً مثل كتاب الدار قطني. وله جهود كبيرة غير علم العلل فله كتاب "الأفراد" الذي رتّبه ابن طاهر, وهو خاصٌ بالغريب. وله كتاب "السنن" ففي العادة كتب السنن يروي أصحابها أقوى ما يجدُ, فلم يكن هذا مقصد الإمام إنما الغرض "بيان غرائب الأحاديث التي يحتج بها في أبواب الفقه وعلل أحاديث الأحكام" .
وله كتاب "التتبع" الذي تتبّع فيه أحاديث الإمام البخاري والإمام مسلم وانتقده عليهما, لذا..فإنه حكم العلماء أن كتاب الإمام البخاري ومسلم لا ينتقدهما إلا من كان برتبةٍ عاليةٍ واجتهادٍ مطلقٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ كالدار قطني فإنه يقبل. وله "أحاديث منتقدة على البخاري" وهو جزءٌ صغير لم يطبع, إنما ذكرها الحافظ ابن حجر في المقدمة وردّ عليها .
(20) الإمام إبراهيم بن محمد أبو مسعود الدمشقي (401هـ), وله كتاب "الأجوبةُ على الأحاديثِ التي انتقدها الدار قطني " ردّ فيها عليه. وله "أطراف الصحيحين" وفيه تعليل لبعض أحاديثِ الصحيحين إلا أنّه مخطوط. ومن لطائف كتاب الأجوبة: أنّه تعقّب على بعض الأحاديث بقوله "لم يخرجه مسلم للتصحيح إنما لبيان علّته" فهو يوافق الدار قطني إلا أنه يوضّح أمراً مخفياً .
(21) الإمام أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (405هـ), وكلامه قليل في العلل, إلا أنّه تكلّم على ذلك في كتبه (المستدرك) (معرفة علوم الحديث) (المدخل إلى الإكليل) (سؤالات السجزي) نسبة إلى سجستان.
وأَخِيراً: من أهمّ المصادر في السنة كتب التخريج (البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير لابن الملقن (804هـ) و(نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي) و (تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر) وكتب الشيخ المحدث الألباني رحمه الله .
(تَـنْبِـيهٌ لطالبِ العِلَلِ)
ليس المقصود من دراسة العلل بأن تصبحَ مثل أئمةِ النقد كالبخاري, ذلك أن كثيراً من نقدِهم البناء للحديث لا يمكن وجوده في هذا الزمن, منها: الخبرة بحال الراوي وشخصيته وكتبه, يكون جاره فيعرف أحواله وتصرفاته كمولى مالك بن سعد له جار يقلّد خط أبي صالح ويكتب أحاديث موضوعة ويبثّها في كتبه, فكيفَ لنا معرفة علةِ الأحاديث؟ وأحد العلماء من العدول روى حديثا موضوعاً في الطب, فسألوه ممن سمعتَ الحديث وعن جيرانه, فذكر أنّ منهم طبيباً سمع قريبا منه, فإذا هوَ قد ركّب إسناداً على مقولةِ الطبيب خطأً!؟ .
وهذا الإمام علي بن المدينى وقف على كتاب محمد بن سيرين عن أبي هريرة بخط ابن سيرين, وقسم الكتاب إلى قسمين:
أ- أحاديث مرفوعة على أبي هريرة . ب_ أحاديث موقوفة على أبي هريرة . فاستعمل هذا الكتاب ابن المديني في تعليل أحاديث أبي هريرة. فيقول "الصواب الوقف" أو "الصواب الرفع" فأنّى لنا أن يتوفَّر لنا مثلَ هذا ؟ فالقضية ليست هيَ جمع الطرق ويكفي! -كوناً عن الفهم والدقّة والحفظ والملكة- كما هو الواقع في هذا الزمن.
( لمَ ندْرسُ عِلمَ العِلَلْ ؟ )
أولاً / محاولة فهم كلامِ العماء في التعليل, وهي أكثر الفوائد المرجوّةِ شيوعاً .
ثانياً / الترجيحُ بين كلامهم إذا ختلفوا, فإمام يقول " الصواب الإرسال " وإمام يقول " الصواب الرفع " فأنظر إلى أدلة الفريقين, وأحاول استيعاب سبب اختلافهم, ومن ثمَّ أرجّح وأصوّب, وهذه تحتاجُ إلى علم جمّ وفهم حاقب ودقة متناهية.
ثالثاً / اكتشافُ العلةِ فيما لم نجد لهم فيهِ كلاماً, فقد أقف على مرويَّاتٍ لا أجد لأحد من العلماء الحكمَ عليها, لا قبولاَ ولا رداً, فيحقّ لمن له معرفة بالعلم أن يجمع طرق الحديث ويحكم عليه على ما توصّل إليه بحثه, وهذا وقع للمتأخرين بكثرةٍ كالإمام ابن حجر العسقلانيّ والإمام ناصر الدين الألبانيّ .
مسألةٌ: هل يحقّ رد أحد العلماء غير المتقدمين بردّ الحديث بالشذوذ أو التفرد ؟
لئن كان علم العلل من أعمقِ علومِ الحديث فرد الحديث بالتفرّد من أعمق علم العلل, فهو النهايةُ العظمى في التعليل, لأنه في غاية الصعوبة, ويحتاجُ إلى درايةٍ تامةٍ وضوابط مهمّة. فإن كنت سابقاً من إمام فهذا سهل وهيّن فتوافقه .
والأحاديث التي ردّت بالتفرد قسمان:
1- أحَاديثُ لا نجد فيه إلا حكماً بالردّ من الأئمة, وهو مردود بالتفرد, فلا يصحح بوجه.
2- أحَاديثُ حصل فيها خلاف من المتقدمين, هذا يَردّ بالتفرد وهذا يَردّ بالقبول.
مثاله: حديثُ:عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال "كان النبي إذا انتصفَ شعبان لم يصم" وهذه السلسة من أقلّ مراتب الحسن, فالحاصل أنّ عامة المتقدمين على إنكار الحديث, إلا أن الترمذي قَبِلَ الحديث, فنقولُ يمكن لمن عندّه أهليةٌ وممارسةٌ في الحديثِ أنْ يرجّح بينهم.
3- أحاديثُ لم توجد لأحد من المتقدمين رداً بالنكارة, وَهِيَ قِسْمَانِ:
أ- أن يكونَ الحديث الفرد صحّحه بعضهم, ولم يحكم عليه غيره أحد بالنكارة أو الردّ. فإنه يلزمُني اتَّباع هذا الإمام وعدم مخالفته .
مثالُه: حديثُ: أبي أمامة الباهلة "من قرأ آية الكرسي...." هذا الحديث من رواية محمد بن حمير عن محمد بن زياد عن أبي أمامة الباهلي وتفرّد به محمد بن حمير, وهو ثقة, والحديث صحّحه ابن حبَّان ولم يتعرّض عليه أحدٌ من المتقدمين فيما يُعلم, إلا أن ابن الجوزي –وهو من المتأخرين- وضعه في الموضوعات لأنه قال: محمد بن حمير ضعيف الحديث. وهذا خطأ من ابن الجوزي, فالواجب التزام حكم ابن حبان والحكم بتحسينه إن لم نقل بتصحيحه, ولذا نجد من العاصرين من يُضعّفه للتفرّد, ولم يسبقهم في ذلك أحد .
ب- أن لا يوجد في الحديث الفرد أحد قَبِله ولا أعلَّه من المتقدمين. وَهِيَ قِسْمَانِ:
القسم الأول: أن يكون أحد الأئمة قد نصّ على أحد الرواة بالتفرد في حديث. فهنا لا يحكم بالعلّة إلا بأشياءَ :
* النصُّ على الغرابة .
* أن يكونَ متأهلا عالماً محدثاً, ولو فتح هذا الباب على مصراعيه كان من أوسع الباب لهدمِ السنَّة .
* قوةُ القرائن الدالة على الخطأ والوهم . وهُنَّ أَرْبَعٌ:
1- النظر إلى درجةِ الراوِي من الضبطِ والإتقانِ, فالإتقان والضبط تكونُ نسبةٌ مئوية (70%) وهكذا.
2- النظر إلى حديثه ما هي درجة التفرّد؟, لأنه درجات –سواء تفرد مطلق أو نسبي- ؟
مِثَالُهُ: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" درجة الغرابة فيه كبيرةٌ جداً, لكن همّ قمةٌ في الضبط والإتقان, وهم: يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إبراهيم التميمي عنه وعلقمةُ بن وقّاص الليثيّ عنه وعمر بن الخطاب عنه .
وهذا الحديث أصلٌ من أصول الإسلام, فالرجال الذين تفرّدوا في هذا الحديث عالية جداً, وأجمع العلماء على تصحيح الحديث لأن الرجال المتفرّد بهم من القمَّة وهي شهادة لهم, وهذا الحديث ليسَ كحديث "لا نكاح إلا بوليّ" مع المسألتان من القضايا التي تعمُّ به البلوى والأول أكثر, أو حديث "من قرأ آية الكرسي..." وهذا أقل الأحاديث أهميَّة إذ تضعيفه لا ينقص شيئا من الدين, فالتفرد هنا ليس كحديث " لا نكاح.." و كحديث "إنما الأعمال..." فالتفرّد درجات متفاوتة. والمسألةُ في ذلك ليستْ بالتَّشهّي, الإمام أحمد يقول: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ربَّما احتج به المحدثونَ وربّما لم يحتجّوا به.
3- النظر إلى درجة هذا الراوي في هذا الشيخِ خاصةً, فالعلماء نظروا إلى المكثرين من الراوية من المحدثين, كالزهري وعروة ونافع وابن سيرين وقتادة, وقسَّموا تلامذتهم على طبقات من ناحية الأتقن, فأولاً: الحفاظ الكبار والذين اشتدت ملازمتهم لهذا العالم. وثانيا: المتقنين من الحفاظ دون الملازمة . وهكذا.......إلى أن يصلوا التلاميذ الصدوقين ثم الضعفاء..الخ . –وهذه أحد طرق علم الطبقات, فله وجهان: هذا أحدهما. وقد اعتنى به المحدثون كثيراً- .
4- النظر إلى طبقة الراوي من جهة الزمن, هل هو من كبار التابعين أو أواسطهم أو صغارهم, هل من التابعين أو أتباعهم, وكلما علت طبقة الرجل كلما كان ذلك أدعى لتفرده, فقَبول تفرّد التابعي الكبير أولى وأقوى من تفرّد التابعيّ الصغير, وقبول تفرّد صغار التابعين أولى من كبار أتباع التابعين. ثم نصل إلى صغار أتباع التابعين فنجد أن قبول التفرد منهم محتمل, أمّا نزوله إلى أقلّ من ذلك –وَهُمْ أصْحابُ الكتُب- فتجده لا يقبل منهم تفردهم. وإن كان يوجد فتجد الناقد يتهمُه بالوهم أو الكذب. فكلّما علت مرتبته كلما كان الحكم بالعدل والثقة والإتقان أكبر وأولى.
القسم الثاني: أن لا يوجد أحداً نصّ على التفرد. فحكم الباحثِ عليه بالتفرد أو الغرابة أمرٌ صعبٌ, لأنه أمر غير سهلٍ أبداً, لكن إن أمعن ودقّق النظر مع موافقة أهل حديث معه, فقد يحكم بالتفرد مع أنّه قابلٌ للردّ .
( كَيْفَ نُكوِّنُ ملَكةُ فَهْمِ العِلَلْ)
سبَق الذكر أن طالب العلل لا يمكن له الوصول إلى درجة النقًّاد القدامى البتةَ, وأما طُرُق فَهْمهَما فَهِي ثَلاثٌ:
أولا: التمكّن من قواعد القَبول والردّ, فمَتَى يقبل الحديث؟ ومتى يُردّ الحديث؟ وهذه تكون في دراسةِ علمِ الحَديثِ, (حِفظاً, وفَهماً, وتَدبّراً) وهذه الدراسة لا يصحّ الاقتصار على النظري, فالاقتصار عليه لا فائدةَ كأنْ تحفظَ "ألفيةً حديثيةً" .
ثانياً: التمكّن مِن علمِ الجَرحِ والتعديلِ, فيعرف منزلة الراوي الدقيقة جرحاً وتعديلاً, لأنّ مراتبَ الرواةِ متفاوتةً. فهذا العلم يعينُ على معرفةِ منزلةِ الرّاوي العامة, والخاصة –عن شيخِه مثلاً-. ويدخل فيه معرفة زمن مولده ووفاته والشيوخ الذين سمع عنهم ومن لمْ يسمع منهم .
ثالثاً: قراءةُ كتبِ العللِ التطبيقية, فنأخذ "علل الدار قطني" فتقرأ فيه, فلا تقرأه كما تقرأ صحيح البخاري, بل يجبُ الوقوف مع كلّ حديثٍ, وتحاولُ معرفةُ سبب الترجيح, ومعرفةُ أو الوسائل التي اتّبعا في الترجيح, والوسائل التي اتّبعها في تتبّع طرق الروايات والاختلافات, والوسائل التي اعتمدَ عليها للخروجِ بالرأي الذي تبنَّاه, فالمسألةُ غير سهلةٍ فلا ينفع التقليد بطريقه إنما بحكمه ليسَ إِلاّ, فإذا استوعبتَ وفهمتَ في قراءةِ كتب العلل فهيَ الطريقة المثلى لتكوين الملكة رسوخاً وعمقاً.
ومِن هَذا القِسم نقولُ: طريقةُ التفقّه في كلامِهم ترجِع إلى ثلاثة أمورِ أساسية:
أولا: تصوّر الاختلافِ, وهذا إما أن يكون مجرّد القراءة تعرف وهذا بعد الممارسة الطويلة, أما في بداية الأمر يجبُ عمل " مشجَّرة الطرق " . وطريقتُها: أن تذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث (ابن عباس) ثم إن كان الحديث مداره على عكرمة تقول (عكرمة عن ابن عباس) إما إن كان رواة هذا الحديث عن ابن عباس كثُر, فتجعل لكل راو عموديّا, ثم النظر إلى أوجه الخلاف والتفارق فراو رفعه عن ابن عباس و الآخر وقفه, فتضع كل من وقف الحديث في جانب ومن رفع الحديث في جانب, ثم النظر إلى من اختلفوا على عكرمة..وهكذا.. .
وفي الخلاف أوجه كثيرة وطرق مختلفة صعبة عائصة ليسَ هذا موضعها .
ثانياً: معرفة مراتب الرواة, في هذا الحديثِ خاصةً من حيث الجرح والتعديل, ومن هنا تبرزُ أهميّة "تحقيق كتب العلل" فالإمام في تعليله لا يذكر مرتبتهم, بل تُذكر هذا في حواشيهم, وكتاب "العلل للدار قطني" مخدومٌ خدمةً جيّدة, وكتاب "العلل لابن أبي حاتم" كذلك, فمن خدمتهم " تبيين أحوالهم من كلام الحافظ في التقريب" وإن كان هذا لا يفيد فائدة كبيرة إلا أنه يفتّح الأبواب ويبصّر حاله بالعام.
ثالثاً: فهم كلام العالم ومحاولةِ معرفةِ سبب الترجيح, فتنظر لم رجّح روايةُ فلانٍ على فلانٍ ؟ لم رجّحَ الوقفَ على الوصلِ؟ وإنما يكون هذا بجمع كلام العلماء كلهم في حال الحديثِ أو الراوي, فترى يقول الناقد "فلان أشبه لأنه أحفظ" وترى أنّ هذا الترجيح إنما من سببِ حفظه القوي, ولكن ترى بعين البصيرة أن سبب مرجوحية الراوي الآخر هي المتابع عليها, فحينئذ تحكم للآخر, كيف حصلَ هذا ؟ إنما هو بجمع كلام العلماء, ولولاه لقلت بالأول.
* وهذا لا تكون بمجرَّدِ قراءة واطّلاع بل يجب التدقيق والبحث, وكلما كان في بعض العلوم صعوبة, تجدُ فيه لذّة في أكبر من صعوبتها. فلا يستطاع العلم براحة الجسد كما قال يحيى بن أبي كثير, وهذا يكون في إخلاص الطالب وفي لذة الطلب, وقد تستحضر لذةَ الطلب أكثر من استحضار صدق النية, وعليهِ فكلما كان العلم أعسر وأصعب كلما كانت لذّته أدعى وأشهى .
(نَشْأةُ عِلْمِ العِلَلِ ورِجَالُه)
لمَّا كانَ هذا العِلمُ مِن أدقّ العلومِ وأغمضِها, وهو الطريق الوحيد لقطع القول في صحَّة الحديث وضعفِه, حتى إن الصحابة كان عندهم علمٌ فيه, فكان الصحابة يردّ بعضهم على بعض, وكان عندهم نقدٌ للمتن, وهذا العلمُ علمٌ فطريّ, بل هم أحرص الناس عليه لأنهم أصحاب العدالة مع توقّع وجود قلة ضبط, فالتطبيق كان موجوداً عند الصحابة لكن لم يكن كمثل من بعدهم ! .
ومِن أمثلةِ تعليلِ الصحابةِ للأحاديثِ :
(1) حديث عمر لما قال "كنت أنا ورجل من الأنصار نتناوب النزولَ على النبي" فجاء ذات مرّة الأنصاري لعمرَ وأخبره أنَّ النبيَّ طلَّق نساءه, فذهب عمرُ فدخلَ على حفصة وعاتبها, ثم دخل على النَّبي وهو في مشربةٍ له فأذن له, ثمَّ كلمه وكلَّمه وتبسَّم, فلمَّا رأى ذلك عمرُ سأل النبيّ هل طلّقتَ نسائك؟ فرفع النبيّ بصرَه فقال " لا " وكبّر عمر وأخبر النَّاس, حتى عُلم من منهج عمرَ التثبّت في النقل بل التشدّد فيه.
(2) ما حصل مع أبي موسى في حديث "الإستئذان" وهدّده بضربه إن لم يأتِ بشاهد يشهد على حديثه مع أنَّ عمر ولاّه, ولكن استغرب عمرُ حديثاً لم يكن يعلمه وهو من الأمور الواقعيّة العمليّة, ثم شهد معه أبو سعيد الخدري. حتى إن الحافظ الذهبيّ يقول في "تذكرة الحفّاظ": وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل اهـ. ولهذا كان معاوية يخطب الناس على المنبر يقول " أيَّها النّاسُ لا تحدّثوا إلا بحديث كان يُذكر في زمن عمر فإنه كان يخيف الناس بالله عزوجل" .
(3) الأحاديث التي انتقدتها عائشة كثيرة وألّف الزركشي "الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة" ومنها:
أ- قال ابن عمر "إن الميّت ليعّب ببعض بكاء أهله عليه" فلما سمعته عائشة قالت "نَسي أو أخطأ" إنما مرّ النبي على يهوديّة يبكى عليها أهلها فقال "إن أهلها يبكون عليها, وإنَّها لتعذّب في قبرها". فعائشة لم تنزّل من ابن عمر عدالته, إنما خطّأته أو أوسمته بالنسيان, ووضّحت عائشة أن الميّت الكافر ببكاء أهله يُعذَّب .
ب- حديث أبو هريرةَ "من تبع جنازةً فله قيراط من أجر" فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة, -يعني أصبح يروي أحاديث لم نسمعْ بها- فأرسل إلى عائشة يسألها؟ فصدَّقت عائشةُ أبا هريرة, فقال ابن عمر معتذراً: أنت كنت ألزمَنا لرسول الله وأحفظنا لحديثه. وقال: لقد فرَّطنا في قراريط كثيرة .
-فنجد أن ابن عمر استغرب الحديث لتفرّد أبي هريرة للحديث حتى أمن من عائشة تصديقه لحديث النبيّ .
ج- ذُكر لعائشةَ قول ابن عمر "قول النبي" إنهم ليسمعون الآن ما أقول" فقالت عائشة إنما قال "إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق" ثم قرأت {إنك لا تسمع الموتى وما أنتَ بسمع من في القبور} فلا شكّ أن عائشة هنا أخطأت, ولا يصحّ نقدُ عائشة, وهذا مع أنّ العلماء اختلفوا كثيراً في تأويل الأحاديث, فمنهم من جمع بين الأحاديث, ومنهم من قال: معنى يسمعون: يعلمون, ومنهم من قال : هو خاصّ بالنبي, وأنّ الأصل عدم السماع إلا ما استثني وهو الراجح, وفي الحديث : عَرْض السنَّة على القرآن.
د- حديث عائشة "أن رجلين دخلا عليها وأن أبا هريرة يقول "إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار" فغضبت غضبا شديداً كأنما شقت. فقالت "بئسما قرنتمونا بالكلاب والحمير" إنما كان النبيّ يقول "كانَ أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والطير والدار" ثم قرأت {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} والصحيح ما ثبت في حديث سعد بن أبي وقّاص مرفوعاً "لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن ففي المرأةِ والفرس والدار" فبيّن النبي أنه ليس هناك شيءٌ يُجلب الشأم, وإن وجد ففي.., وبيّن العلماء أن المرأة إن لم تكن صالحة لم تجلب الخير ونكّدت أشر العيش .
هـ- بلغ عائشة أنَّ ابن عبّاس رفع إلى النبي "يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار" فقالت: شبهتمونا بالحمر والكلاب", وذهب بعضهم أنّ القطع المقصود به قلة الأجر, وفي المسألة خلاف مشهور ليس هذا بيان ذكره. وأفضل ما تكلّم عن فقه هذا الحديث وحديث "السترة في الصلاة" من المتقدّمين "ابن جرير الطبري" (310هـ) في "تهذيب الآثار" . إلى غير ذلك من الأمثلة الكثرة التي توضّح اهتمام الصحابة بالنقد الحديثيّ سنداً ومتناً.
أما سنداًً فكما حصل مع ابن عمر وأبي هريرة.
وأما متناً فكما حصل مع عمر والأنصاري, وغير ذلك مما تدلّ أن العلم ليس بطارئ, إنما نشأ مع نشوء الرواية.
وتعلم أنّ أهل الحديث كان عندهم نقديّة سنديّة ومتـنية, ثم تطوّر علم العلل وأصبح يتصدّى له جهابذة كابن معين والبخاري, ولا يلزم من هذا أنَّ نقد الصحابة كان مختلاً, لأنَّ امتداد العصر بعد عصر الرواية زادت أوجه لم تكن موجودة في زمن الصحابةِ,ولهذا يجب معرفة أن أسباب الخطأ والوهم من الصحابة يختلف عن الرجال الذين يخطؤن من بعدهم, فلا تقاس علة الصحابة على علة التابعين وأتباعهم.
فمن أخطاء التابعين ومن بعدهم لم تكن موجودة عند الصحابة:
1- التصحيف, وهو الأخذ من كتاب مصحّفٍ عن الصحيح والتي فيها أخطاء .
2- الاختلاط, من الراوي الحديث الذي سمعه من ثقة بالحديث الذي سمعه من ضعيف.
3- التدليس, وهو ضعيف لأنه قد يكون الساقط ضعيفاً أو كذّاباً.
4- قلب الراوي, فيقرأ أو يكتب فينزل في الإسناد, ويجعل متن إسنادٍ لإسناد. * وغيرها من أنواع الضعيف مما لا يوجد في عصر الصحابة كـ (الانقطاع, الإعضال, الإرسال, الفسق والكذب, وأنواع الضعيف) .
(تكميل) أمَّا العلل بالمنهج المعروف كان نشأته في البصرة, وأوّل من شرع في العلل شيخ التابعين (محمد بن سيرين) ثم تلقّاه منه (أيوب السختياني) و (عبد الله بن عون) ثم أخذ عنهما هذا المنهج (شعبة بن الحجاج) فوسّعه وعمّقه وأكثر من الكلام فيه حتى عُرف به, فمنهج التعليل تكاد تكون ملامحه أصبحت واضحة في زمن أتباع التابعين وبالذات على إمام العلل ورأس مدارس العلل (شعبةُ بن الحجّاج), ثم أخذه منه (يحيى بن سعيد القطّان) –وهو أوّل عالمٍ دُوّن كلامُه في علل الحديث والرجال ومن دوّن عنه ثلاثةٌ: "عليّ بن المديني" و" الفلاس" و"محمد بن المثنّى"- والإمام (عبد الرحمن بن مهدي) ثم أخذ عنهما (يحيى بن معين) و (أحمد بن حنبل) ثم البخاري إلى آخره ممن صنّفوا في العلل أو كُتب عنهم فنقتصر عليهم .
وأعلى رجالُ هذه الطبقة الثانية: البخاريّ (256هـ), مسلمٌ (261هـ), أبو حاتمٍ الرازي (277هـ), أبو زرعةَ الرازي (280هـ), الدارميُّ (280هـ), وحكى الترمذيّ أن أولى من يُسألون عن العلل ثلاثةٌ : محمد بن إسماعيل البخاريُّ, أبو زرعةَ, الإمام عثمان بن سعيد الدارميّ .
ثم الطبقة لثالثة: أبو داود (275هـ), الترمذي (279هـ) , البزّار(292هـ), يعقوب بن شيبة (262هـ).
ثم الطبقة الرابعة: النسائي (303هـ), الفضل بن عمار الشهيد صاحب "علل مسلم", ابن خزيمة (311هـ) فقد حكى في صحيحه عللاً كثيرا على أحاديث, العقيلي (320هـ) صاحب "الضعفاء" , ابن أبي حاتم (327هـ) .
ثم الطبقة الخامسة: ابن حبّان (354هـ), ابن عديّ (365هـ), الدار قطني (385هـ) –وكتابه في العلل من أجل الكتب في العلل وقال الذهبي (748هـ): وبه خُتم معرفة علم العلل .
ثم الطبقة السادسة : الحاكم (405هـ), ومن ثمّ استفاد العلماء من بعدهم من كلام الأئمة النقّاد فاهتموا بها كثيراً وأتقنوها حتى يحكموا على صحة الحديث وضعفه.
قال الإمام جهبذ السلف ابن رجب في "شرح علل الترمذي" : وابن سيرين رضي الله عنه هو أول من انتقد الرجال وميز الثقات من غيرهم ، وقد روي عنه من غير وجه أنه قال : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وفي رواية عنه أنه قال : إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه.
قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال برأسه ، أي : لا .
قال يعقوب: وسمعت علي بن المديني يقول: كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد لا نعلم أحداً أول منه ،محمد بن سيرين ، ثم كان أيوب، وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن . قلت لعلي: فمالك بن أنس ؟ فقال أخبرني سفيان بن عيينة قال : (ما كان أشدَّ انتقاء مالك الرجال) انتهى .
* والانتقاء ليس له علاقةٌ في العلل, إنما هو من باب "الجـرح والتعـديل", فلم يجعل مالكاًَ يداهنهم لا في العلل ولا في الجرح والتعديل . وممّا جاءَ في فضل شعبةَ: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن يعني في الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيه للرجال . قال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة ثم تبعه القطان ثم أحمد ويحيى. قال ابن حبًّان: وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين حتى صار علما يقتدى به ثم تبعه عليه بعده أهل العراق. قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لابن المبارك : أهل الكوفة ليس يبصرون الحديث. فقال : كيف ! ثم لقيته بعد ذلك. فقال لي: وجدت الأمر على ما قلت. قال الخطيب: ولأهل البصرة من السنن الثابتة بالأسانيد الواضحة ما ليس لغيرهم مع إكثارهم والكوفيون مثلهم في الكثرة غير أن رواياتهم كثيرة الدغل قليلة السلامة من العلل.اه فما سبقَ واضحٌ الثناء الكبير لأهل البصرة, خلافا لأهل الكوفة لأن الفرقَ فيهم كثر وتسبّبَ في ذلك كثرة التدليس والأوهام حتى قال ابن مهدي: حديث أهل الكوفةِ مدخول. وقال الزهري: ما رجت إلى الشامِ إلا لأستغنيَ من حديثِ أهل الكوفة. مع أنَّ في حديثِ أهل الشَّام قليلة الاتصال واهتِمامُهم على أحاديث الترغيب. وأمًّا رويَ عن المهدي أنه سئل عن أهل الحجاز فأرتبهم ثم أهل البصرة ثم أهل الكوفة فلمَّا سئل عن حديث أهل الشام فنفض ثوبه فهذه روايةٌ لا تصحّ وفيه راوٍ كذّاب.
* السببُ في انتشار هذا العلم في البصرة من أيِّ مكانٍ غيره ؟
(1) كثرةُ الروايةِ في البصرةِ والأخطاءِ والأوهامِ, وهذا لا يطعنُ في حديثِ أهل المدينة بل هو مدحٌ لهم, حيث إنَّ حديثهم كانَ نقيََا, وذلك أنَّ التدليس عندهم قليلٌ جدّاً, بل غالبُ المدلِّسين الكوفيّون ثمَّ البصريّون.
(إِشْكَالٌ) لِمَ لمْ يُقلْ بأن العلمَ انتشرَ من عندِ الكوفيّين مع قولِنا بأنّ الخطأَ فيه أكثر ؟
أجيبَ: أنّ أحاديث البصرةِ أكثر من أحاديث أهل الكوفة, ومن ثمّ كثرت الروايات والطرق عند البصريّين, فحينئذٍ يتسنَّى لهم تحقيقَ الحديث وتنقيحه فيسهل النقدُ, بخلاف ما إذا كانت الأحاديث قليلة عن أهل الكوفة فسيصعبُ تنقيحه من العلل.
(2) وجودُ النقَّاد الحفًّاظ في أهل البصرة, فمثلاً: أبو حنيفةَ يردّ الحديث الذي يخالف الأصول! وهو من منهجٌ سائدٌ عند أهلِ الكوفةِ, وأوّل من ابتدأه "إبراهيم النخعي" ثم انتشر عندَ بقيّة التلاميذ.
( الخُطُواتُ لمَعْرِفَةِ العِلَلِ فِي الأًَحَادِيثِ )
(1) جمعُ طُرُقُِ الحَديثِ كلِّها, وهو "علم التخريج" : عزو الأحاديث إلى المصادر الأصلية, وكلما كان الجمع أكبر كلما كان التعليل أصحّ وأدقّ, وبعضُ الأحيانِ قد تستغني عن بعض الطرق بعد الجمع فقد يكون البيهقي وابن عساكر روى حديثا من نفس طريق أبي داود ما لم تحتج إلى ذكره حتى تميّز بين الروايات إن وجد خطأً أو تصحيفاً أو زيادةً, ولكن الأولى في بداية الأمر جمع كل طرق الحديث بلا استثناء, وأمَّا الاستكثار من الطرقِ فيما بعد فهذا لا ينبغي, لكن جاءت فهارس للكتب أصبحت الهمةُ تقلّ أقلّ فأقلّ, ثم جاء الحاسوب فأصبح الاستكثار من المصادر لا لذّة فيه أبدا, خلال دقيقة تجمع كل الطرق من جميع المصادر, وليس معناه عدم الاستفادة من الحاسوب, بل هو مهمّ جداً إذا كان مقتصراً على تحقيقِِ أمرٍ معيّن أو تخريج عشرات الصفحات, أما أن تكابدَ بين الحاسوب فلن تستفيدَ سوى القليلِ.
(2) مُلاحَظَةُ الفُرُوقِِ بَينَ الرِِّوايَاتِ, في الإسنادِ وفي المتنِ, فإن اتفق ولم يوجد اختلافاً فهذا كافٍ وميسّر, أما إن كان ثمَّة اختلاف –وهو الأكثر- فيصدَّر البحث.
(3) تَقْسِيمُ الأَسَانِيدِ عَلَى الأَوْجُهِ والاخْتِلَافَاتِ, فحديث اختلف في رفعه ووقفه وفيها زيادة أو نقص, فأذكر الأحاديث التي فيها رفع بانفرادٍ, والأحاديث التي فيها الوقف بانفراد, والأحاديث أو الأسانيد التي وافقت بعضها بانفراد, والتي فيها زيادة أو نقص بانفراد, فحينئذ يتصوّر الباحث "طبيعة الاختلاف", فأحيانا بجرّد جمع الطرق يتّضح لك صحَّة الحديث أو سقمَه, كأن يتَّفقوا على رواية حديث, ويأتي رجل واحد فيخالفهم كلهم, لكن أحياناً يكون الاختلاف صعب ويحتاج لتدقيق وبحث, كأن يروي راوٍ الأحاديث على طرق تختلف كل منهما عن الآخر.
(4) تَحْدِيدُ مُلْتقَى الأَسَانِيدِ عُمَوماً ومُلتََقَى كُلِّ فَرْقٍ مِنْهَا, ويسمّيه أهل المصطلح: "مدار الحديث" أو "مخرج الحديث" .
مثالُه: حديث من رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس, فابن عباس انفرد برواية الحديث فيصبح بحثي مداره على روّاة ابن عباس. كذا إن انفردَ عكرمة ثم إذا انفرد سماك. فيجب تحديد المخرج الأساسي الذي حصلَ من الحديث الغلط, فإن لم أحدّده فلن تستطيع الحكم أو معرفة علَّة الحديث. فلو جاء حديثا من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرّة مرفوعا ومرّة موقوفا, فالواجب معرفة من أين حصل الخلل؟ أمن سماكٍ أو من روّاتِه؟ فإذا عرفت سَهُلَ الحكم على الحديث.
-وذُكر عن ابن سيرين أنه كان يقول "قال ابن عباس قال قال" فبعضهم ذكر أنه اصطلاحٌ خاص عن ابن سيرين في الحديث المرفوع إلى النبيّ –صلى الله عليه وسلم-.
(5) عَرْضُ الطُّرُقِ عَرْضاً كَامَلاً, إما أن تفرشها أمامكَ كلّها وهي طريقة المتقدمين كالدار قطني, أو أن ترسمَ شجرة تعينك على معرفة رجال الحديث كلهم وهي طريقة معاصرةٌ مفيدةٌ, ولكن بعد الممارسة تصبح غنيّة عن رسم الشجرة وتصبح عند الممارس ملكة .
(6) مُحَاوَلةُ التَّأمَّلِ والتَّحْلِيلِ لأَسْبَابِ الخِلافِ, -وهي التي تدلّ على وجود ملكة أو عدمها في التعليل- وهناك أربعةُ صور للخلاف:
أ- أن تكون الأوجه روايات متعدّدة كلها صحيحة لا وهمَ فيه.
ب- أن لا يصحّ منها إلا وجهٌ واحد والباقي خطأ.
ج- أن يكون عدد منها صحيحا ومنها ما هو خطأ.
د- أن يصلَ اختلافها واضطرابها إلى درجةِ عدم استطاعةِ التمييزِ والترجيحِ. وهو ما يُسمَّى بـ "الاضطراب".
(7) تحتاج هذه المرحلة الأخيرةُ إلى أمور مهمّة ثلاثة:
أ- مراعاةُ علمِ الجرح والتعديل عند النظر, من تعيين الراوي, فقد يكون مبهما, ثم تعرف ومن ولادته ووفاته وسماعه وإرساله ثم درجته العامّة في الجرح والتعديل (صدوق, له أوهام) ثم مرتبته الخاصة عند العلماء ثم اصطلاحاته الخاصة إن كانت له, كالإمام مالك إذا شكّ بالوصل والإرسال أخذ.., والحسن البصري أنه يحذف لفظ –النبيّ عليه السلام- فله حكم الرفع.
ب- محاولة تفسير سبب الاختلاف, فهل لأنها متعدّدة؟ ثم هل فيها وهم أو لا؟ هل يمكن درء الوهم؟ ومعرفة سبب الوهم تحتاج إلى قراءة طويل ومتمعّنة لعامة كتب الجرح والتعديل, لأنَّ أسبابَ الوهم لا حصرَ لها, لذا..فإنه يلزمكُ حينئذٍ معرفةُ "قرائن الترجيح" أشهرها "كثرة العدد" و "الأحفظ والأتقن" وهكـذا.
ج- النظرُ في أحكام النقَّاد وتعليلاتهم إن وُجِدَتْ, فحين دراستك لحديثٍ معيَّن فيه علل, فآخر المراحل "النظر في أحكام النقاد" هل اتفقوا في التعليل أو اختلفوا؟ فإن اتفقوا فلا مناص من أن تبحث عن السبب, ولا يحق المخالفة, وإن اختَلفوا حقّ الترْجِيح, فإنْ وجَد كلام عالمٍ واحدٍ ولم تجد له مخالفة وكانَ كلامُه صَحيحاً فلا يحق المخالفة إلا بدليلٍ معتبرٍ, واستثنوا كلامَ الإمامين البخاري ومسلم فيما صحَّحاه وفي الصحيح خاصةً, لأن الأمَّة أجمعت على قبول أحاديثهم إلا ما انتقدوا عليهما وهي يسيرة, فلو وجدتُ مدلِّساً يروي حديثاً في الصحيحين بالعنعنة وليس له رواية أخرى متًّصلة فهي محمولةٌ على الاتِّصال, فيلزَمُك الأخذُ بقولهم.
( صُورُ مَوقِفنا مِنَ الحَديثِ الَّذي فِيهِ كَلامٌ لأهْلِ العِلمِ )
1- إن اتفقوا ..على حكم كأبي زرعة وأبي حاتم وابن المديني والبخاري وابن ابن معين والدار قطني, فلا يحلّ ردّ كلامهم, حتى إني وجدتُ لأحد علماء الحديث تصحيحاً لحديث اتفقَ على ردّه أكثر من 11 عشر عالماً, وردّ قولهم بقول: تعليلهم ليس بوجهٍ !! .
2- إن اختلفوا .. فمن كانت عنده أهليّة الترجيح فيرجّح من أقوايل العلماء..ومن لم تكنْ عنده أهليَّة الترجيح فلا يحلُّ له الخوضُ في هذا بل يلزمُه "التقليد" بكَلامِ حافظٍ من الحفّاظ والنقَّاد ليس غير.
3- إن لم يجد إلا حكمَ ناقد.. ولم يجد له مخالفاً, فحينئذ " ما ظهرَ لنا فيهِ مأخذُ الحكم يحقُّ لنا أن نناقشَ هذا العالم في مأخذ حكمه " فلو قال العالم: هذا حديث منكر لأنًّ فيه فلاناً ضعيفاً وقد تفرّد في الحديث. فيبحث الباحث وينقش ويفتّش عن هذا الراوي فأجد أنَّ الراجح فيه أنّه " ثقة " ووجدت كلاما من النقّاد توثيقاً له فهنا يصحُّ لي المخالفة... وإن لم يتبيّن لي مأخذُ الحكم من كلامِ النَّاقد فلا يحلّ ليَ المخالفة.
مِثالُه: إسنادُ ظاهره الصحة فيأتي الإمام أبو حاتم الرازي فيذكر هذا الإسناد بنفس الطريق, وأنا أعلم أن أبا حاتماً يوثّق هؤلاء الرجال كلهم لكنه يقول عندئذٍ: هذا حديثٌ منكرٌ. فلا يَحلّ ليَ المُخالفةَ, لأنّ المعطيات التي عندَه مَوجُودةٌ عندي, وأبو حاتم الرازي لا يعارضُ في أنّ ظاهر السند يقتضي الصحّة, فلم يخالف هذا الظاهر إلا بدليل آخرَ, وهو أهلٌ بالاتفاقِ أن يعرفَ ما لا أعرفُ أنا وأن يفهم من التعليل ما لا أفهمه أنا.
فأنتَ إما أن تخالف أبا حاتم الرازي فتَتهمُه بذلك, وإمّا أن توافقه وتقولُ : هو لم يخالف إلا بعلمٍ وهو أهل له, فلا شكّ أن الخيار الثاني هو الأولى, وليست المسألة مبنيةٌ على التقليد أوْ غيره بل هي مبنية على العقل بالاستدلال فيجب اختيار أقرب الأمرين .
* ومثله في مسائل الفقه: فلو جاء حديث فقهي في حكمٍ معيّنٍ, فأجد أن أحْمدَ –ومن أصوله أنّ الأمر يقتضي الوجوب- يذكر هذا الحديث ويحكم على الحديثِ بالاستحباب, فلم يخالف أحمد أصلَه إلا بدليل أو علة لا نعلمها نحن.
ومن هنُا ينبغي لنا الحرصَ الشديد في البحثِ والوقوف عن أحكام وأقوال النقَّاد, وهذا متوفّر في هذا الزمن, فما بقيَ ممًّا يهمّنا كثيراً إلا بقيَّةً من "مسندِ البزّار" وأجزاءً من "العلل للدار قطني" فلا يُعذر طالب العلمِ حتى في البحث عن هذه المخطوطات .
فعلى ذلك قبل الحكم على الحديث يجب النظر في كتب العلل كلّها, فإن وافق أو خالف الحكم فإنه يعتبر نفسه مقصّراً أمام هؤلاء الجهابذة وكيفية التصدّي لهم.
وقال الذهبي عن راوٍ "مجهول" نقلاً فلامه الحافظ ابن حجر بقوله هذا وعدم نسبته للإمام الذي قال ذلك. وقال: هذا التصرّف ليس بجيد فإن النفْس إلى كلام المتقدمين أميل وأشدّ ركوناً. فانظر إلى كلام ابن حجر في مقابلة الحكم بأنه مجهول لا أكثر. أي: لا يُعرف حاله. مع أنّ الذهبي بمنزلةِ ابن معين من المتأخرين لأنه إمامٌ ناقدٌ (شرب الامام ابن حجر ماء زمزمَ حتَّى ينالَ حفظ الذهبي .
( أَسْبَابُ العِللْ الخَفيًّةِ )
وأسباب العلل الخفيّة قسمان: بعمد وبغير عمد .
* بعمد: كالتدليس, ويشمل كلاهما ما لو روى حديثاً بالمعنى لا باللفظ أو اختصره فأخطأ, فهو من وجه تعمد وهو الاختصار والرواية بالمعنى. ومن وجه من غير تعمّد وهو عدم علمِه بغلطه وعدمِ توقّعه ذلك.
* بغير عمد: وينقسم إلى قسمين:
أ- ضَبطُ صَدرٍ, وأنواع الوهم فيه على مراتب خمسة:
(1) النسيانُ, كان حافظاً للحديث ورواه على وجه الصواب ثم نسي. وهو قسمين:
أ- نسيان خاص, فينسى الثقة بحديث واحدٍ, ويكون متمكّن من بقية حديث.
ب- نسيان عام, فينسى كثيراً من حديثه, وهو ما يقع من "المختلط" –ما كان خطؤه أكثر من صوابه- فقد ينساه بالكلّية أو يخلّط في حديثه.
(2) سوء التلقِّي, وهو من لم يحفظ الحديث من يومِ سمع الحديث فلم يضبطه في صدره, وسببه: عدم الوعي التام أثناء سماعه من الشيخ أو أثناء كتابته الحديث. وهذا ما يعبّر عنه العلماء "سمع في حالِ المذاكرة" فالعلَّة عدم الحفظ ليس ذات الذاكرة, لأنه قد يكون صغيراً أو ليس بمجلسٍ للكتاب.
(3) من حفظ ثمَّ خلَّط, فيروِي على خلاف ما سمع وتلقّى, وسببه: البدعة أو الهوى, أوْ ضعفُ الحافظة أوْ عدمُ تعهّد المحفوظ بعد مدّةٍ من الزمن, أو الاختلاط, حتى لو كان حفظ الصغير, ولهذا قولهم "الحفظ في الصغير كالنقش في الحجر" إنما هو تشبيه في أن الصغر أقوى في ثبات الحفظ, لا في النسيان.
أمّا البدعة فكأن يعتقد أن علياَ أفضل من أبي بكر وعثمان, فلو جاء حديث في أنًّ أبا بكر أفضل من عليٍ فهو على حالتين/ إمَّا أن يردّ الحديث وإما أن يعتقد أنّ للحديثِ معنى يخالف الظاهر . وإما أن يكون مِن أهل السنة فينتهي الإشكال.
مثاله: حديث "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" –وفيه دلالة أن العمل من مسمّى الإيمان- رواه أبو حنيفة وأبو ليلى –وهم مرجئة الفقهاء يخرجون العملَ من مسمَّى الإيمان- فروياه "هذا جبريل أتاكم يعلمكم شعائر دينكم" فنبّه الإمام مسلم على هذه العلّة وقال: رووه بالصورة لأنه به يقوّي مذهبهم . ولا يقال إنهم تعمدوا الكذب, إنما وقعوا في الخطأ والوهم خاصّةً, وأنهما : سيئا الحفظ.
مثال آخر: ذكر ابن عديّ في ترجمة أحمد بن أزهر حديثا أن النبي قال "يا علي أنت سيد الأولين والآخرين" بإسناد ظاهره الصحّة عن ابن عبد الرزاق, فيعم ابن معين أنه يروى عن ابن عبد الرزاق فقال: من روى هذا الحديث عن ابن عبد الرزاق فهو كذّاب. فقام هذا الراوي في المَجلس: أنا رويتُ هذا الحديث. فلما عرف ابن معين صدقه أخبره أني أعلم أنكَ لستَ بكاذب. فقال ابن عديٍّ: عبد الرزاق من أهل السبق, وهو ينسب إلى التشيّع, فلعله شبّه عليه لأنه شيعيٌ. والهوى قد يُعذر في صاحبه, يجعل الإنسان لا يُحكّم عقله, لأن بحاجة في كل وقتٍ أن يسأل الله الهداية. وقال ابن معين: لو ارتدّ عبد الرزاق ما كتبنا حديثه. يقصد أن ثقتنا بعبد الرزاق وصحةَ أحاديثه فوقَ كلّ شيء.
(4) لا يحسن الرواية والاختصار, وهو بالمعنى الأعم: لا يستطيع الرواية بالمعنى ولها شروط كأن يكون - فقيها –فقيه النفس, وباختلاف العلماء- عالما باللغة, فإن كان دونه فإنه سيخطئ بالرواية غالباً.
(5) التساهل في الرواية وعدم الأخذ بالحديث, فهذا عند الرواية ورقم (2) عند التلقّي, وسببه: كسوله أثناء روايته بأن يكون في مجلس المذاكرة أو مشغولَ الذهن بأن يكون جائعاً أو مريضاً أو كثير التدريس, وهذا واقعٌ حقيقي عند المحدثين.
ب- ضبط كتابة, وأنواعُ الوَهم فيه أربعةٌ:
(1) عدم الإفادة من الكتاب, فراوٍ عنده الكتاب ولكنه متكل على حفظه, أو مفقوداً كتابه, أو ليس بين يديه, أو تُحرق كتبه, أو يعمي بعد بصره, أو يرحل فلا يحدّث من أصوله كما حصل مع معمر بن راشد .
(2) أن لا يكونَ الكتابُ صالحاً للإفادة, كأن يكون الكتاب غير مضبوط فيكتب بنقص حرف أو يبدّل كلمة عن كلمة, كما ذكروا "فلان يسمع من غير أن يقرأ ويكتب من غير ما سمع ويقرأ غير ما كتب" فهي مراحل الوهم
حتى قالوا: "لا تأخذ العلم عن صحفي" أي: صحاب الصحف. لأنها لم تكن مضبوطة ومنقوطة, خلاف هذا الزمن.
(3) أن يطرأَ على الكتاب ما يجعله غير صالح للإفادة, فالكتاب مضبوط, لكن طرأ عليه بأن يستعيره لأحد فيحرّف ويصحح فيه, أو يحترق الكتاب فيصبح يخمّن في رواياته.
(4) ضعف الاستفادةِ من الكتابِ, كأنْ يكون الكتابُ مضبوطٌ ومحفوظٌ من التغييرِ, لكنَّ القارئ لا يحسن أن يستفيدَ منه جيّداً, تجدُه يقرأُ سريعاً فلا يستوعب فهمهما ويتجاوز عنها.
( الأَدِلةُ والقَرائِنُ الَّتِي يُبنَى عَلَيهَا التَّعلِيلُ )
(1) الأّصْلُ عَدَمُ اجْتِمَاعِ الأَشْخَاصِ فِي الوَهْمِ, إذاً-الأصل أنّ المنفرد المخالِف واهمٌ- لأنَّ الصواب صورةٌ واحدةٌ, فإن اختلف الرواةُ مثلاً عن ابن سيرين في رفعه ووقفه وإرساله, فيتصوّر أن الوهم يتعدد تعدّداً لا نهايةَ له, من تغير المتن وقلبه وأحوالٍ كثيرة. لأن الاحتمالات العقلية واردة. فإن جاء رجلٌ على صورة ثم جاء آخر على الصورةِ نفسها وكذا آخر فلا يتصوّر أن أحدهم واهماً! لتوافقهم! لِذا... قبل العلماء روايـة الضعيف خفيفَ الضعيف إن جاء بنفسِ الوجه الذي رواه به الثقة. ومن القرائن في هذا : تقديم رواية العدد على رواية الواحد. ومن القرائن في هذا : تقديم الوجه الذي يشهد لمعناه وجهٌ آخر وإن كان غير موافق له تماماً .
مثَالُه: حديث قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر في قصةِ إرث الجدّة فقد رواها مالك عن الزهري عن إسحاق بن خرشة عن قبيصة عن محمد بن سلمة والمغيرة . فكلّ تلاميذ مالك رووها في وجهٍ غير هذا -يعني من غير ذكر إسحاق!- فالظاهر أنّ الصواب روايةُ الجمع, لكن جاء ابن عيينة فروى الحديث عن الزهري عن رجل عن قبيصة, فهو لم يوافق مالكاً إنما أبهم هذا الاسم, حتى أن الترمذي قال عنها: والصوابُ رواية مالك. وجاء الدار قطني وقوّى رواية مالكٍ بروايةِ ابن عيينة. فهنا وافقه في صورة الرواية فهذا مطابقٌ للقاعدة.
(2) مَا يَصْعُبُ حِفْظُه أَوْلَى أنْ يَكُونَ صَواباً, إذاً -ما يسهل حفظه أولى أن تذهبَ الأوهام إليه- وصورته: قال بعضهم "سلوك الجادة" والمعنى: أن هناك أسانيد مشهورة مثل "الزهري عن ابن المسيب عن ابن عمر" فلو أتى الراوي وقال "الزهري عن إسحاق عن قبيصة" فهذا في الغالب لا يأتي به الراوي لأنه غريب عن بقيّة الأسانيد . قال أحمد بن حنبل: "أهل مكة إذا أخطئوا قالوا: ابن المنكدر عن جابر لأنه أشهر الأسانيد عندهم. وأهل البصرة إذا أخطئوا قالوا: ثابت عن أنس لأنه أشهر الأسانيد عندهم. ومن القرائن في هذا : وجود الاسم الغريب في السند يدل على حفظ راوي, لأن غرابةِ الاسم تقتضي نسيانه. فرجل يقول "شعيب" والآخر "شعيش".
(3) قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى ضَبْطِ الرَّاوِي بِجُزءٍ مِنَ الحَدِيثِ مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ غَيرُه يَشْهَدُ عَلَى صِحَّةِ الجُزْءِ الَّذِي لَا نَجِدُ دَلِيلاً عَلَى ضَبْطِه فِيهِ. وصورته: الحديث الذي يثبت أن الراوي قد ضبط جزءاً منه هذا أولى أن يكون قد ضبطَه كاملاً, بخلاف ما يثبت من أن أحداً اختلّ في ضبط جزء من الحديث, أولى من أن يخطأ في بقيته.
مثالُه: ذكر الدار قطني اختلاف سفيان بن عيينة وحماد بن زيد في سند ومتن, فقام الدليل على صحة راوية سفيان في السند, وقام الدليل على صحّة رواية حمّاد بن زيد في السند والمتن, فالأخذ بمن أصاب في- جملة الحديث - أولى من أخْذ مَن أخْطأ في بعضه .
(4) الأَحْفظُ عُموماً أَوْلَى مِنَ الأَقلِّ مِنْهُ, -وكلهم حفّاظ ثقات- فإذا كان نسبةُ احتمال خطأ الحافظ أقل من الثاني, وكلما احتمال نسبة الخطأ أقل من الآخر قدّمت روايته, ولكن قد تُقدم رواية الأقل بالقرائن كأن يكون قد ضبط أحد الوجهين كما حصل بين سفيان وحماد أو يكون قد حفظ الأصعب.
(5) وُجُودُ سَببِ في القصةِ وَقُوةِ الحِفْظِ يُقدّم الرّوَايةَ عَلَى مَا لَا يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ السَّبَبُ, وصورته : الراوي الذي حضر القصة التي سببت رواية هذا الحديث كأن يكون بمجلس فيسأل أحد التابعين فأورد التابعي الحديث في هذا المجلس, ففي العادة القصص والحوادث تُحفّظ وترسّخ في الذهن الحديث, فالصحابي الذي حضر الواقعة يكون في حفظ الحديث والواقعة أقوى من الراوي الصحابي الذي يوري الحديث نفسّه, ويدلّه: أن عائشةَ وهَّمت بعضَ الصحابةِ في أحاديثَ لم يواقعها غيرها. ومن القرائن في هذا : أن يكون من أهل بيت الراوي, كأن يروي الابنُ عن أبيه فهو أقوى من رواية غيره من التلاميذ. ومن القرائن في هذا : أن يكون له اهتمام بالموضوع المعيّن, كأن يكون اهتمام تابعيّ في أحاديث المواريث فهو مقدَّم على غيره .
(6) المَحْفُوظُ أدْومُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنَ الوَهْمِ . وصورته: المحفوظ جيداً أدعى أن يثبت عليه الراوي على وجه واحد, أمّا روايته له على أشكالٍ مختلفة وأنواعٍ فهذا يدلّ على عدم الضبط والإتقان .
مِثالُه: أبو إسحاق السبيعي حدث بحديث "لا نكاح بلا ولي" بمجلسٍ واحدٍ بحضرةِ سفيان الثوري وشعبة مرسلاً وحدّثه في مجالس عديدة متصلاً فقدّم الترمذي ما رواه أبو إسحاقِ في (مجالس عديدة) على الذي رواه في (مجلس واحد) وإن كانَ بحضرة أوثق الناس فيه وهما (سفيانُ وشعبةُ) فهذا يدلّ أن هذا الذي كان يحفظه, أما روايته بخلافٍ في ذاك المجلس فلعله كَسِل أو غيرها من الأوهام التي سبقت.
(7) الأَصْلُ عَدمُ وَهْمِ المَقْبولِ, وصورته: أن يكونَ صوابه أكثرُ من خطأِه فلا يُخرج عن الأصل إلا بدليلٍ أقوى من هذا الأصل, وكلّما كان الراوي صوابُه أكثر من خطأِه كلمّا ضعفت القرائن التي تجعلنا نوهّمه, وكلّما كثُرتْ نسبة الخطأ وإن كان صوابُه أكثر كلما كانت القرائن أدْعى للحكمٍ بتوهيمه, وتجد كتاب الحفاظ كالزهري والسبيعي من الذين تدور عليهم الأسانيد –ممن روايتهم واسعة- يروون الأحاديث على أوجهٍ مختلفةٍ, فهذا مبنيّ على أنَّ الأصلَ في المقبول أن تكونَ روايتُه صحيحةً, وكلّما ضعفَ حفظه كلما كان أذهب عن قبول الأوجه المتعدّدةِ منه .
( قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ فِي التَّعْلِيلِ )
القاعدةُ : إذا اتّحد مخرجُ الحديثِ فالأصل عدم التعدّد إلا بدليل. وكلّما نَزَلَ مخرجُ الحديث في الإسنادِ كلما أصبح القول بالتعدد فيه أضعف وقويَ الأصل. وكلما اختلف مخرجُ الحديث كان الأصل فيه التعدّد إلا أن يدل دليل أنها قصّة واحدة.اه فعِندما تجد كل الرواة عن ثابت عن أنس فهو على وجهٍ واحد, وإذا جاء خلاف فلا يعتدّ به ما لم يثبت. فإن كان مخرج الحديث عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس, وكل الأوجه خلافه فلا يعتدّ بها ولا تعدد بالحديث, لأنَّه كلما نزل كان تقوية القول بأنه حديث واحد أقوى.
ولو وجد الحديث عن أنس من ثابت والحسن البصري وقتادة فهنا يحتمل لكل رجل حديثٍ, وقد يكون أبعد من هذا فيوجد عن عدة من الصحابة ابن عباس, ابن عمر, عمر, فيقوى القول بتعداد الحديث, ولكن إذا ثبتَ أنها قصة واحدة فيحتمل أنَّهُ حديثٌ واحدُ.
(شُبهَةٌ في القاعدة) ذكر ابن رجب أنّ هناك خلافاً منهجيَّا في التعليل بين الدار قطني وعليٌّ بن المديني ومن وافقه متعلّقة في قاعدتنا السابقة. وهو أنَّ الدار قطني: إذا وجد الحديث من وجوه مختلفة فإنه يعتبر الحديث واحد ويوهم ويصحّح. وعند عليُّ بن المديني: قد يقول هذا وهذا حديثٌ آخر ويحكم بالصواب. والحقُّ أن منهجهما واحدٌ ولا يختلفون البتًَّة في منهجهما ولا في منهج أهل التعليل, ونقول: لمَ يكن البخاري مثل شيخه؟ إن كان هذا صحيحاً ؟ والحقّ أن الخلاف يكون في التطبيق لا المنهج .
قال الإمام ابن رجب الحنبلي في "شرح علل الترمذي": واعلم : أن هذا كله إذا علم أن الحديث الذي اختلف في إسناده حديث واحد، فإن ظهر أنه حديثان بإسنادين لم يحكم بخطأ أحدهما .
وعلامة ذلك أن يكون في أحدهما زيادة على الآخر، أو نقص منه، أو تغيرٌ يستدل به على أنه حديث آخر، فهذا يقول علي بن المديني وغيره من أئمة الصنعة: هما حديثان بإسنادين .
وقد ذكرنا كلام ابن المديني في ذلك في باب صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الصلاة ، وكثير من الحفاظ كالدار قطني وغيره لا يراعون ذلك ، ويحكمون بخطأ أحد الإسنادين، وإن اختلف لفظ الحديثين إذا رجع إلى معنىً متقارب، وابن المديني ونحوه إنما يقولون هما حديثان بإسنادين, إذا احتمل ذلك وكان متن ذلك الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة : كحديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فالإمام ابن رجبٍ اعتبر خلافاً منهجيّا بين الإمامين, والصواب عدم التفريق, ويوضّحه مثال حافل, نذكره بإيجاز:
* ذكر الدار قطني في "مسند أبي هريرة" رقم حديث (2123) في رجم المحصنة :
وسُئِلَ عَن حَدِيثِ عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ، وشِبلٍ، قام رجل، فقال: يا رَسُولَ الله، اقضِ بَينَنا بِكِتابِ الله، فَقامَ خَصمُهُ، وكانَ أَفقَهَ مِنهُ، فَقالَ : أَجَل، وائذَن لِي، إِنَّ ابنِي كانَ عَسِيفًا عَلَى هَذا، وإِنَّهُ زَنَى بِامرَأَتِهِ. الحَدِيثَ.
فَقالَ : يَروِيهِ الزُّهْرِيُّ ،-إذاً الزهري هو مخرجُ الحديثِ- واختُلِفَ عَنهُ ؛ فَرَواهُ ابنُ عُيَينَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ, وشِبلٍ.
وخالَفَهُ يَحيَى بنُ سَعِيدٍ الأنصارِيُّ، وصالِحُ بنُ كَيسانَ، فَرَوَوهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ، ولَم يَذكُرُوا شِبلاً. –فالخلاف بين ابن عيينة وصالح بن كيسان ذكر شبل- وَكَذَلِكَ رَواهُ مالِكُ بنُ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ –بدون ذكر شبل- .
واختُلِفَ عَنهُ؛ فَرَواهُ أَبُو عاصِمٍ، عَن مالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن زَيدِ بنِ خالِدٍ ، وحدَهُ.
وَرَواهُ أَصحابُ المُوَطَّإِ –روّاة الموطّأ وهو كُثر, فمنها من الموطأ ومنها ما هو خارج الموطأ- عَن مالِكٍ، فَقالُوا فِيهِ عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ. –ذكر اثنين خلافا لعاصم الذي روى عن زيد بن خالد, فيظهر أن الذي ثبت رواية أبو هريرة وزيد بن خالد- وكذلك قال يُونُسُ بنُ يَزِيدَ، وابن جُرَيجٍ، وزمعة ، وابن أبي حفصة، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق. –فهؤلاء كلهم متابعون لمالك مخالفين لابن عيينة- وكذلك قال عَبدُ الأَعلَى، عَن مَعمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. –فهذه متابع آخر غير الطريق الذي سبق فأفرد القولَ فيها- وَخالَفَهُ يَزِيدُ بنُ زُرَيعٍ، فَرَواهُ عَن مَعمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَن عُبَيدِ الله ، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وحدَهُ. –فاختلفت رواية معمر- .
وَكَذَلِكَ رَواهُ عَمرو بنُ شُعَيبٍ، وبَكرُ بنُ وائِلٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُبَيدِ الله، عَن أَبِي هُرَيرةَ، وحدَهُ، وهُوَ مَحفُوظٌ عَن أَبِي هُرَيرةَ، وزَيدِ بنِ خالِدٍ، وأَمّا ما قالَهُ ابنُ عُيَينَةَ فَلَم يُتابَع عَلَى قَولِهِ عَن شِبلٍ. –فتبيّن أنه خطأ من ابن عيينه, حتى إنه وهّمه في السُّـنن- وَرَواهُ الماجُشُونُ ، وصالِحُ بنُ كَيسانَ ، ، وابن أَخِي الزُّهْرِيِّ ، وجَماعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَن عُبَيدِ الله ، عَن زَيدِ بنِ خالِدٍ وحدَهُ مُختَصَرًا.
وَرَواهُ لَيثُ بنُ سَعدٍ، عَن عُقَيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابنِ المُسَيَّب، عَن أَبِي هُرَيرةَ، ولَم يُتابَع عَلَيهِ، ولَعَلَّهُ حَدِيثٌ آخَرُ حَفِظَهُ عُقَيلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، والله أَعلَم انتهىُ.
فحكم أنه إسناد آخرَ تماماً, لا علاقة بالحديث مع أنَّ الموضوع واحدٌ وهو "حدّ الزنى" فاعتبر الدار قطني أنّه حديثٌ آخر, ومع العلم أنّ البخاري روى من طريق عبيد الله عن أبي هريرة وزيد من خالد فذكر الحديث... وروى حديثاً أخر من طريق ليث بن سعد عن عقيل عن الزهري عن ابن المسيّب عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قضى فيمن زَنَى ولم يحصن بنفيِ عام وإقامة الحدّ عليه. فانظر كيف أن الموضوع واحد ولكن اختلف اللفظ اختلافاً بيّناً, فذكرَه أبو هريرة مختصرا, فاعتبره الدار قطني حديثين فالذي قاله ابن رجب –رحمه الله- غلطٌ بيّن .
* وهل من الممكن أن يعتبروا حديثاً بألفاظ مختلفة فإنهم يعدونه حديثا واحداً, نعم يمكن هذا, وهَاكَ مِثالاً بَسيطا:
جاء عند البخاري في حديث له مواضيع كثيرة .. ففي بعض الروايات خلق آدم ورواية قصة وفاته ورواية كيف صفته ورواية كيف صلّت عليه الملائكة فحكم البخاري كلها أنه حديث واحد لأنه من رواية الحسن البصري عن بن ضمرة عن أبي بن كعب .
* كذلك من الأدلّة على تفريق الحديثين إن كانا مختلفين –وراجع "التاريخ الكبير" ففيه أمثلة كثيرة-:
قال ابن أبي حاتم الرازي: وَسَأَلتُ أَبِي عَن حَدِيثٍ: رَواهُ عمران القطان، عَن قتادة، عَن سعيد بن أَبِي الحسن، عَن أَبِي هريرة عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي قصة الغار.
ورواه أَبُو عوانة، عَن قتادة، عَن أَنَس، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مرفوعًا. قُلتُ لأبي: ما الصحيحُ؟ قالَ: الحديثان عندي صحيحان، لأنَّ ألفاظهما مختلفة. –فحكم أبو حاتم بأن القصة واحدة ولكنّ الحديثين مختلفين فسمعه الراوي من كليهما, وذكر الطيالسي الحديثين مختلفان, وذلك أن قتادة بن دعامة واسع الرواية لأنه كان يروي الحديث بأوجه كثيرة, وكان يضرب به المثل في زمانه, لا واسع الحفظ كشعبة حتى يتعرض له الوهم- .
(مَشَارِيعٌ تَجْعلُ للطَّالِبِ مَلَكةً أَثْناءِ قِراءِةِ كُتُبِ العِلَلِ)
1- محاولة دراسة الأحاديث التي وقع فيها الخلاف بين العلماء في التعليل, ككتاب "العلل لابن أبي حاتم" فتجد أحاديث يختلف أبو حاتم عن أبي زرعة في التعليل. فدراستها تبيّن وجه الاختلاف الدقيقِ بين الأئمة عموما . وهذا يماثلُ ما يسمّى في العصر الحديث بـ "الفقه المقارن" فتعرض أقاويل كل فريق مع أدلتهم, فتحاول أنت الترجيح بينها, فمن يدخل نفسه في مسائل الخلاف أو مع المجتهدين يرتقي ارتقاءً كبيراً .
2- محاولة استنباط قرائن الترجيح بين كلام العلماء مثالهُ: قال النسائي "حديث فلان أقوى لأنه أحفظ" فجعلَ زيادة الحفظ قرينة على الترجيح. أو يقول "فلان أقوى لأنه رواه سفيان وحماد" فجعل العدد قرينة في الترجيح. أو "فلان أخطأ لأنه سلك الجادة " وهي الأسانيد المشهورة مثل نافع عن ابن عمر وما شابهه, وهو الذي يسمّى حقيقةً " فقه العلل" .
3- أوهامُ المقبولينَ أو الثقاتُ. لأن الأصل في العلل بالمعنى الخاص –أخطاء المقبولين- فلو قال الدار قطني "رواه فلان ورواه فلان وخالفه فلان وفلان والصحيح رواية فلان". فلو جُمعتْ مثلاً فإنها تفيد فائدة كبيرة, فرجل طالب علم يدرس حديثاً كل رجاله من المقبولين, فيقول: لعلّهم وهمُوا؟ فيرجع إلى هذا الكتاب فيرتاح.
4- فائدة أكبر: معرفة طبقة الرواة عن شيوخهم. مثالُه: أقرأُ كتاب "العلل للدار قطني" كاملاً, فأقفِ في أنَّ يونس بن يزيد الأيلي وهم على الزهري ثلاثة أحاديث والباقية كلها صوابٌ عليه. وأنَّ عُقيل بن خالد وَهِم عن الزهري 20 حديثاً, فأيُّهمَا أقوى في روايةِ الزهري؟ بلا خلافٍ أنَّه الأول. فلو وجدتُ كلام أحد العلماء يقول " عقيل أقوى تلاميذ الزهري " أتذكر أن كتاب " العلل للدار قطني " له أوهام كثيرة, وأن أقلّهم "يونس بن يزيد الأيْلي" فأسْتدركُ على هذا العالم .
وهناكَ مشاريع كثيرة وقويّة تستفيدها أثناء قراءة كتب العلل, فلا ينبغي للطاالب أن يتغافل أو يتجاهل عنها .
(فَوَائِدُ حَدِيثِيََةٌ مُتَنَوِّعَةٌ)
* لا يصح نسبة كتاب "تفسير الأحلام" لابن سيرين, ومّما صح قليلٌ جدا, ووجد عن أحد التابعين أنه قال : سئل أحد التابعين عن 40 رؤيا ؟ فلم يجب إلا بأربع وما بقيَ قال فيهنّ "لا أدري" ! وانظر إلى حالِ المعبّرين اليوم تجده لا يُسأل إلا وعليه إجابة.
* معنى قولِهم "إسناد ضعيف والحديث صحيح" بأن يكون للحديثِ طرقاً, فيحكم الحافظ بأحد الطرق أنّ سنده ضعيفاً ويحكم بصحّة الحديث للطرقِ الأخرى التِي تقوِّيه.
* الإمام الترمذي وإن كان متساهلاً في الحكمِ على الأحاديث لكنّه من الأئمة المعتمد في تصحيحهم وتضعيفهم.
* الأصحّ في نسبة كتاب "السنن الصغرى" إلى الإمام النسائي . * معنى قولهم "على شرط الشيخين" أي رجاله رجال البخاري ومسلم . * إتقان الحرفة هو أفضل البرامج, وفيه إمكانية بحث ممتازة .
* ابنُ أبِي حاتمٍ أخذَ كتاب "التاريخ الكبير" للبخاري وبرز أهمّ ثلاثة العلوم فيه فجعل الجرح والتعديل لمعرفة الرواة وجرحهم وتعديلهم, وأخذ المراسيل فألَّفَ كتاب "المراسيل" وأخذ العلل فأخذ كتاباً منفردا سمَّاه "العلل" فرأى أنّ فصل هذه العلوم أفضل, فاستفاد من كتاب البخاري استفادةً بالغةً (ولم يكن يدّعي أن هذا الكلام من السرقة أو الاعتداء بل صريح مقاله يدلّ بقوله أن مستفيد من البخاري, , ويدله أنه كتب أخطاءً وقع فيها البخاري منه ومن أبيه وابن خاله, ونبّه عليهَا.
* قول أنَّ " صحيح مسلم " كلُّه لبيان العلل أو غالبُه, فغير صحيح, ولكن القولُ بأنَّه يذكر أحاديث ليبيّن فيها بعض علل الأحاديث لأن مسلم صحيح بل نصَّ على هذا في مقدمته.
* قولهم " مدار على فلان " لا تقتضي الغرابة أو التفرد, لأنها قد تكون من هذا الوجه لا غيره, أما التصريح بالغرابة فهذا يدلّ دلالة واضحة على التفرد.
* كتاب "التتبع على الصحيحين" للدار قطني في كتابه هذا. الأصلُ في كتابه أنه يرى ما ذكره من الأحاديث قد أخطأ البخاري ومسلم في إخراجها في الصحيح, وقد يذكر الحديث ليس من باب التعقّب عليهما, إنما ليبيّن أن هذا الحديث فيه علة –مع موافقته صحة الحديث- ولكنه نادر, وغالب ما أعلّه الدار قطني راجعة العلة فيه إلى السند لا المتن, فهو لا يخالف في الحديث كلّه, بل في هذا السند, وأحياناً في المتنِ فقليل, وبالعموم قد يكون الصواب مع الدار قطني وقد يكون الصواب مع البخاري, فعلى هذا يكون أقل القليل ممّا كان فيه صوابا, ومجوع الانتقادات " 20 " حديثاً , حتّى إن ابن حجر أحياناً يقف عاجزاً في رد شبهه للأحاديث كما صرَّح بذلك.
* أي نقد في المتنِ بالردّ إنَّما يكون هذا راجعاً إلى المتنِ لا محالةَ .
واللَّــهُ تَعالَــى أَعْلَــمْ