أبغض الحلال.. قصة قصيرة
بواسطة : هدى مهدي العوّى -
3 سبتمبر، 2021
أوشك نور الفجر أن ينبلج، إنه يوم من أيام الخريف، لكنّ روح هناء تائهة تبحث عن ذاتها وعن قلبها الذي أضاعته بين ركام الذكريات المؤلمة.
ليتني كالشمس تشرق كلّ يوم مهما غطّت عليها السحب، ومهما اشتدّت عواصف الأيام، لا تغيّر مسارها ولا يعجزها خذلان، ليتني أكون منتظمة مثلها وأعمل مثلها بانتظام، متى شئت دون حسيب أو رقيب.
ليتني أضحك وألهو وأرقص كما كنت فتاة دون قلق، ودونما خوف أو عناء.
تسللت خيوط الضوء فأضاءت الكواكب بالأنوار.
وقبل أن تغلق هناء نافذتها وتمسح دموعها، إذ دخلت عليها عمّتها بابتسامتها الحانية وروحها المرحة قائلة: صباح السعادة والهناء.
– هناء (بصوت تختلجه زفرة تكاد تميتها): وأيّ سعادة وأيّ هناء يا عمّتي؟!
رؤيتك فقط يمكن تكون سعادتي.
عذرًا عمّتي لتعكير صفو صباحك.
لم تتمالك دموعها وأجهشت بالبكاء مسفرًا عن ألم دفين بداخلها: إنني ضائعة فاشلة تعيسة.
لقد تحطّمت حياتي وأنا في بدايتها!
ليتني لم أتزوّج ولم أوافق على ابنك يا عمّتي!
أكرّر اعتذاري، لم أقصد الإساءة لكِ، فأنت لم تقصّري معنا بمجهوداتك.. أنت شيء، وابنك شخص آخر، لم يشبهك في شيءٍ أبدًا.
اقتربت منها وما زالت ابتسامتها تملأ وجهها الملائكي.
احتضنت كفّيها بيديها وأجلستها إلى جانبها بحافة السرير قائلة:
– لا تنعتني نفسك بالفاشلة، ولا تُشعري نفسك بالدمار والتعاسة، فأنتِ ما زلت في بداية الشباب.
وما يجري بينك وبين زوجك مجرّد مشاكل تحتاج فقط لبعض التفاهم بينكما.
– هناء (وهي تمسح دموعها): ما بيني وبين ابنك ليس مجرّد مشاكل، إننا وصلنا إلى الطريق المغلق، ولا يمكن أن نصل إلى نهايته.
التفاهم أو الاتفاق لنعيش مع بعضنا في سرور لن يحدث ولن يكون، والأفضل الانفصال، وهذا آخر قرار.
– العمّة (وقد أخفت ابتسامتها واحتقن وجهها):*
لن أجبرك على أن تكملي حياتك مع ابني، فسعادتك وراحتك تهمّني، وأنتِ ابنتي التي لم أنجبها وقد عوّضني الله بك؛ لأنّي لم أنجب البنات.
ولن أدافع عن ابني وأبيّن محاسنه أو أبرّئه من أفعاله المسيئة لك أو التي لا تعجبك.
هل تذكرين كم كنت سعيدة بخطوبتكما وبعد زواجكما كنت في غاية التفاهم، فما الذي تغيّر الآن وبعد إنجاب طفليكما.
حاولي أن تنظري للمشكلة بعقلك وأنتِ هادئة.
– هناء (بنبرة حادّة): بكلّ صراحة، لا أريد التفكير أو التراجع عن قراري! لقد مللت من مشاكله، أريد أن أعيش حياة هادئة كما كنت في بيت أهلي معزّزة مكرّمة، أعيش حياتي كيفما شاء.. لقد كنت كالأميرة، وبعد زواجي تغيّرت حياتي تمامًا.
إنه دائمًا ينتقد كلّ تصرفاتي وتربيتي لأولادي.
ويقارنني بكِ دائمًا، يُردّد: أمي مطيعة لوالدي وتكرّس حياتها لبيتها ولنا.
أمي لم تخرج دومًا، أمي.. وأمي و…!!
إنه يريدني نسخة منك، فهل يرضيك هذا يا عمّتي؟
أنا أحبّك كما أحب أمي.
ولكن لي شخصية مستقلة غير شخصيّتك، وحياة غير حياتك!
وكم كنت أتمنّى لو يكون مثل والدي بهدوئه وشخصيته الطيبة أيضًا، فلم أسمعه يومًا يقارن أمي بامرأة أخرى!!
– العمّة (ضاحكة): نعم، هذا سبب من أسباب، المشاكل!
يا ابنتي، أنتم جيل الحاضر تعوّدتم الدلال في بيت أهلكم، وهذا ليس عيبًا، ولكن إذا لم تتعوّد فيه البنت على تحمل المسؤولية ومواجهة مصاعب الحياة قبل الزواج، هنا تكمن الخطورة في هدم حياتها بسهولة.
والشيء الآخر، يا ابنتي، مقارنة والدك، وهو أخي، لم يكن زوجًا مثاليًّا أو ملاكًا كما تتخيّلين، لم يكن يخطئ ولم تكن بينه وبين والدتك مشاكل كأيّ زوجين في حياتهما.
ولكن بحكمة والدتك وصبرها وحبّها عرفت كيف تحتوي قلبه وروحه وتخلّصه من بعض العيوب التي تزعجها وتتغاضى عن بعضها.
فلا تقارني بين زوجك وبين والدك، فالفرق كبير والحياة مختلفة تمامًا.
ولكِ كلّ العذر أن تنزعجي بمقارنته لك بأن تكوني مثلي، فأنا وأنتِ من جيلين مختلفين، ولكنّه يريد أن يشعرك بمسؤوليتك كزوجة وأم، لكن خانه التعبير عن ذلك بسوء تصرفه من غير شعور منه، وليتك تكلّمتِ معي منذ بداية مشاكلكم ولم تكتمي ما في قلبك عنّي، فأنا مثل أمك، وأعيش معكم في بيت واحد، ولو عرفت ما يزعجك لا شك بأنني سأحاول إلفات نظره لخطئه الممقوت حتى لا يكرّره معك، ولكن ّالأوان لم يفت، يا عزيزتي، سأكلّمه ليعتذر إليك، فهو يحبّك ولا يرضى خسرانك بسهولة.
– هناء (وقد أشاحت بوجهها): ولكنّي غير مستعدّة للعيش معه بقية حياتي، أرجوكِ يا عمّتي، لا تُرغميني على الرجوع، فأنا لا أريد رجلًا يتحكم بقراراتي ويتسلّط على حركاتي.
أريد أن أعيش بحرية.
ولا تخافي على أحفادك من الضياع.
إنني كما تعرفين موظّفة وراتبي يكفيني، وسأعيش معهم بشقة مستقلة، ولن أقصّر معهم بشيءٍ، ولن أحرمكم من رؤيتهم.
– العمّة (متأوّهة بحرقة): آهٍ يا بنتي، لم أتوقع منك هذا العناد!
قالتها بمرارة وهي تقف مستعدّة للخروج من الغرفة، لكنّها توقفت وواجهتها وكأنّها تريد أن تحسم معها الكلام:
اسمعي يا هناء، قبل أن تفكري بنفسك، أعيدي النظر بأطفالك، وكيف يمكن أن يعيشوا بين والدين منفصلين، فأنتِ يمكن أن تتزوجي رجلًا آخر، كما أنّ والدهم لن يعيش طويلًا بدون زوجة أخرى، فكيف سيكون وضع ولديك؟
والشيء الآخر، لا تفكري بأنّ أحدًا خالٍ من العيوب والنقائص الأخلاقية، فلو كلّ زوجة قرّرت الانفصال عن زوجها مثلك والكثير أمثالك من البنات المدلّلات في هذا الوقت، لما كانت هناك بيوت عامرة، ولا استقرار لأيّ عائلة.
وقبل أن أتركك، سأعطيك شيئًا بسيطًا وهو آخر طلب منّي لك!
– هناء (بلهفة وصوت خجول): وما هو طلبك؟
– العمّة (وهي تغادر الغرفة): لحظة، وأعود إليكِ!
شعرت هناء بالتوتر خوفًا من أن ترجع عمّتها مع ولدها وتحاول التصالح بينهما وهي غير مستعدّة لذلك، فقد حسمت أمرها وتستعدّ للملمة مقتنياتها وحزم حقائبها والذهاب لبيت أهلها.
لم تتأخر عمّتها في الرجوع، فدخلت الغرفة وبيدها كراسة ملونة وقلم، وقدّمتها لها قائلة:
تفضّلي يا ابنتي، هذا الدفتر، دوّني فيه الأشياء التي أحببتها وأُعجبتِ بها في زوجك بداية حياتكم.
وفي الصفحة الثانية صفاته الطيّبة حاليًا.
فمهما كان له وجه مظلم في نظرك فلا بُدّ أن يكون له وجه آخر مضيء، حاولي أن تكوني صادقة مع نفسك وأنت تدوّنين ما تكتبين.
وفي الصفحة الثالثة، دوّني عيوبه التي لا تستطيعين تحمّلها، وما هي أسبابها، ولا تبرّئي نفسك من بعض أسباب تلك المشاكل، وقارني بين كلّ ما تكتبين، ويمكن أن تستعيني بأحد يساعدك على تخطّي تلك العيوب والمشاكل، وإذا كان هناك أسباب مخفية يهين بها كرامتك أو يعنّفك ويضربك أو يهدّد استقرار حياتك، فهنا يجب أن تكون معه مواجهة حازمة وأنا أول من يقف إلى جانبك!
– هناء (بلهجة جادّة): لا، يا عمّتي: أحمد لم يهن كرامتي ولم يضربني ولم يقترب من أيّ محرّمات، لا سمح الله، ولكنني لا أشعر بحبّه كما كنت سابقًا، ولا أستطيع تحمّل سلطته كزوج.
وقد اتفقنا أن ننفصل بهدوء ودون مشاكل، فوافق دون تردّد، وهذا ما جسّد لي خيبة الأمل.
فالإصرار على الطلاق كان مريحًا له.
– العمّة (ناظرة لهناء نظرة غضب): أنتِ متسرّعة يا هناء.
ألم تعرفي أنّ الرجل الشرقي نادرًا ما يُظهر عاطفته وإعجابه لزوجته، خصوصًا إذا شعر بأنّ تلك الزوجة بها بعض الغرور والاستعلاء.
فكبرياؤه لا يسمح له بالخضوع لها كما نراه فيما يُعرض على شاشات السينما والتلفاز.
وزوجك يتألم من قرارك، ويصعب عليه فراقك وتشتّت أولادكما، ولكن لا يحب أن تعيشي معه مجبرة.
ولكن أقول لكِ كلمة أخيرة:
إنّ القرارات المصيرية كالزواج والانفصال لا تتّخذ بالسهولة والاستعجال، ولكلّ مشكلة حلّ، وآخر الحلول هو الطلاق.
وقد حلّله الله لرحمته وعدله ورأفته بهم لكنّه أبغضه لحكمة يعلم بها؛ لما لها من الآثار السلبية على جميع الأطراف، خصوصًا إذا كانت المشاكل مجرّد توافه حياتية تحتاج فقط لبعض الصبر وقليلًا من التنازل والتفاهم بهدوء بعيدًا عن المؤثرات الخارجية، ومن خلالهما تتجدّد الرحمة والمودة بينكم.
فالحياة الزوجية لها قدسية عظيمة تستحقّ الحفاظ عليها وتخطّي صعوبة الظروف والوصول بها لبرّ الأمان