«سبايا الحسين»: وقفة لغوية
بواسطة : د. أحمد فتح الله - القطيف اليوم
27 أغسطس، 2021
مدخل
هل في تسمية نساء الحسين (ع) بعد الطف “سبايا” إساءة لهن، والأفضل تسيمتهن “أسيرات”؟ في الحقيقة، في لغة العرب في الجاهلية والإسلام، الأسرى هم الرجال، والسبي هم النساء والأطفال، والمعلوم يوم الطف قتل كل الرجال فلم يبق إلا النساء والأطفال، مع بعض الموالي (من الرجال)، مثل عقبة بن سمعان، وأطلق سراحهم. في الفقرات التالية نحاول الإجابة عن السؤال في بعده اللغوي، وأتمنى أن يكون فيها ما يفيد ويغني.
السبي والأسر
“السَبْيُ” و”السِباءُ”: “الأسْرُ”، وسَبَيْتُ العدوّ سَبْيًا وسِباءً، إذا أسرتَه. واسْتَبَيْتُهُ مثله. وسبايا جمع سبية، ولكون “السبي” هو “الأسر” نتناول مفردة “الأسر” أولًا كي نؤسس لمعنى السبي.
“الأسر” هو من الفعل (أَسَرَ)، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، بمعنى شَدَّهُ بِالْإِسَارِ (بِوَزْنِ الْإِزَارِ) وَهُوَ الْقِدُّ[1]، وَمِنْهُ سُمِّيَ “الْأَسِيرُ” وَكَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقِدِّ فَسُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ بِهِ وَ “أَسَرَهُ” مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَ “إِسَارًا” أَيْضًا بِالْكَسْرِ فَهُوَ “أَسِيرٌ” وَ “مَأْسُورٌ” وَالْجَمْعُ “أَسْرَى” وَ “أَسَارَى”.[2]
والأَسيرُ: من الجذر: ء س ر، الوزن: فَعِيل. وجمعه: أَسْرى قال الله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى} [الأنفال: 67]، وجمع الأَسْرى أُسارى وأَسَارى (بالضم والفتح). قال أبو عمرو بن العلاء: الأسارى: الذين في وَثاق، والأسرى: الذين في اليد، وإِن لم يكونوا في وثاق (شمس العلوم، نشوان بن سعيد الحميري، ت: 573هـ).
فالأَسيرُ: المأْخوذ في الحرْب (المعجم الوسيط)، أو الأخيذ وإن لم يشد بالإسار وهو المسجون، (معجم متن اللغة). ومن هذا قول جبران مسعود: “أسير: مَنْ قُبض عليه في الحرب وأخذ (معجم الرائد). ويقول ابن المبرد (جمال الدين أبو المحاسن الحنبلي، ت: 909هـ): الأسير هو مَنْ أُخِذَ من الأعداء سالمًا، ولعلَّ أصله من قَوْلِهِم لَهُ: “سِرْ”، أو من قوله هُوَ لَهُم: “أَسِيرُ مَعَكُم” (الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي: أسير).
السبي والسبايا
وَالسَّبْيُ الْأَسْرُ وَالِاسْتِرْقَاقُ وَهُوَ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ وَالسِّبَاءُ بِالْمَدِّ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا وَيَقَعُ السَّبْيُ عَلَى الْمَسْبِيِّ أَيْضًا وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالسَّبِيُّ بِالتَّشْدِيدِ اسْمُ الْمَسْبِيِّ أَيْضًا وَجَمْعُهُ السَّبَايَا. (طلبة الطلبة، النسفي، ت: 537هـ). وقد جاء في لسان العرب (ابن منظور، ت: 711هـ) التالي:
سبي: السَّبْيُ والسِّباءُ: الأَسْر مَعْرُوفٌ.
سَبَى العدوَّ وغيرَه سَبْيًا وسِباءً إِذَا أَسَرَه، فَهُوَ سَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ الأُنثى بِغَيْرِ هاءٍ مِنْ نِسْوة سَبايا.الْجَوْهَرِيُّ: السَّبِيَّة المرأَةُ تُسْبى. والسَّبْيُ: المَسْبِيُّ، وَالْجَمْعُ سُبِيٌّ؛ قَالَ:
وأَفَأْنا السُّبِيَّ مِنْ كلِّ حَيّ، ***وأَقَمْنا كَراكِرًا وكُروشَا
والسِّبَاءُ والسَّبْيُ: الِاسْمُ. ف السَّبْيُ: النَّهْبُ وأَخْذُ الناسِ عَبيدًا وَإِمَاءً، والسَّبِيَّة: المرأَة المَنْهوبة، فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ.
وسَبَى الخَمْرَ يَسْبِيها سَبْيًا وسِباءً واسْتَبَاها: حَمَلَها مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وجاءَ بِهَا مِنْ أَرض إِلَى أَرض، فَهِيَ سَبِيَّة؛ قَالَ أَبو ذؤَيب:
فَمَا إنْ رَحيقٌ سَبَتْها التِّجارُ ***مِنْ أَذْرِعاتٍ فَوادِي جَدَرْ
وأَما إِذَا اشْتَرَيْتَها لتَشْربَها فتقولُ: سَبَأْت بِالْهَمْزِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهَمْزِ؛ وأَما قَوْلُ أَبي ذُؤَيب: ” فَمَا الرَّاحُ راحُ الشَّامِ جاءَت سَبِيَّة “وَمَا أَشبهه، فَإِنْ لَمْ تَهْمِزْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ الجَلْبَ، وَإِنْ هَمَزْتَ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ الشِّراءَ.
والسَّبْيُ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ خاصَّة، إمَّا لأَنَّهنَّ يَسْبِينَ الأَفْئدَةَ، وإمَّا لأَنَّهنَّ يُسْبَيْنَ فيُمْلَكْنَ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ.
وسَبَاه اللَّهُ يَسْبِيه سَبْيًا: لَعَنَه وغَرَّبَه وأَبْعَدَه اللَّهُ كَمَا تَقُولُ لَعَنَهُ اللهُ.
وَيُقَالُ: مَا لَه سَبَاهُ اللَّهُ أَي غَرَّبه، وسَبَاهُ إِذَا لَعَنَهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: ” فَقَالَتْ: سَبَاكَ اللهُ إنَّكَ فاضِحي “أَي أَبْعَدَك وغَرَّبك؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
يَفُضُّ الطَّلْحَ والشِّرْيانَ هَضًّا، ***وعُودَ النَّبْعِ مُجْتَلَبًا سَبِيَّا
وَمِنْهُ السَّبْيُ لأَنه يُغَرَّب عَنْ وَطَنِه، وَالْمَعْنَى متَقارِب لأَن اللَّعْن إبْعاد.
شَمِرٌ: يُقَالُ سَلَّط اللهُ عَلَيكَ مَنْ يَسْبِيكَ وَيَكُونُ أَخَذَكَ اللَّهُ.
وجَاءَ السيلُ بعُودٍ سَبِيٍّ إِذَا احْتَمَلَه مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقِيلَ: جَاءَ بِهِ مِنْ مكانٍ غَرِيبٍ فكأَنه غَرِيب؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ يَرَاعًا:
سَبِيٌّ مِنْ يَرَاعَتِهِ نَفَاه ***أَتِيٌّ مَدَّهُ صُحَرٌ ولُوبُ
ابْنُ الأَعرابي: السَّبَاءُ العُودُ الَّذِي تَحْمِلُه مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، قَالَ: وَمِنْهُ السِّبَا، يُمَدُّ ويُقْصر.
والسَّبِيَّة: دُرَّة يُخْرِجُها الغَوَّاص مِنَ الْبَحْرِ؛ وَقَالَ مُزَاحِمٌ:
بَدَتْ حُسَّرًا لَمْ تَحْتَجِبْ، أَو سَبِيَّة ***مِنَ الْبَحْرِ، بَزَّ القُفْلَ عَنْهَا مُفِيدُها (انتهى)
نص ابن منظور هذا فيه الحقائق التالية، والتي تدعمها بقية المعاجم القديمة، قبله وبعده:
أولًا: السبي: الحمل من بلد إلى بلد
سَبَيَ يَسْبِي، الجذر: س ب ي، والوزن: فَعَلَ/يَفْعِلُ. السَّبْيُ: الأَسْر، والسَّبيّ. الجذر س ب ي، والوزن: فَعِيل: الأسرى المحمولون من بلدٍ إِلى بلد (شمس العلوم، نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ).
وسَبَيْتُ الخمرَ سِباءً، إذا حملتَها من بلد إلى بلد، فهي سَبِيَّةٌ. فأما إذا اشتريتها لتشربها فبالهمز ]سبئية[. والسَبِيَّةُ: المرأة تُسْبى (صحاح العربية، الجوهري، ت: 393هـ).
وسبى الخَمْرَ سَبْيًا وسِباءً، حَمَلَها من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، فهي سَبِيَّةٌ، (القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ت: 817هـ)، واسْتَبَى الخمر: حملها من بلد إلى بلد، (معجم الرائد)، و “خَمْرٌ سَبِيَّةٌ”: خَمْرٌ تُحْمَلُ مِنْ بَلَدٍ إلَى آخَرَ (معجم الغني)، قالَ أَبو ذُؤَيْبٍ: فما إنْ رَحيقٌ سَبَتْها التِّجا *** رُ مِنْ أذْرِعاتٍ فوادِي جَدَرْ وهي سَبِيَّةٌ، كغَنِيَّةٍ (تاج العروس). وَيُقَالُ فِي الْخَمْرِ خَاصَّةً سَبَأْتُهَا بِالْهَمْزِ إذَا جَلَبْتَهَا مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ فَهِيَ سَبِيئَةٌ (المصباح المنير، الفيومي، ت: 770هـ)، والسبيَّة: الجارية تسبى، وكذلك الخمر تحمل من أرض إلى أرض (مجمل اللغة، أحمد بن فارس، ت: 395هـ).
ومن الجلب والحمل، السَّبِيُّ، كغَنِيٍّ: العُودُ يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، فكأَنَّه غريبٌ. يقالُ: جاءَ السَّيْلُ بعُودٍ سَبِيءٍ؛ قالَ أبو ذُؤَيْب يَصِفُ يَراعًا: سَبِيٌّ من يَرَاعَتِه نَفَاه *** أتيٌّ مَدَّهُ صُحَرٌ ولُوبُ (تاج العروس)، وجاء [السيل] بعود سبي، إذا احتمله من بلد إلى بلد (مجمل اللغة، أحمد بن فارس، ت: 395هـ)، وفي تهذيب اللغة، يقول الأزهري (ت: 370ه): ]يقول[ أبو العبّاس عن ابن الأعرابيّ: السَّباءُ: العودُ الّذي يَحمله السَّيْلُ من بَلَد إلى بَلَد، قال: ومنه أُخِذَ السِّباء، يُمَدّ ويُقصَر. وكل شيء حمل من بلد إلى بلد فهو سبي، وكذلك الخمر… وقال
الشاعر في السيل:
تقضُّ النبع والشريان قضا *** وعُود السِّدر مقتضبا سبيّا
ثانيًّا: السبي: التغريب والإبعاد
ويقال: سباه: غربه. (مجمل اللغة، أحمد بن فارس، ت: 395هـ). وسَباهُ الله يسبيه، أي غربه وأبعده، كما تقول: لعنه الله. (صحاح العربية، الجوهري، ت: 393هـ) وما لَهُ سَبَاه اللهُ: أي غَربَه اللهُ. (المحيط في اللغة، الصاحب بن عباد، ت: 385هـ). وسبا اللهُ فلانًا: غَرَّبَهُ، وأبْعَدَهُ، (القاموس المحيط، الفيروزآبادي، والصحاح، تاج العروس). وماله سباه الله أي غربه. قال امرؤ القيس:
فقالت سباك الله إنك قاتلي *** ألست ترى السمار والناس أحوالي (أساس البلاغة، أبوالقاسم الزمخشري)، قال شمر ]سبَاك الله[: معناه: سَلّط اللهُ عليك من يَسْبِيك ويكون أَخذك الله (تهذيب اللغة).
ثالثًا: السبي: الإخراج
من السبي بمعنى إخراج الشيء من مكانه، يقال للدُّرةُ يُخْرجُها الغَوَّاصُ مِن البَحْر: السَّبِيَّةُ: قال مزاحِمٌ:
بَدَتْ حُسَّرًا لم تَحْتَجِبْ أَو سَبِيَّةً *** من البَحْر بَزَّ القُفْلَ عنها مُفِيدُها (مفيدها يعني بائعها: تاج العروس، أساس البلاغة)
رابعًا: السبي خاص بالنساء
وأخيرًا، يُخَصَّصُ السَّبْيُ بِالنِّسَاءِ (تهذيب اللغة، معجم الغني). والسَّبْيُ: النِّساءُ كُلُّهُنَّ، عن ابن الأعْرابيِّ إمَّا لأنَّهُنَّ يَسْبِينَ القُلُوبَ، أَو لأنَّهُنَّ يُسْبَيْنَ فيُمْلَكْنَ. ولا يقالُ ذلكَ للرِّجالِ؛ كذا في المُحْكَمِ (تاج العروس). وفي الموسوعة الكويتية (مجموعة مؤلفين) السّبي لغة هو مصدر الفعل سبَى، فيُقال: سبَى يسبي سبيًا وسِباء، ويعني السّبي الأسر، ويُقال له السبي والسباء، ويُقال للذّكر سبيٌّ والأنثى سبيّة والجمع سبايا، وأمَّا اصْطِلَاحًا: فَالْفُقَهَاءُ فِي الْغَالِبِ يَخُصُّونَ السَّبْيَ بِالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَالْأَسْرَ بِالرِّجَالِ. فَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: الْغَنِيمَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَقْسَامٍ: أَسْرَى، وَسَبْيٍ، وَأَرَضِينَ، وَأَمْوَالٍ، فَأَمَّا الْأَسْرَى فَهُمُ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً، وَأَمَّا السَّبْيُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ. وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الْمُرَادُ بِالسَّبْيِ: النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ (ص: 154).
استنتاج وخلاصة
السبي، في الأصل، هو: الجلب، والحمل من بلد إلى بلد، ومن أرض إلى أرض، والتغريب. وكلُّ هذا حدث للرَّكب الحسينى بعد واقعة الطف. ويؤكد على هذا المعنى أحمد بن فارس (ت: 395ه) بقوله: السِّينُ وَالْبَاءُ وَالْيَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ كَرْهًا. مِنْ ذَلِكَ السَّبْيُ، يُقَالُ سَبَى الْجَارِيَةَ يَسْبِيهَا سَبْيًا فَهُوَ سَابٍ، وَالْمَأْخُوذَةُ سَبِيَّةٌ. وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ تُحْمَلُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ (مقاييس اللغة). وفي رسالةٍ من عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) إلى يزيد بن معاوية جاء فيها: “ألا ومِن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهرُ العجيبَ، حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغارًا من ولده اليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس انَّك قهرتنا وانَّك تأمر علينا” (تاريخ اليعقوبي ج2، ص250، مقتل الحسين للخوارزمي ج2، ص87، “تذكرة الخواص” لسبط بن الجوزي نقله عن الواقدي وهشام وابن اسحاق ثم قال: وغيرهم)[3].
فعليه، إنَّ رد الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): “كذبتَ ولؤمتَ، ما ذاك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتأتي بغير ديننا”، على الشامي الذي قال في مجلس يزيد: “سباياهم لنا حلال” (الطبقات الكبرى، ابن سعد، ط. دار صادر، ج 5، ص 212)[4]، وكذا رد زينب بنت علي (عليهما السلام)، حسب الشيخ المفيد في الإرشاد، ج 2، ص 122[5]، فهو تأكيد الحقيقة التاريخية “للسبي”، وإن كان بالمعنى اللغوي (الحمل من بلد إلى بلد)، حيث هناك من أنكر السبي أصلًا (ولعلهم يقصدون بالمعنى الإصطلاحي)، وأما رد الإمام والعقيلة فهو تأكيد على هذا المعنى والمعاني الأخرى دون التبعات الشرعية (الأحكام الفقهية) لسبي غير المسلمات، من استرقاق وغيره، المترتبة على المعنى الاصلاحي[6]، بعيدًا عن جدلية شرعية السبي في الإسلام، وهي مسألة يطلبها المهتم في الأدبيات الإسلامية[7].
إضافة إلى كل هذا، وقبل هذا، قد تواتر في كتب المقاتل والسيرة الحسينية قول الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه: «شاء الله أن يراني قتيلا وشاء الله أن يراهن سبايا»، وقول أخته العقيلة زينب (عليها السلام)، مخاطبة جدها النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا محمداه بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفى عليهم ريح الصبا وهذا حسين محزوز الرأس من القفا مسلوب العمامة والردى»[8]. فإن كان القولان ينسبان للإمام والعقيلة دون أن يكونا قد صدرا منهما، فيكفينا التحليل اللغوي المطروح في هذا المقال، وإن هما قد قالا ذلك فهذا يدعم الأطروحة اللغوية هنا، وفي كلا الحالين: لا إساءة لنساء الحسين (عليه وعليهن السلام) بوصفهن “سبي” أو “سبايا” بحملهن كرها وبغيًّا إلى الشام.
وأما القول أن ليس في الإسلام سبي، بالمعنى الإصطلاحي، يكسره ما فعله بسر بن أرطأة (من قادة معاوية بن أبي سفيان أيام خلافة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). تذكر كتب التاريخ أن بسر بن أرطأة “أول من سبى النساء المسلمات و اقامهن للبيع” (“سيرة اعلام النبلاء” للذهبي ج 3، رقم :١١٨٠، ص١٢٠٢، “الإستيعاب”، ابن عبد البر: ج1، ص 161، و”تاريخ الإسلام” للذهبي ج3، ص 140، “أسد الغابة في معرفة الصحابه”، لإبن الأثير، (باب: الباء و السين) رقم: ٤٠٦، ص ١١٠-١١١)، وقد ورد أيضًا في كتب أخرى ك “تاريخ دمشق” لإبن عساكر، و”الغارات”، لإبراهيم الثقفي، وغيرهما.
ولمن يدفع هذه الحادثة وينكرها دفاعًا عن بسر بن أرطاة أو معاوية، الذي لا يثبت تورطه إلا بدليل، ما الذي يمنع أن تكون أول حادثة سبي في الإسلام هي سبي نساء البيت العلوي بعد كربلاء عام 61 للهجرة، حيث “خليفة” ووالي وقادة وجيش جرّار من المسلمين يسبون حرائرَ مسلمات جدّهنَّ رسول الله بالإسلام محمد بن عبد الله (عليه أفضل الصلاة والسلام) ويحملونهنَّ على القُتب من كربلاء إلى الكوفة إلى دمشق عاصمة “الخلافة الإسلامية”، والله أعلم ماذا كان سيجري لهن لولا ردة الفعل العنيفة والهائجة من قبل المسلمين، الذين مقتوه، وأبغضوه (“تاريخ الخلفاء”، جلال الدين السيوطي، ج 1، ص 158) وحق لهم أن يبغضوه.
الهوامش
[1] القِدّ هو السيرُ يُقَدُّ من الجلد، وفي الأصل لخصف النِّعال أو نحو ذلك (المعجم الوسيط). ومنه القول: هَذَا لَكَ (بِأَسْرِهِ) أَيْ بِقَدِّهِ يَعْنِي جَمِيعَهُ كَمَا يُقَالُ بِرُمَّتِهِ. القِدُّ السَّوْطُ، والجمع : أَقُدٌّ (المعجم الوسيط).
[2] وَالأِسر (بالكسر): الْخَلْق، كما في قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28]، أَيْ خَلْقَهُمْ، فأسره الله: خلقه. (مختار الصحاح، الرازي، ت: 666هـ).
[3] ينقل أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور الخراساني، ت: 280هـ، في بلاغات النساء: ص70، خطبة للعقيلة زنيب بنت علي (علهيما السلام) تخاطب يزيد قائلة له: “يا يزيد أما تخاف الله ورسوله من قتل الحسين؟ وما كفاك ذلك حتى تستجلب بنات رسول الله صلى الله عليه وآله من العراق إلى الشام! وما كفاك حتى تسوقنا إليك كما تُساق الإماء على المطايا بغير وطاء!” (انظر: هامشي رقم 4 ورقم 5، و8 أيضًا).
[4] نص ابن سعد:
“فلما أتي يزيد بن معاوية بثقل الحسين ومن بقي من أهله فأدخلوه عليه قام رجل من أهل الشام فقال إن سباءهم لنا حلال فقال علي بن حسين كذبت ولؤمت ما ذاك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتأتي بغير ديننا فأطرق يزيد مليًّا ثم قال للشامي: أجلس وقال لعلي بن حسين: إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقك فعلت وإن أحببت أن أردك إلى بلادك وأصلك، قال: بل تردني إلى بلادي فرده إلى بلاده ووصله”.
[5] نص الشيخ المفيد:
“قالت فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام): فلما جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا، فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية – يعنيني – وكنتُ جارية وضيئة فأرعدت وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون. فقالت عمتي للشامي: كذبت والله ولؤمت، والله ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت. قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضبا وقال: إياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلما. قال: كذبت يا عدوة الله. قالت له: أنت أمير، تشتم ظالما وتقهر بسلطانك، فكأنه استحيا وسكت. فعاد الشامي فقال: هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد: اغرب، وهب الله لك حتفا قاضيا.”
[6] هذه الأحكام بحق الكافرات وأمَّا المسلمات فلا يحكم برقهن (انظر هامش رقم [7] أدناه)، وما فعله يزيد واتباعه من سبي نساء البيت النبوي هو عمل لم يجيزه المسلمون وقتها، بل استقبحوه ورفضوه. ولعل هذا الشامي هو كغيره ضحية إدعاء الأمويين أن الذين قتلوهم (في كربلاء) قد كانوا على “دين غير الاسلام” (خواراج مثلًا) ليبرروا فعلتهم، ولكن فضحه الإمام زين العابدين (عليه السلام) والحوراء زينب (عليها السلام).
[7] ولا بد من القول أن القرآن الكريم لم يتطرق إلى “السبي” كخيار في التعامل مع “أسرى العدو”، وإنما ذكر خيارين آخرين معهم: وهما “المَنّ” أو “الفداء”، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. أمَّا ممارسة النبي (صلى الله عليه وإله وسلم) لها فهي محل خلاف بين الإثبات والإنكار، وأمَّا ممارسة المسلمين لها بعده فهي محل خلاف أيضًا، ولكن في التبرير والتدليل.
[8] ولعقيلة الطالبيين (عليها السلام) نص آخر: تخاطب يزيد وتذكر السبي والسَّوْق:
“أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي ولا رجالهن ولي” (اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص 106)، وروى هذه الخطبة: الطبرسي في “الاحتجاج”: ص 35، وابن طيفور في “بلاغات النساء”: ص 70، 73، وأبو سعيد الآبي في “نثر الدر”: ج 4، ص 26، وابن حمدون في “التذكرة الحمدونية”: ج 6، ص 262، رقم 631، والخوارزمي في “مقتل الحسين” (عليه السلام): ج 2، ص 64، ومحمد رضا كحالة في “أعلام النساء”: ج 2، ص 504، وابن نما في “مثير الأحزان”: ص 80).