إميل شكرالله
تنفق الدول العربية المليارات من أموال خزائنها الغنية بالإضافة إلى الملايين التي ينفقها الشعب المؤمن من قوته اليومي من أجل خدمة الدين.. فتبني دور العبادة الفاخرة في كل مكان وصوب.. وتقيم مراكز الدعوة والارشاد في كل بقاع العالم.. وتنشأ الجامعات والمعاهد الدينية لتخريج الآلاف من الدعاة ورجال الدين... وتنفق الملايين على برامج الدعوة في الراديو والتلفاز.. وتنفق الملايين في إصدار المئات من المجلات والجرائد التي تهتم بنشر الدعوة والتثقيف الديني.. وتدفع الملايين رواتب لرجال الدين.. وتنشأ الوزارات التي تهتم بشئون الدين.. وتقيم الاحتفالات والمناسبات الدينة التي تتكلف الملايين من الجنيهات... وتستلهك من ساعات العمل اليومي الكثير من أجل ممارسة العبادات.... وتنفق الملايين من أموال الشعب في طباعة الكتب الدينية والمجلدات الفاخرة التي تحتفظ بها الناس في منازلها في الحفظ والصون...
فهل هذه التكاليف الباهظة التي تنفق على الدين ساعدت الإنسان في الوصول إلى الحالة المثالية من التدين العاقل الذي يوازن بين متطلبات الدين ومتطلبات الحياة وأكسبته طاقات القيم الأخلاقية النبيلة ومكنته من تحقيق الرخاء والرفاهية لذاته وللمجتمع المحلي والمجتمع العالمي.
إن الواقع المعاش يظهر أن هذه السياسات قد استهلكت طاقات عقل الإنسان وهو ما لا يقدر بثمن في محاولاته لفهم سيل الفتاوى التي لا تنتهي ليل نهار، وتنهك طاقات التفكير في محاولاته البائسة اليائسة لفك الاشتباك بين المنقول والأثر، والواقع الذي يعيشه العالم في القرن الحادي والعشرين... ويعتصر العقل في محاولاته لوضع الحد الفاصل بين المنطقي واللا منطقي فلا يستطيع.. ويمعن النظر لرؤية الخط الفاصل بين الممكن واللا ممكن فلا يراه.. أو بين الحلال والحرام فلا يجد.. لقد تشابكت القيم النبيلة مع القيم الأخرى، واندمجت المفاهيم المقدسة مع الأخرى حتى أصبح العقل جثة هامدة غير قادر على التفكير الحر، ولا يستطيع الأقتراب من بوابة الأبداع.
تأملت في كل هذه المعطيات ووجدت أنها يمكن أن تكون نظرية علمية في غاية الأهمية. معطيات هذه النظرية يمكن تمثيلها في ثلاثة بنود أساسية: البند الأول هو وجود حالة دينية شاملة كاملة يعيش فيها الإنسان المؤمن. فنحن نأكل بالدين ونشرب بالدين ونلبس بالدين ونعمل بالدين، ندخل بالدين ونخرج بالدين، نتزوج بالدين.. نحب بالدين ونكره بالدين نقبل الآخر بالدين، ونرفضه بالدين نحاربه بالدين ونهادنه بالدين.. والخلاصة لم أجد شيئاً واحدا نفعله بدون غطاء ديني عقائدي، أيدلوجي، فقهى وتشريعي.
البند الثاني: هو نتاج الحالة التي يمثلها البند الأول.. فالعقل العربي بات مثل الجثة الهامدة، فاقد القدرة على التفكير الحر، وغير معني بالابداع والأبتكار ربما لعدم وجود القدرة أو لعدم وجود الرغبة في ذلك فقد أكتفي بما تمده به النقطة الأولى من غذاء.
البند الثالث هو نتيجة حتمية للبند الثاني وهو يمثل السلوك والأخلاق والمعاملات. فمن ناحية القيم الأخلاقية نحن بصدد حالة أخلاقية في أدنى مستوياتها بالمقارنة مع الدول الأخرى حيث نجد أننا بصدد إنسان الكذب أصبح بالنسبة له كالماء والهواء فهو يكذب ليل نهار عمال على بطال كما يقول المصريون أما عن عدم وجود المحبة فحدث ولاتخشى الحرج فالعداوة والبغضاء عيني عينك كما يقول المصريون أيضاً وتكون البغضاء في أشد صورها تجاه الآخر المختلف.. حتى تحولت إلى مناخ عام تأقلم عليه كثيرون ممن يستمدون غذاءهم من البند الأول.
كما أن الجرائم لم تتوقف.. زنا المحارم منتشر... الشذوذ منتشر.. الدعارة موجودة.. السحاقية موجودة وباعداد متزايدة.. في الحقيقة نحن بصدد شباب مسكين مغلوب على أمره لايعيش الحياة الطبيعية الحقيقية التي اعطاهم اياها الله سبحانه ولم يحصلوا من البند الأول على الحلول فصنعوا لآنفسهم حلول خاصة وعوالم موازية غير حقيقية وغير طبيعية بحثا عن سلام ضائع، أو حب ممنوع، أو ملذات مفقودة... وضاعت العفة واحترقت بنيران الحلال والحرام وقسوة الطبيعة وجبروت الغريزة.
نحن بصدد انسان لم يتصالح بعد مع نفسه فهو يعيش معها في حالة خصومة الأمر الذي قد يدفعه أحيانا لتدميرها بإرادته الشخصية وبقناعة ذاتية. نحن بصدد انسان يتمتع بصفة عدم أتقان العمل. فالإهمال في الواجبات ومقتضيات الوظيفة هي الخاصية السائدة بدءً من العامل البسيط وحتى أستاذ الجامعة..
نظرت يمينا ويسارا من المحيط للخليج فوجدت القاذورات منتشرة في كل مكان في الشوارع والطرقات وفي الأبنية وداخل المؤسسات وأندهشت لعدم وجود النظافة وهي جزء من الإيمان.. الملاحظات لا تنتهي عن مدى البؤس والشقاء والفقر والجوع والأمية الثقافية التي أصابت هذا الإنسان الذي اعتمد غذاءه على البند الأول بالمقارنة مع دول أخرى لا يعتمد غذاءها على البند الأول. والخطير في الأمر أن هذا الإنسان محور هذه النظرية لا يزال يستمتع بالكذب على الآخرين لإقناعهم بالزور أنه أفضل منهم في كل شيء وأنهم مسخرون من أجله عليهم أن يعملوا وعليه أن يستفيد هو من نتائج عملهم ماءا نظيفا ودواءا شافيا وتكنولوجيا حديثة من أجل راحته. أما هم فأقل منه شأناً حتى ولو امتلكوا العلوم والحضارة وذلك لأنهم لايستمدون غذاءهم من النقطة الأولى كما يستمده هو.
بعدما وضعت على الطاولة المعطيات الثلاثة للوصول بها إلى نظرية موثقة لها برهان اكتشفت أني في حاجة إلى الإجابة عن الكثير من الأسئلة الصعبة قبل البدء في وضع النظرية وايجاد البرهان. هل الدين بكل عباداته وتعاليمة جاء من اجل الإنسان أم أن الإنسان خلق من أجل خدمة الدين؟ هل التعاليم الدينية وممارسة العبادات ضرورية للوصول بالإنسان إلى مستوى أخلاقي عالي؟ وهل هي كافية للوصول إلى هذا المستوى؟ إذا كان ثمة من يقول أن العيب في الإنسان وليس التعاليم الدينية أو العبادات فلماذا لم يستطع هذا الإنسان حتى الآن أن يصلح هذه العيوب؟ هل أستطاع الإنسان الذي يعيش في الوسائط الدينية المتعددة للبند الأول أن يحقق أي انجازا عالمياً ولو محدوداً؟ كيف نحافظ على الدين والهوية وننطلق نحو التقدم والأزدهار الحضاري بدون أية معوقات؟ هلى نحن بحاجة إلى تغيير الخطاب الديني فقط أم الخطاب الثقافي والتعليمي والسياسي أيضا؟
عندما بدأت في التفكير الحر للحصول على إجابات لهذه الأسئلة الصعبة وجدت أنه من الأفضل عدم وضع النظرية من الأساس أو وضع النظرية وتركها بدون برهان. فالوضع يشبه الشعور بقسوة البرد القارص في مناخ شديد الحرارة.. فالمناخ الديني شديد الحرارة ونشعر بقسوة البرد.. إنها حقاً ظاهرة تحتاج إلى تفسير. فتسائلت هل نحن في حاجة إلى ثورة ثقافية شاملة.. أم نحن في حاجة إلى الصحوة الكبرى؟ أم نحن في حاجة إلى معجزة. لست أدري.