لِمَ خلقنا الله
عصام المرهون 24 / 8 / 2021م - 1:00 م
منذ شهر رمضان وأنا متسمرٌ أمام فقرة الدعاء للإمام زين العابدين التي يسأل فيها ربه ”أللَّهُمَّ وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ“ مُتَبحِرٌ في السؤال الذي يراودنا كل يوم عن السبب والغاية أو الرسالة التي خَلقنا لأجِلها الله على هذه البسيطة، خائفاً متوجساً من أن أكون ممن وصفهم ربي ﴿بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ أو أن أكون ممن لا يعقلون ولا يهتدون لأنهم اتخذوا السبيل السهل لِما وجدوا عليه آبائهم، وأنه سبحانه الذي استعمرنا في الأرض وجعلنا خلائف فيها نخلُف بعضنا بعضا.
أطفأت كُل الفوانيس القديمة من نور القيم والرأي والقناعة، وحاولت أن انفض الغبار وأُصغي ما أستطعت بكل تجرُد لكل رأي بهذا الشأن من مختلف المدارس والمذاهب والأديان علَني أصل إلى نتيجةٍ ما تُرضي فضول السؤال، أو عساني أن أكون ممن وجد فيَّ الله الخير فيُسمعني فعلاً ما أصبو إلى سماعِه، أو لعله سبحانه يُهيئ لي من امري رُشدا.
محور البحث هذا يأخذك إلى مناطق بعيدة غاية في الروعة والجمال، تستمتع بكل دقيقة تقضيها فيه، وكأنما هيَ رحلةٌ للبحث عن اللالئ والمرجان في أعماق البحار التي كلما كُنت شغوفاً بالوصول لها كلما تطلب منك الأمر الغوص عمقاً أكثر وأكثر، ولا غرابة أن تتصدر الآية الكريمة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ هذا المبحث بآراء المذاهب الإسلامية المختلفة، وبرغم ما يُنقَل كثيراً عن الاختلاف في تفسيرها وهل أن ”اللام“ غائية أم سببية، او أنها للغاية أم للعاقبة، إلا أنني وبكل صدق لم ألحظ هذا الاختلاف في التفسير وإنما هوَ أختلاف في الشروحات واستخدام التعابير والألفاظ التي تصب جميعها في نهاية المطاف إلى ذات الغاية وذات الهدف.
في العظيمة مصر ودول شمال أفريقيا يميل العلماء لضرورة الفصل بين الغايات البشرية الدنيوية والغاية السامية بالحياة الأخرى، وأن الأمانة التي استودعها الله لبني البشر «العقل» هي الوسيلة للوصول لهذه الغاية، وعليها فقد خلقنا الله للتفكر في خلق الدنيا وما فيها والتأمل في الملكوت الإلهي الأعلى في الحياة الأخرى والذي يقودك لمعرفة الله حق معرفته وبالتالي العمل على ما تقودك إليه فطرتك وبداهتك وإلهام ربك، والمعنى أنه خلقنا لنعرفه، فإذا عرفناه عبدناه.. وإذا عبدناه بالخصوص في السلوك والمعاملات تفاضلت عباداتنا، وتفاضل إيماننا ومنازلنا.. وبالتالي تفاضلت استحقاقاتنا حسب ما نتعرض له من امتحان في كل ساعة في هذه الدنيا.. وتفاضل العطاء من المعطي، وعطاء الله مبذولٌ للجميع.
وعلماء أهل الشام بجمال قلوبهم يصِفون الغاية من الوجود بشكل فلسفي أكثر ويفرقون بين الوجود الموضوعي المستقل بذاته والوجود الذهني المُتخيل او المتوهم المتأصل في الفرق بين الحق والباطل من حيث أن الله هو الحق، واننا نحن البشر عابدون له، لنا مطلق الحرية في الاختيار ولسنا رِقٌ عبيد مسيرون، ويسَّمُونَ بالعلاقة بين العبد وربه بسموّ علاقة المحبة فيصفون بأن خلق البشر هوَ منتهى الحُب الإلهي حيث خلقنا الله لأنه يُحبنا وخلقنا لكي يُسعدنا ولكي نستمتع بنعيم دنيته وآخرته، حيث أن كرم الله جزاءاً لا يتفق مع ما نقدمه له من طاعة وإتباع لأوامره، بل إنَ العذاب سيكون جزاءاً وِفاقا، ولو كانت الجنة جزاءاً وِفاقاً لأعمالنا لم يدخل الجنة أحد، والخلاصة أن السبب الوجودي للبشر هو تجسيد الله عز وجل بجميع شؤون حياتنا تجسيداً للحق وأن أي نأيٍ يحيدُ عن ذلك فهو نأيٌ بإتجاه الباطل وهو التضاد لما خلقنا الله من أجله.
أتباع مدرسة جعفر ابن محمد ولا غرابة في عمق البصيرة المعرفية والفلسفية والأسلوب البلاغي المنطقي - لا يحيدون بعيداً عن رأي الآخرين، يشرحون الغاية من وجودنا بمترادفات متعدده، تارةً لغاية الرحمة الإلهية ولكي يُظهر سبحانه رحمته وعطفة وحُبهُ لعبادة، وتارة أخرى تكون الغاية من أجل تحقيق اللذة بكل ما أنعم الله على خلقه من نعم في الدنيا وفي الحياة الأخرى، أو ربما تكون الغاية لنصرة الأمام المنتظر، ويميل الشيعة إلى أن الهدف من العبادة هو القرب الإلهي الذي يوصلنا لأن نّتصف بشيء من صفاته عز وجل للوصول لمقام الفلاح والسعادة الأبدية، كما ويُشاع لديهم بأن العلة من خلقنا هو تحقيق الكمال حيث يكون الخلق مظهراً لكمال الله الذي أفاض به على خلقه، فيبلغ كل عبدٍ كمال في خِصلةٍ معينةٍ يظهر من خلالها كماله عز وجل.
أتباع المدرسة الهندوسية يميلون إلى أن سؤال الغاية من وجودنا سؤال غير مشروع وهو بمثابة خدعة نخدع بها انفسنا ميلاً للقيام بعمل نأمل من خلاله ستر عيوبنا وغفران خطايانا، والاستدلال بأنّ لو سمحنا لكل شخص بطرح هذا السؤال على نفسه سوف نجد أن كل شخص سوف يتوهم غاية بطولية لنفسه غالباً ما تكون زائفة، والمشكلة تقع في الفراغ الوجودي بعد ان يحقق كل شخص الهدف المنشود لهذه الغاية، وبالتالي ماذا عن ما تبقى له من عُمر بعد ذلك؟ إذن الأصلح هو أن تستمتع بوجودك وبحياتك كل يوم في بذل كل ما تُلهمهُ لك روحك من عمل الخير لك وللمجتمع.
أبناء عمومتنا المسيح واليهود يدورون أيضاً ذات الرحى، كما يعبر بعض الغربيين عن هذه المسألة ببساطة شديدة، حيث إذا أردت معرفة الغاية من خلقك عليك أن تُمعن النظر فيما تتقنه بشكل احترافي سواءاً في العلوم أو في الفنون أو الأمور التقنية، ولتحقيق الغاية من وجودك ما عليك إلا القيام بتعليم ما أتقنتَ لغيرك.
أما أتباع غوتاما بوذا وهيَ الديانة الأوسع انتشاراً على كوكب الأرض وحقيقة إيمانهم في ثلاثة محاور أساسية - الإيمان بالكارما «أخلاقيات السبب والنتيجة»، والمايا «طبيعة العالم غير الواقعية»، والسامسارا «دورة الحياة وإعادة الحياة» حيث يؤمن البوذيون أن غاية الوجود في الحياة هو الوصول الى ”التنوير“ وهو الاستخدام المستقل للعقل بهدف الحصول على رؤية متعمقة للطبيعة الحقيقية للعالم الذي نعيش فيه.
ختاماً وربما أكون مخطئاً نصل إلى إجابات كثيرة متعددة لا شيء منها محدد، أو ربما عجزت الكلمات بمستوى فهمنا القاصر شرح هذا الجواب، تضل الإجابة مكنونة داخل أرواحنا نفهمها ونعيشها بكل الحب والسلام متى ما أقتربت أرواحنا من بارئها، ولكن نعجز عن التعبير عنها بالحروف والكلمات. وغاية سؤال السجاد أن يا رب أفتح بصيرتنا على آياتك ونور سمعنا وبصرنا وقلوبنا إلى سُبل الهداية والرشاد، ولا تجعلنا ممن تسألهم يوم الحساب «ماذا كنتم تعملون؟» - يقول عز وجل في كتابه ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾