ابن العديم .. نسبه ومولده
هو كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة، المعروف بابن العديم [1]، وكان ابنُ أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه [2]، وينتهي نسبُ ابن العديم إلى قبيلة عقيل ممن كانت إمارتُهم بأرضِ العراق والجزيرة؛ ولذلك فإنَّ ابنَ العديم يُدْعَى بالعقيلي، وبذلك يكون ابنُ العديم عربِيَّ النَّسَب [3].
وقد وُلِدَ ابن العديم بحلب في ذي الحجة 588 هـ[4]، وعندما بلغ السابعة من عمره، ذهب إلى المكتب، وفي المكتب ظهر نبوغ الطفل؛ حيث استطاع كتابةَ البسملة رغم صِغَره، واستطاع تقليد خط معلمه، فتفرَّس فيه الناسُ النجابةَ والذكاء [5].
نشأة ابن العديم وحياته
نشأ ابنُ العديم بحلب في أسرة واسعة العلم والثَّراء، وكان أبوه ميسورَ الحال، فقد ذكر ياقوت الحموي عن ابن العديم قولَه: "وخرجنا إلى ضَيْعةٍ لنا"، وكان مَن مَلَك ضَيْعَةً في ذلك الوقت في مَقْدوره أن يبذلَ وأن يسخوَ في سبيل ولده حتى يبلغَ من الثقافة والعلم مَبلغًا عظيمًا [6].
وقد ظهرت علاماتُ النَّجابة والذَّكاء على مُؤرخنا منذ طفولته [7]، فقد ختم القرآن الكريم وهو في التاسعة من عمره، وقرأ بالعشر وعمره عشر سنين، وكان والدُه يجهل أصولَ الخط، ولم يكن خطه بالجيد، فأراد أن يتقنَ ابنُه هذا الفرع من العلم، ولذلك فقد عمل على تشجيعه [8]، حتى أضْحَى صاحِبَ خطٍّ منسوب لابن البواب [9].
ويبدو أنَّ ابنَ العديم عمل كأجداده وآبائه، فأخذ من كلِّ علم بطرف منذ نعومة أظْفَارِه، فقد قال فيه ياقوت الحموي: لم يعتنِ بشيء إلاَّ وكان فيه بارزًا، ولا تَعاطَى أمرًا إلاَّ وجاء فيه مُبَرَّزًا [10].
وقد اصطحبه أبوه معه في رحلاته، فسافر في صُحبته إلى بيتِ المقدس ودمشق مَرَّتين، كانت أولاهما في سنة 603هـ وعمره خمس عشرة سنة، وثانيهما في سنة 608هـ وعمره ثماني عشرة سنة، وجمعه بالمشايخ بالقدس ودمشق فأفاد منهم وتعلم، ثم رحل به إلى العراق والحجاز [11].
ويقول ياقوت الحموي عن ابن العديم: رَبُّ ضِياعٍ واسعة، وأملاكٍ جَمَّة، ونعمةٍ كبيرة، وعبيد كثيرة، وماء وخيل ودوابَّ، وملابسَ فاخرة وثياب... [12].
وذكر عنه أيضًا أنه بعد موت أبيه اشترى دارًا كانت لأجداده قديمًا بثلاثين ألف درهم [13]، فهُم إذًا على غِنًى كبير، وسَعَة في الرِّزْق والعيش، وأسرة ناعمة مرفهة [14].
ابن العديم .. مكانته والوظائف التي تولاها
قال ابن العديم: كان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه الله كثيرَ الإكرام لي، وما حضرت مَجلسَه قطُّ، فأَقْبَل على أحدٍ إقبالَه عليَّ مع صِغَر السن [15].
فالرجل كان مقربًا من السلطان؛ لمكانةِ أسرته في البلد جاهًا وعِلمًا، ورثهما كابرًا عن كابر، وعندما توفي والده، وانتقل إلى مدرسة "مدرس شاذ بخت" -وهي من أجَلِّ مدارس حلب في ذلك الوقت- وُلِّيَ ابن العديم التدريسَ بها في ذي الحجة سنة 616هـ، وعمره يومئذ ثمانٍ وعشرون سنة، هذا وجلس أعمر ما كان بالعلماء والمشايخ، والفضلاء الرواسخ، إلا أنَّه رُئِي أهلاً لذلك دون غيره، وتصدَّر وألْقَى الدرس بجنان قوي، ولسان لوذعي، فأبهر العالم، وأعجب الناس [16].
وقال ابن شداد: تولَّى التدريس في "الحلاوية" كمال الدين بن العديم، ولَم يزل مُدرسًا بها حتى كُتِبَ عليه الجلاء مع مَن كتب عليه من أهل حلب [17].
ولا شَكَّ في أنَّ ابنَ العديم كان يتولَّى التدريسَ في أعظمِ مدارس حلب، ويُلقي الوَعْظَ في أكثرِ منابرها، فيُفيد الناس من فيض معرفته وغزير علمه، وقد قُلِّدَ القضاء، فكان فيه كأبيه وجده يفصل بين الناس في أمور دينهم ودُنياهم، ويتمتع بإعجابهم وإكبارهم [18].
وكان كمال الدين بن العديم إلى جانب دروسه وحلقاته العلمِيَّة في جوامع حلب ومدارسها- يَجتمع إلى الملوك والأمراء والوُلاة والخلفاء، كما أنَّه قام بعديد من الرحلات، فقد زار مصر وبغداد، واجتمع فيهما بالكثير من العلماء والشعراء والوزراء، كما زار قلعة "الراوندان" ومدينة "سُرَّ مَن رَأى" (سامراء) [19].
ابن العديم سفيرا بين الملوك
وأيضًا فقد اختير ابن العديم ليكونَ سفيرًا بين الملوك في أمور خطيرة، ومهام سياسية، وقد ذكر المؤرخون سفاراتِه وهم يعرضون للأحداث السياسية في القرن السابع الهجري، وأهم هذه السفارات كانت بين عامي 654هـ- 657هـ [20].
أمَّا السفارة الأولى
فقد فصل القول فيه المؤرخ الكبير أبو الفداء، فقال: "في هذه السنة (654هـ) توجه كمال الدين المعروف بابن العديم رسولاً من الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الخليفة المستعصم، وصَحِبَتْه تَقدِمَة جليلة، وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من جهة المعز ابن أيبك التركماني صاحب مصر شمس الدين سنقر الأقرع، وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميافارقين إلى بغداد بتقدمة جليلة، وسعى في تعطيل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق، فبَقِيَ الخليفةُ مُتَحَيِّرًا، ثم إنَّه أحضر سِكِّينًا من اليسم كبيرة، وقال الخليفة لوزيره: أعْطِ هذه السكين رسولَ صاحب الشام علامةً مني في أنَّ له خلعةً عندي في وقت آخر، وأمَّا في هذا الوقت فلا يُمكنني، فأخذ كمال الدين بن العديم السكين وعاد إلى الناصر" [21].
وأمَّا السفارة الثانية
فقد ذكرها ابن كثير، فقال في حوادث سنة 657هـ، "وفيها قدم القاضي الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم إلى الديار المصرية رسولاً من صاحب دمشق الناصر بن العزيز، يستنجد المصريين على قتالِ التتار، وأنَّهم قد اقترب قدومُهم إلى الشام، وقد استولوا على بلاد الجزيرة وغيرها، وقد جاز أشموط بن هولاكو خان الفراتَ، واقترب من حلب" [22].
ولن نطيلَ في وصف ما حدث لابن العديم خلالَ سفارته في مصر أو في بغداد، لكنَّنا فقط ذكرنا هاتين السِّفارتين؛ لنضربَ مثلاً من أعمالِ الرَّجُل السياسية ومشاغله الدولِيَّة -كما هو معروف الآن- فقد زاد على عُلُوِّه في الأدب والشعر والقضاء والفقه والثروة والغنى مكانةً عند الملوك، فقد كان سفيرًا بين الدول في الساعات الصعبة والحَرِجة من تاريخ الدولة الإسلامية؛ لأَنَّ التتار كانوا على أبوابِ الشام يُهدِّدون حاضرةَ الشمال، وينذرونها بمصير كمصير بغداد، وبالفعل كان لهم ما أرادوا [23].
وهكذا بلغ ابنُ العديم بعلمِه وذكائه وعمله منزلةً ومكانةً رفيعة، فقد أصبح من الوجاهة بحيث أصبح مَحطَّ الأنظار، يقصدُه العظماء، ويحجُّ إليه الكبراء، ويَفِدُ إليه الشعراء [24].
ابن العديم ومؤرخو عصره
ولأَنَّ ابنَ العديم كان يعيش في حلب في القرن السابع الهجري، وكان ذلك العصر عامرًا بالمؤرخين، عامرًا بالعلماء والمعلمين، وكانت حلب محجة القاصدين والوافدين من جميع الأقطار كمصر والعراق والحجاز، فقد تعرَّف ابنُ العديم على كثيرٍ من المؤرخين، فاجتمع بياقوت الحموي في حلب، كما تعرف على ابن خلكان، وسمع من القفطي وابن شداد، وكان ياقوت أشدهم صُحْبةً له، ووفاء لأسرته، ومَحبة لعلمه، فقد كان شديدَ الإعجاب به، وكان إعجابه به لا يعرف الحدود، وقَرَّت عيناه بصحبته حتى وفاة ياقوت وهو على خير ما يكون العالِمُ للعالِم والمُؤرِّخ للمُؤرِّخ [25].
ابن العديم وغزو التتار لحلب
وعندما قصد التتارُ أبوابَ الشام سنة 657هـ، وهرب الملك الناصر صاحبُ حلب إلى برزة، وهي في أطراف دمشق، فَرَّ معه كثير من الناس ومنهم ابن العديم، ثم سافر ابنُ العديم إلى غزة ومنها إلى مصر، وقد ذكر بعضُ المؤرخين أنَّ هولاكو عرض على ابن العديم منصبَ القاضي في حلب، ولكن ابن العديم رفض أن يجعل نفسه في خدمة الأعداء [26].
ووجد ابنُ العديم في مصر من الاهتمام والحفاوة ما كان يجده في الشام وغيرها من البلاد التي رحل إليها، وعاش ابن العديم في مصر خلال الفترة المُظلمة التي مَرَّت بها حلب، فلما ذهبت عنها الغمة السوداء، وأتت الأخبارُ بأنَّ عسكر سيف الدين قطز صاحب مصر شَتَّت عسكر هولاكو في موقعة عين جالوت سنة 658هـ، وأنَّ التتار انهزموا هزيمة ساحقة، وأنَّ المسلمين أفنوهم، وأنَّهم كسروا على حمص، وجلوا عن حلب سنة 659هـ، عاد ابن العديم وأهله إلى بلده مرة أخرى [27].
وعندما رجع ابنُ العديم إلى حلب، شَهِدَ فيها مظاهِرَ الخراب والدمار، ورأى أنَّ وحشية التتار لم تُبْقِ فيها شيئًا، فتألَّم لخرابها بعد العمارة التي كانت عليها، وكآبتها بعد السُّرور [28]، فرثاها بقصيدة طويلة جاء فيها:
وَعَنْ حَلَبٍ مَا شِئْتَ قُلْ مِنْ عَجَائِبٍ *** أَحَلَّ بِهَا يَا صَاحِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَــــمُ
غَـــــدَاةَ أَتَـاهَــا لِلْمَنِيَّــــةِ بَغْـتَــــةً *** مِنَ الْمُغْلِ جَيْشٌ كَالسَّحَابِ عَرَمْرَمُ
إلى قوله:
فَيَـا حَلَبًا أَنَّى رُبُوعُكِ أَقْفَرَتْ *** وَأَعْيَتْ جَوَابًا فَهْيَ لاَ تَتَكَلَّمُ [29]
وفاة ابن العديم
لم يَرُقْ لابن العديم المقامُ في حلب والعيش بها، فلم يتحمَّل أن يرى بلدَه الحبيب في خراب بعد العمار، وفي ذُلٍّ وهوان بعد العِزِّ، وفي فقر بعد الغِنى، وهو الذي أحَبَّه، وسَطَّرَ تاريخه، وعاش في أكنافِه؛ ولذلك فقد انطلق ذاهبًا إلى مصر، وعاد إلى القاهرة، ولكنَّ المنِيَّةَ لَم تُمهِلْه طويلاً، فلم يمضِ عامٌ على عودته إلى القاهرة حتى قضى نَحْبَه في العشرين من جُمادى الأولى سنة 660هـ، ودفن من يومه بسفح جبل المقطم [30].
وهكذا ختمت حياة عاطرة، عامرة بالمجد، مترعة بالجد، خلفت لحلب ذكرًا لا يَبْلَى، وفخرًا لا ينقطع، وكان للشام بموته حزن عميق وفراغ واسع [31].
مؤلفات ابن العديم
رأينا من خلال ترجمة حياة ابن العديم أنَّه اتَّصل بالعلم وأهله منذ صباه، وسَمِعَ على شيوخٍ أجِلاَّء، وأنه قد سافر لإكمال التحصيل إلى أقطارٍ عديدة، من أهَمِّها: العراق، والشام، والحجاز، وأنه قد أخذ العلم عن علماء أعاظم، ثم عاد ونال مناصِبَ إدارية وسياسية في حلب [32]، كما أنَّه كان يَمتلك مكتبةً زاخرة بشَتَّى أنواع الكتب؛ ولذلك فقد صرف ابنُ العديم أكثرَ عمره فيما ينفع العلم وأهله، فقد كان يؤلف حينًا، ويجمع حينًا، وينقل من الكتب النادرة وغير النادرة، ثم يستنسخ لغيره ما يقع عليه [33].
وقد ذكر ياقوت الحموي من مؤلفات ابن العديم عِدَّة كتب مما وصل إليه، وقد وصل إلينا من هذه الكتب أكثرُها، وضاع منها أقلها، ومن أهم هذه المؤلفات:
1- كتاب الدراري في ذكر الذراري.
2- كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة.
3- كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح.
4- كتاب في الخط وعلومه ووصف آدابه وأقلامه وطروسه.
5- كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري.
6- تذكرة ابن العديم.
7- الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب.
8- كتاب تبريد حرارة الأكباد في الصبر على فقد الأولاد.
9- بغية الطلب في تاريخ حلب.
10- زبدة الحلب في تاريخ حلب.
كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب
ذكره ياقوت الحموي وهو ينصف لتصانيف ابن العديم، قال: "كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها، ومَن كان بها من العلماء ومَن دَخَلَها من أهل الحديث والرِّواية والدِّراية والملوك والأمراء والكتاب" [34].
وذكره ابن العديم نفسه في كتابه "الإنصاف والتحري"، فقال: ومن أراد استقصاء أخبارهم وفضائلهم وأشعارهم، فعليه بكتابي المُطَوَّل في تاريخ حلب، ففيه مقنع لمن قصد شيئًا من ذلك أو طلب [35].
وكذلك فقد ذكره ابن خلكان، ونقل عنه في عِدَّة مواضع، منها أنَّه قال في ترجمة وهب بن وهب: وقد نقلتها من خط القاضي كمال الدين بن العديم من مسودة تاريخه [36]، وقال في ترجمة صلاح الدين يوسف بن أيوب: "ورأيت في تاريخ حلب الذي جمعه القاضي كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبي ..." [37].
وذكره السخاوي، فقال: وللكمال عمر بن أحمد بن العديم في تاريخها كتاب حافل سَمَّاه "بغية الطلب" وقفت على كثير منه .." [38].
خطة الكتاب
بدأ ابن العديم "تاريخ حلب" في صدر شبابه، وقضى عمرَه وهو يكتب فيه حتى توفي فلم يتمَّه، وتركه مسودة لم يبيضه، وقد كان ينتظر أن يتاح له إتمامه على الخطة التي رَسَم، ولكن الأحداث التاريخية واشتغاله بالسياسة والسفارة حالت دون تحقيق أُمنيته؛ ولذلك ظل الكتاب مبتورًا [39].
غير أن الأجزاء الموجودة -وهي غير قليلة- ترشدنا إلى خطته وطريقته، فقد بدأ أول كتاب "بغية الطلب في تاريخ حلب" بتحديد حلب ومُعاملاتها ومُضافاتِها لعهده، فتحدث عن أنطاكية وثغورِ الشام والجبال والآثار، والبحار والأنهار، والبحيرات، وذكر الرصافة، وخناصرة، وبالص، والمعرة، ومعرة مصرين، وطرسوس، والباب، وحماة، والمصيصة، وأفاض في ذكر الحصون وغيرها [40].
ثم بدأ التَّراجِمَ على الحروف، فصنع كما يصنع المحدِّثون بذكر الإسناد المتسلسل؛ لإثبات ترجمة الرجُل، وما عرف عنه، وما نقل من كتبه، وما وصل إلى سَمعه من حديثه وشعره وكتبه ونقوله [41].
فابن العديم لم يثبت خبرًا إلا ذكر المصدر الذي استقى منه، ولم يورد شعرًا إلا وصف لنا الديوان الذي وصل إليه، أو الكتاب الذي قرأه فيه، ولم يسرد حديثًا أو حكاية إلاَّ قال: سمعت، قرأت، أخبرنا، حدثنا، حضرت، شاهدت، أنبأنا، قال لي عمي، وقال لي الوزير، وقال ابن العجمي، ووقع إلَيَّ من كتاب فلان، وسَيَّر إلَيَّ القاضي أبو محمد الحسن بن إبراهيم الخشاب أوراقًا بخطه، ذكر أنَّه نقلها من فلان وفلان، إلى أقصى ما يستطيع أن يصنعه رجل ثِقَة، ومؤرخ حجة، ومحدث ثبت، وقاضي منصف حين يعمل التاريخ [42].
ومن هنا تأتي أهميةُ هذا الكتاب وقيمته، فهو سِجِلٌّ مفصل لتاريخ الشام على اختلاف عصورها، وتاريخ عظيم لمدينة حلب ورجالها ومن مَرَّ بِها، ومن دفن فيها، ومن تحدث عنها [43].
وهو بذلك قد أحصى المصادر التي نقل عنها، واستقى منها، ذاكرًا الخط والورقة، ومقدار ما نقل، مُعززًا ذلك بالإسناد المتواتر، وهو بذلك قد حفظ لنا أثْمن ما في هذه المصادر والكتب التي نقل عنها، والتي نفتقدها اليوم فلا نجدها، ولهذا عَدَّه المؤرخون لعصره وبعد عصره حجةً في تاريخ حلب، استوعب أيامَها منذ صدر الإسلام إلى منتصف القرن السابع الإسلامي، وكل من تحدث عن هذه العصور وألَمَّ بتاريخ حلب، اعتمد على كتاب "بُغْية الطلب في تاريخ حلب" لابن العديم [44].
أثر الكتاب في التواريخ
لقد أثار هذا الكتابُ اهتمامَ المؤرخين الذين أفردوا لحلب تاريخًا أو ذكرًا، فقد سار على خطاه ونهجه كثيرٌ ممن جاء من بعده، فسلكوا سبيلَه، فمنهم من وفِّق ومنهم من أخفق، ومنهم من أعاد في كتابه نص ما ذكره ابن العديم، ومنهم من لخص منه، وأكمل عليه إلى زمنه [45].
ومن هؤلاء الذين أخذوا عن ابن العديم وساروا على نهجه، ابنُ شَدَّاد (المتوفَّى سنة 684هـ)، الذي كتب "الأعلاق الخطيرة في ذكر أُمراء الشام والجزيرة" في أجزاء عدة؛ حيث وصف فيه حلب والشام، وفلسطين والجزيرة، وألف ابنُ خطيب الناصرية (المتوفَّى سنة 843هـ) "الدر المنتخب بتكملة تاريخ حلب"؛ حيث ترجم فيه للرِّجال بعد ابن العديم حتى عصره، وتبعه ابن الشحنة (المتوفَّى سنة 883هـ)؛ حيث اختصر من ابنِ العديم، وأخذ من فصوله وأوجز في كتابٍ سَمَّاه "الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب"، ثم جاء ابن الحنبلي (المتوفَّى سنة 971هـ) فترجم للرجال حتى عصره في كتابه "در الحبب في أعيان حلب" [46].
وكتب المعاصرون من رجال حلب تاريخًا لها، فألف الأستاذ راغب الطباخ كتابًا في سبعة أجزاء سماه "إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء"، وألف معاصره المرحوم الشيخ كامل الغزي كتابًا سماه "نهر الذهب في تاريخ حلب"، وهو في أربعة أجزاء، وغيرهم[47].
ومن هنا نعرف كيف أثَّر ابن العديم فيمن جاؤوا من بعده، فقد كان لهم بمثابة المصدر الذي ساروا على نهجه وطريقته، واعتمدوا عليه في أخذ كثيرٍ من معلوماتهم، ومن هنا تتضح أهمية كتابه.
إبراهيم السيد شحاتة عوض
[1] ياقوت الحموي: معجم الأدباء: ج4، ص 433، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1(1411هـ- 1991م)، د. شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون، ج2، ص 263، د. فتحية النبراوي، علم التاريخ دراسة في مناهج البحث، ص 115. الزركلي: الأعلام، المجلد الخامس، ص 40، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 1986م.
[2] ابن العديم: زبدة الحلب في تاريخ الحلب، ج1، ص 15، تحقيق: سامي الدهان، المعهد الفرنسي، دمشق، (1945م).
[3] د. محمد عبد النعيم، دراسات تاريخية في مصادر عصري الأيوبيين والمماليك، ص 199، دار الثقافة العربية، القاهرة، (1424هـ- 2004م).
[4] عمر رضا كحالة: "معجم المؤلفين"، ج7، ص 553، تحقيق: مكتب تحقيق التراث، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، (1414هـ- 1993م).
[5] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ص 19، د. محمد عبد النعيم، "دراسات تاريخية"، ص 201.
[6] ياقوت الحموي: "معجم الأدباء"، ج4، ص 454- 455، ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 20، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 201.
[7] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، 201.
[8] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ص 19- 20.
[9] شاكر مصطفى: "التاريخ العربي والمؤرخون"، ج2، ص 263.
[10] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 19، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 201.
[11] ابن العديم، "زبدة الحلب"، ج1، ص 20.
[12] ياقوت الحموي: "معجم الأدباء"، ج4.
[13] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 21.
[14] المصدر السابق، الصفحة نفسها، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 202.
[15] ياقوت الحموي: "معجم الأدباء"، ج4، ص 455، ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 21، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 203.
[16] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 21، د. شاكر مصطفى: "التاريخ العربي والمؤرخون"، ج2، ص263، د. فتحية النبراوي: "علم التاريخ"، ص 115، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 203.
[17]د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 203.
[18]المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[19] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 22، د. شاكر مصطفى: "التاريخ العربي والمؤرخون"، ج2، ص 263.
[20] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 22، د. فتحية النبراوي: "علم التاريخ"، ص 116، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 204.
[21] أبو الفداء: "المختصر في أخبار البشر"، ج3، ص 191، القاهرة: (1325هـ).
[22] ابن كثير: "البداية والنهاية"، ج13، ص 215، بيروت، (1977م).
[23] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 24، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 204- 205.
[24] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 205.
[25] المصدر السابق، ص 206.
[26] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 27، د. شاكر مصطفى: "التاريخ العربي والمؤرخون"، ج2، ص 263، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 206.
[27] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 206.
[28] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص27، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 206.
[29] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 38.
[30] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 207.
[31] أبو شامة: "الذيل على الروضتين"، ص 217، نشر عزت العطار الحسيني، القاهرة، (1947م).
[32] عمر رضا كحالة: "معجم المؤلفين"، ج2، ص 553.
[33] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص207- 208.
[34] ياقوت الحموي: "معجم الأدباء"، ج4، ص456.
[35] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 50.
[36] ابن خلكان، "وفيات الأعيان"، ج3، ص 183، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، (1977م).
[37] المصدر السابق، ج2، ص 376.
[38] السخاوي: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ"، ص 157، تحقيق: محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا بالقاهرة (د. ت).
[39] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 56، د. شاكر مصطفى: "التاريخ العربي والمؤرخون"، ج2، ص 264، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 209- 210.
[40] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 56، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 210.
[41] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 210.
[42] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 56، د. فتحية النبراوي: "علم التاريخ"، ص 116.
[43] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص210.
[44] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص57، د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص210- 211.
[45] ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 57.
[46] د. محمد عبد النعيم: "دراسات تاريخية"، ص 211.
[47]ابن العديم: "زبدة الحلب"، ج1، ص 58.