أحمد الرياضي :
يجب أن نفكك الصدمة من أجل محاولة الاندماج في المجتمع بروح جديدة
يقول المؤلف والأخصائي النفسي أحمد الرياضي إن الأصل في الحياة أنها لا ترتبط بأي وباء أو حدث طبيعي، كل ما في الأمر أن مثل هذه الأحداث تضع الفرد أمام وضع يحتاج إلى المساءلة والتفكيك.
كتاب "كورونا: من نظرية الفوضى إلى اضطرابات الصدمة" صدر حديثا عن دار الريان لمؤلفه الكاتب والباحث المغربي الدكتور أحمد الرياضيلا يزال العالم مهموما بجائحة كورونا من زوايا عديدة لا تقتصر على الطب والصحة واللقاح والبحث عن علاج، وإنما أيضا تمتد لمجالات الاجتماع والسياسة والنفس البشرية التي تتفاعل مع حالة استثناء جديدة غير مسبوقة في الزمن الراهن.
كتاب "كورونا: من نظرية الفوضى إلى اضطرابات الصدمة"، يتضمن العديد من الأفكار والمواضيع التي تحتاج إلى القراءة، إنه نوع من الكتابة يحمل التعدد من أجل قراءة واقع نفسي اجتماعي في زمن كورونا، تعدد يحيلنا إلى البحث في التحليل النفسي، اللسانيات، الأنثروبولوجية، الصحة، المرض، سيكولوجية الأوبئة، التاريخ، الرواية وغيرها.
والتقت الجزيرة نت الدكتور أحمد الرياضي أستاذ علم النفس كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وأخصائي نفسي في كل من المركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا بالرباط سابقا، والمعهد الوطني للأورام السرطانية بالرباط سابقا، في حوار حول كتابه الجديد.
- في البداية دكتور، ما دوافع تأليف هذا الكتاب الذي يتماشى مع ما يعيشه الإنسان الحاضر؟
إن الكتابة كفعل وممارسة تعبير عن وضعيات اجتماعية تحتاج إلى التفكيك بمفهوم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، من هنا جاءت فكرة الكتابة عن وضع نفسي اجتماعي في ظل الحجر الصحي وحالة الطوارئ نتيجة فيروس كورونا.
كانت الفكرة هي أن أساهم ببعض المقالات العلمية تحاول قراءة وتحليل هذا المعيش النفسي الاجتماعي في زمن كورونا، وهو ما تم من خلال نشر عدد من المقالات توالت تباعا، حيث لقيت ترحيبا كبيرا من طرف المختصين والخبراء والعديد من القراء، في ظل هذه الرغبة القوية والحاملة لمشاعر النبل من طرف هؤلاء، فكرت في وضعها على شكل كتاب، وهوما تم بالفعل.
غير أنه لا بد من العودة إلى تلك التفاصيل التي أسست للفعل والكتابة، ذلك أن القراءة وسؤال الكتابة في حفريات فيروس كورونا في ظل حالة الطوارئ والحجر الصحي، جعلتنا نطرح بعضا من الأسئلة التي ترتبط بتلك الفوضى التي صاحبت ظهور الفيروس، مما يجعل العلم دوما في صراع مع المجهول، بشأن تفسير بعض الأحداث والظواهر والاضطرابات التي تنتجها الطبيعة، وهي في الكثير من الأحيان مفاجئة، الشيء الذي يؤدي إلى ظهور بعض الاضطرابات الصحية، عضوية كانت أم نفسية، لدى الإنسان.
من هذا المنطلق، زارني هذا الهم المعرفي رغبة في البحث عن جغرافيات مفتوحة على السؤال، كباحث وأستاذ في علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وأيضا كأخصائي نفسي ممارس في علم نفس الأورام، تمرس على مواجهة صدمات المرض وسيكولوجية الألم لدى مرضى الأورام السرطانية، خلال الممارسة النفسية بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا بالرباط سابقا، لكن قبل هذا وذاك كإنسان يسكنه حب الوطن، يرى أن الواجب يفرض عليه رسم بعض واجهات الأمل، لدى من يعيش صدمة التحول المفاجئ في الحياة اليومية، نتيجة فيروس يخلق الفوضى، تلك التي تولد اضطرابات الصدمة.
يتعلق الأمر بنظرية الفوضى لجيمس غليك التي تتمحور حول سؤال مركزي: هل يمكن لخفقة من جناح فراشة أن تحدِث إعصارا على الجانب الآخر من الأرض؟ تلك النظرية التي تحاول دراسة العواقب الوخيمة والتأثيرات السلبية التي يمكن أن تحدثها التغيرات السريعة والبسيطة في الحاضر على مستقبل الإنسان والطبيعة
بناء على هذا الهم المعرفي، كنت أبحث في كل القراءات الممكنة، رغبة في معرفة طبيعة إيقاع الموت الجماعي القادم من الصين، وهوما جعلني استحضر بعضا مما كنت قرأت منذ سنوات، يتعلق الأمر بنظرية الفوضى لجيمس غليك التي تتمحور حول سؤال مركزي، هل يمكن لخفقة من جناح فراشة أن تحدِث إعصارا على الجانب الآخر من الأرض؟ تلك النظرية التي تحاول دراسة العواقب الوخيمة والتأثيرات السلبية التي يمكن أن تحدثها التغيرات السريعة والبسيطة في الحاضر على مستقبل الإنسان والطبيعة.
بمعنى أنها توجهنا نحو فهم جديد وعميق للحياة والطبيعية، وتبين مظاهر وتجليات الفوضى في المعيش اليومي، بدءا بحالة تسونامي وظاهرة الاحتباس الحراري إلى فيروس كورونا.
هذه بعض من تفاصيل دوافع الكتابة عن واقع نفسي اجتماعي في زمن كورونا، مع توظيف مفاهيم ونظريات علمية بشكل علمي دقيق انطلاقا من استحضار تجربة طويلة من الممارسة النفسية في أحد المراكز الاستشفائية الجامعية الكبرى في المغرب.
- كيف قرأت الحياة إذن، في ظل جائحة كورونا، ولا نزال نعيشه حاليا من آثارها التي لم تنته بعد؟
الأصل في الحياة أنها لا ترتبط بأي وباء أو حدث طبيعي، كل ما في الأمر أن مثل هذه الأحداث تضع الفرد أمام وضع يحتاج إلى المساءلة والتفكيك، من خلال الاشتغال على آليات وتقنيات تتواءم مع مثل هذه الوضعيات حتى نتفادى الكثير من الاضطرابات النفسية، ونتمرد على تلك القيم التي أفرزتها الأجهزة الإلكترونية كما هو الحال في زمن كورونا، وكأننا ضد في الحداثة في نظر يورغن هابرماس، أو تلك الحداثة المعطوبة كما عنون محمد بنيس أحد الكتب، لا لشيء سوى لنجعل من هذا الحجر الصحي في زمن كورونا فضاء للتواصل على مستوى العلاقات الاجتماعية ونخلق من منصات التواصل ميدانا لبناء قيم جديدة، وليس ميدانا لنشر تفاصيل الجسد.
نظرية الفوضى لا تعني اللا عقلانية أوعدم الخضوع لأي قانون، بل إنها تعني وجود نظام صارم جدا لكننا لا نستطيع رؤيته.
- كتابك الجديد "كورونا : من نظرية الفوضى إلى اضطرابات الصدمة"، ماذا تقصد من نظرية الفوضى إلى اضطرابات الصدمة؟
إن نظرية الفوضى لا تعني اللا عقلانية أو عدم الخضوع لأي قانون، بل إنها تعني وجود نظام صارم جدا لكننا لا نستطيع رؤيته.
تلك النظرية التي تحاول دراسة العواقب الوخيمة والتأثيرات السلبية التي يمكن أن يحدثها وباء كورونا على مستقبل الإنسان والطبيعة. وما ينتج عن ذلك من تحولات جذرية في نمط حياة الأفراد داخل المجتمعات.
من خلال هذا الارتباط بين نظرية الفوضى واضطرابات الصدمة، حاولت توضيح أهمية دراسة السلوك الإنساني، بناء على آليات تساعد على البحث في الأسباب من أجل التشخيص فالعلاج، حتى لا تكون هناك آثار سلبية على نفسية الفرد، مما يخلف مضاعفات صحية واضطرابات نفسية لن تظهر تبعاتها الآن، بل فيما يستقبل من قادم الأيام وقد تغير مسار الإنسان.
ومنه يمكن القول إن فيروس كورونا يعيد صياغة مفاهيم جديدة انطلاقا من نظرية الفوضى، تلك التي تؤشر على أن كل شيء يسير وفق نظام معين، حتى لا تقع بعض الاضطرابات الاجتماعية السياسية في المجتمعات، الأمر نفسه بالنسبة للبنية النفسية عند الفرد على مستوى بناء الهوية.
- رأينا تجليا واضحا للآثار الاقتصادية الكبيرة للوباء، فهل هناك آثار سلبية أخرى كبيرة على الصعيد المجتمعي؟ وكيف ذلك؟
في ظل الخسارات والانهيارات القاسية والقياسية وحالات الركود في زمن كورونا، هناك من ينسى "الاثنين الأسود" و"الخميس الأسود "، ويستحضر مكر الآخرين حيث العمل على توظيف الأوبئة سياسيا لردع الهجرة والإرهاب وإغلاق الحدود.
بعيدا عن هذا التحليل حول لغة المال والأعمال والسياسة، يمكن القول إن المعيش النفسي الاجتماعي في زمن كورونا يحتاج إلى المساءلة والتحليل فالمواجهة، ذلك أن الارتباك والفوضى التي نتجت عن إعلان الحجر الصحي وحالة الطوارئ، خلفت الكثير من الاضطرابات النفسية الاجتماعية، مما استوجب اعتماد آليات تتبنى تحمل المواجهة.
من هذا المنطلق، وتماشيا مع جرأة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، حول تبني الموت من أجل التخلص من قلق الحياة رغبة في الحياة، حاولت أن أسائل في هذا الإطار موضوعا يعكس المعيش النفسي للأفراد والأسر، يتعلق الأمر بـ "سؤال الوجود: من صدمة الولادة إلى صدمة كورونا "، وذلك لمقاربة هذا الاجتياح لفيروس لا يعترف إلا بنفسه -وكأنه الجنون بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو- إذ يجعل الفرد أمام وضعيات نفسية مفاجئة نتيجة هذا الاقتحام.
حاولت في الكتاب الحديث عن ذلك المعيش النفسي الاجتماعي في زمن كورونا، معيش ولّد وضعيات نفسية صعبة، تتعمق وتترسخ عبرها فكرة الموت المؤجل، نتيجة الأحداث المفجعة والفيروسات المفاجئة، كورونا نموذجا . وهذا ما يؤجج الصدمات النفسية، أعنفها تلك التي تضعه في المواجهة فجأة أمام الموت، إذ لا معنى لحضور فكرة التأجيل، وكأن الموت مسألة وقت في نظر كورونا.
من هنا سنتبنى في هذا الكتاب آليات تحليل الخطاب على مستوى المفاهيم، والسيرورات، والآليات التي تبحث في دلالة ومعنى الاضطرابات النفسية المرتبطة بالصدمة النفسية، مع استحضار فكرة الوجود من أجل الحياة بدل الوجود من أجل العدم، وذلك من خلال تبني قيم ومفاهيم جديدة تعطي للحياة معنى جديدا بوجود الآخرين بعد زوال كورونا.
إن هذا المعيش الكوروني يستوجب آليات من أجل إنعاش العلاقات، إنعاش القيم، إنعاش الذات، في محاولة لتفكيك سؤال الهوية والذات، كل ذلك من أجل إعادة بناء العلاقات الاجتماعية، بمعنى آخر نفكّك الصدمة من أجل محاولة الاندماج في المجتمع بروح جديدة.
إن هذا المعيش الكوروني يستوجب آليات من أجل إنعاش العلاقات، إنعاش القيم، إنعاش الذات، في محاولة لتفكيك سؤال الهوية والذات، كل ذلك من أجل إعادة بناء العلاقات الاجتماعية، بمعنى آخر نفكّك الصدمة من أجل محاولة الاندماج في المجتمع بروح جديدة.
- في الختام، كيف يمكن تجنب الآثار السلبية لجائحة ما مثل كورونا، أو أي وباء في المستقبل؟
يتحدث الفيلسوف الفرنسي بول ريكور عن أزمة المعنى المكسور، في سياق فيروس كورونا يمكن الانسياق في السياق نفسه، ذلك أن إدراك المخاطر في زمن الأوبئة يؤدي إلى ممارسة سلوك البحث عن المعلومات حول طبيعة الفيروس، وأثر ذلك على الذات والجسد في علاقتها بالآخر، وهوما يساهم في تضخيم التمثلات الاجتماعية حول خطورة هذا الفيروس، وبالتالي ظهور العديد من الاضطرابات النفسية التي تضع الذات أمام البحث عن المعنى في الوجود من العدم.
من جانب آخر، فإن عنف التمثلات الاجتماعية حول فيروس كورونا، تولد حالات التوتر والارتباك والقلق والخوف والإحساس بتوهم المرض، وتعمق مأساة آخرين، حالات تسيطر على تفكير الفرد في الحياة اليومية قد تفقده القدرة على التركيز، وإلى توتر في العلاقة مع الآخرين.
إن مثل هذه الوضعيات النفسية المؤلمة تحتاج إلى المساندة النفسية، بناء على آليات وتقنيات علمية على مستوى العلاج النفسي، من طرف الأخصائيين النفسيين المؤهلين حتى لا نعمق هذا الانجراح النفسي.
وتختلف مثل هذه الحالات على المستوى النفسي من فرد لآخر لاعتبارات متعددة، تشكل البنية النفسية إحداها، حيث يستطيع الفرد من خلالها توظيف بعض ميكانيزمات وآليات التعامل مع مثل الوضعيات الحرجة كالمواجهة المتمركزة حول المشكل، ثم المواجهة المتمركزة حول الانفعال.
عكس ذلك يمكن الحديث عن العوامل المهيئة لظهور مثل هذه الاضطرابات النفسية الناتجة عن الصدمة النفسية لفيروس كورونا، على اعتبار أن الصدمة النفسية هي كل حادث يهاجم الإنسان والمحيطين به، في ظل اختراق الميكانيزمات الدفاعية.
وعليه، فإن الحديث عن الصدمة النفسية فيه الكثير من الحذر العلمي، ما دمنا لا نملك آليات من أجل التشخيص الذي ينبني على أسس تحترم خطوات العلاج النفسي، ولو أن هناك العديد من المبادرات، هنا والآن، تعمل على تقديم نوع من الدعم النفسي للأفراد الذين لديهم بعض الصعوبات النفسية، حتى لا أقول الاضطرابات النفسية، لأن التشخيص عن بعد فيه الكثير من المزالق.
ومع ذلك، يمكن البحث عن إستراتيجيات وآليات للتوافق النفسي والتكيف الاجتماعي، مع مثل هذه الصدمات النفسية، نتيجة هذه الفوضى التي تندلع من التمثلات الاجتماعية العنيفة والأحكام المسبقة حول مآلات الإنسان والطبيعة، وذلك من خلال وضع وصياغة برنامج دقيق يسهر على التدخلات النفسية، تشمل كل الذين يعيشون حالات نفسية جراء نظرية الفوضى التي تتحكم في السياق الوبائي.
وذلك عن طريق تقنيات المساندة النفسية خلال هذه الأزمة للتخفيف من الآثار السلبية، حتى نقلل من منابع إدراك الأحداث السيئة التي يحصل عليها الأفراد، من خلال متابعة الأخبار على مستوى القنوات العالمية، وأيضا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي الوصول إلى آليات تمكن من كيفية إدراك الفرد للعوامل التي تتحكم بالأحداث والمواقف التي يختبرها، والشروط التي تضبط أحداث البيئة من حوله وتوجهها، مع استحضار شيء أساسي وهو أن هذا الإدراك يختلف من فرد لآخر، كما يختلف أيضا في الفرد نفسه باختلاف الوقت واختلاف المواقف.
إن الدعم والمساندة النفسية يقلل من إدراك هذه الخبرات السيئة والمؤلمة، ويساهم في التواصل الاجتماعي الفعال، وذلك عن طريق التأكيد على الجوانب الإبداعية للفعل والتصور الإنساني كما تؤكد على ذلك الفينومينولوجيا، مما يؤدي إلى خلق نوع من التوازن النفسي ما بين الرغبات الفردية والحاجات الجماعية، وبالتالي تختفي تجليات العنف والصراع والخوف وتوهم المرض، من أجل معانقة الحياة من جديد بكثير من الأمل.