هو الإمام الفقيه الأمير أبو سعيد أبان بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبْد شمس القرشي الأموي المدني، ولد رضي الله عنه في المدينة المنورة حوالي سنة 20هـ، أمه أم عمرو بنت جندب بن عمرو بن حممة بن الحارث الدوسي، وكنيته: أبو سعيد، قال ابن سعد: "فولد أبان بن عثمان سعيدا، وبه كان يكنى".
وقد نشأ أبان في كنف أبيه، الخليفة الراشد عثمان بين عفان رضي الله عنه، أحد السابقين إلى الإسلام والمبشرين بالجنة والذي كانت تستحيي منه الملائكة كما أخبر الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فهو من كبار الصحابة وفضلائهم، وبيته من أصلح وأطهر البيوت، في أصلح وأطهر بيئة على وجه الأرض في ذلك الزمان، وهي بيئة المدينة المنورة، في هذا الجو وتلك البيئة وذلك البيت -حيث الصلاح والتقى- نشأ أبان وتعلم.

أبان بن عثمان .. منزلته العلمية
كان لهذه النشأة الطيبة أثر كبير في تكوين أبان بن عثمان العلمي والفكري، حتى أصبح من كبار فقهاء التابعين، وعلماء المدينة المعدودين والمشهورين، قال عمرو بن شعيب: "مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ". وكان عالمًا تقيًا ورعًا، قال بلال بن أبي مسلم: "رَأَيْتُ أَبَانَ بن عُثْمَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ قَلِيلا".
وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان: "كان فقهاء المدينة عشرة"، قلت ليحيى: "عدهم"، قال: "سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم، وسالم، وعروة بن الزبير، وسُلَيْمان بن يسار، وعُبَيد الله بن عَبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيب، وأبان بن عثمان، وخارجة بن زيد بن ثابت".
وكان أبان بن عثمان من أعلام رواة الحديث الشريف، وكان ثقة، وله أحاديث، فقد روى عن أبيه رضي الله عنه وغيره من كبار الصحابة، مثل: زيد بن ثابت وأسامة بن زيد رضي الله عنهم.
قال العجلي: "مدني تابعي ثقة، من كبار التابعين". ووثقه ابن حبان، وقال: "يروي عَن أَبِيه، وَكَانَ من أعْلَم النَّاس بِالْقضَاءِ، روى عَنهُ الزهري".
روى له مسلم في صحيحه (باب جواز مداواة المحرم عينيه، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبه)، وروى له الترمذي وأبو داوود وابن ماجه، ففي الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن أبان بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ«»" فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ ؟! فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا[1]. ().
وروى ابن سعد عن الْحَجَّاجُ بن فُرَافِصَةَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبَانَ بن عُثْمَانَ، فَقَالَ أَبَانُ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، عُوفِيَ مِنْ كُلِّ بَلاءٍ يَوْمَئِذٍ". قَالَ: وَبِأَبَانَ يَوْمَئِذٍ الْفَالِجُ، فَقَالَ: "إِنَّ الْحَدِيثَ كَمَا حَدَّثْتُكَ، إِلا أَنَّهُ يَوْمَ أَصَابَنِي هَذَا لَمْ أَكُنْ قُلْتُهُ".
كما تتلمذ على يدي أبان بن عثمان كثيرون من كبار المحدثين والفقهاء، أمثال: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أستاذ إمام المؤلفين في السيرة النبوية وعمدتهم، ومحمد بن إسحاق المطلبي، وعامر بن سعد بن أبي وقاص وهو من أقرانه، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار المكي، وابنه عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، وميمون بن مهران، ونبيه بن وهب، ويزيد بن هرمز المدني.
ومن تلاميذه كذلك عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، روى ابن عساكر عن الإمام مالك، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن أباه كان يتعلم من أبان بن عثمان، قال مالك: "كان أبان علم أشياء من القضاء من أبيه عثمان".

ولاية أبان بن عثمان على المدينة
كان أبان بن عثمان ممن وفد على عبد الملك بن مروان، فولاه المدينة سبع سنين من سنة 75هـ إلى سنة 83هـ، ووفد على الوليد بن عبد الملك وولي إمرة موسم الحج، روى ابن سعد عن شيخه الواقدي: "كَانَ يَحْيَى بن الْحَكَمِ بن أَبِي الْعَاصِ بن أُمَيَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَامِلًا لِعَبْدِ الْمَلِكِ بن مَرْوَانَ، وَكَانَ فِيهِ حُمْقٌ، فَخَرَجَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَافِدًا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذَنٍ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَقْدَمَكَ عَلَيَّ بِغَيْرِ إِذْنِي؟ مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: أَبَانُ بن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ. قَالَ: لَا جَرَمَ، لَا تَرْجِعْ إِلَيْهَا. فَأَقَرَّ عَبْدُ الْمَلِكِ أَبَانًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ عَلَيْهَا، فَعَزَلَ أَبَانُ عَبْدَ اللَّهِ بن قَيْسِ بن مَخْرَمَةَ عَنِ الْقَضَاءِ، وَوَلَّى نَوْفَلَ بن مُسَاحِقٍ قَضَاءَ الْمَدِينَةَ.
وَكَانَتْ وِلَايَةُ أَبَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَبْعَ سِنِينَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا سَنَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي وِلَايَتِهِ جَابِرُ بن عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ ابن الْحَنَفِيَّةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِمَا بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ وَالٍ، ثُمَّ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بن مَرْوَانَ أَبَانَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَوَّلَاهَا هِشَامَ بن إِسْمَاعِيلَ".

أبان بن عثمان .. عالم السيرة والمغازي
اشتهر أبان بن عثمان بالمغازي والسير فوق شهرته في الفقه والحديث، حتى أصبح من أساتذة هذا الفن الحائزين على ثقة العلماء، قال ابن سعد وهو يترجم للمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، قال عن شيخه الواقدي: "وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، وَكَانَ ثِقَةً قَلِيلَ الْحَدِيثِ إِلَّا مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ أَبَانَ بن عُثْمَانَ، فَكَانَ كَثِيرًا مَا تُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُنَا بِتَعْلِيمِهَا".
فهذا الخبر على وجازته يؤكد أستاذية أبان بن عثمان في المغازي والسير، فقد كان الحديث والمغازي والسير من أحب الأشياء إلى أهل المدينة، وإذا كانت مؤلفات أبان قد ضاعت -فما ضاع أو تلف من تراث الإسلام.
وقيل: إنَّ أبان بن عثمان دوَّن ما سمع من أخبار السيرة النبوية والمغازي، وسلمها إلى سليمان بن عبد الملك في حجة سنة 82هـ فأتلفها سليمان، غير أنها بقيت لنا -من حسن الحظ- رواياته وآراؤه في المصادر التي وصلتنا بروايات تلاميذه.

مرض أبان بن عثمان ووفاته
روى ابن سعد عن شيخه الواقدي عن خارجة بن الحارث قال: "كان بأبان وضح كثير، فكان يخضب مواضعه من يده ولا يخضبه في وجهه". ثم روى عن شيخه الواقدي قوله: "وكان به صمم شديد"، والوضح هنا: البرص، لذلك ذكره الجاحظ في كتابه "البرصان والعرجان والعميان والحولان"، فقال: "كان أحول أبرص أعرج، وبفالج أبان يضرب أهل المدينة المثل"، فيقال: "فالج أبان"؛ لشدته، وذكر الجاحظ في موضع آخر أن فالج أبان كان من النوع الذي يسمى الفالج الذكر، وهو الذي يهجم على الجوف، فكان يؤتى به إلى المسجد، محمولا في محفة (عربة).
وتوفي أبان بن عثمان في خلافة الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك (101- 105هـ) على أرجح الأقوال، وقال المزي وتابعه عليه الذهبي وابن كثير أن أبان بن عثمان توفي سنة 105هـ[2].

قصة الإسلام
[1] الترمذي: (3388)، وأبو داوود: (5088)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
[2] ابن سعد، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء البصري البغدادي: الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ=1990م، العجلي، أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح الكوفي: معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم، تحقيق: عبد العليم عبد العظيم البستوي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، السعودية، الطبعة الأولى، 1405هـ=1985م، ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ التميمي الدارمي البُستي: الثقات، طبع بإعانة: وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، تحت إشراف: الدكتور محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف العثمانية، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، الطبعة الأولى، ١٣٩٣ه‍=١٩٧٣م، 50. ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ=1995م، 356. المزي، أبو الحجاج جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ=1980م، 128. الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405هـ=1985م، 141. الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناءوط، وتركي مصطفى، إحياء التراث، بيروت، ١٤٢٠هـ=٢٠٠٠م.