لو اُسْتعمِلَتْ الولاية التكوِينية بِشكلها المطلق (أي استعمالها في كل ظرف وابتلاء يُتَعرّض له) لسقط مبدأ الثواب والعقاب ، ولتغيرت أنظمة الأرض والسماء الفيزياوية والكيمياوية التي وضعها الخالق للأنام ، ولآمن الناس بالأئمة (عليهم السلام) مجبورين ، وبالتالي يفقد الإختيار مصداقيته في تكلِيف الناس بالشريعة في هذه الدُّنيا .
كما أنّ المعصوم لا يتعامل إلّا بالظاهر ، ولن يتعامل بالباطن إلّا ما كان بأمرٍ من الله جلّ وعلا وأمره أن يقوم بأمرٍ غيبي ، والله تعالى شاء أن يرى الإمام الحسين (عليه السلام) شهيداً في كربلاء ، وشاء تعالى أن يرى أهله وعياله سبايا ، وذلك عندما رأى الإمام الحسين (عليه السلام) سيدنا مُحمّد المقدّس (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول له : «اخْرُجْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلًا ، وإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايَا» ، وهذا الأمر يحتم عليه بعدم استخدام الولاية التكوينية المطلقة إلّا في حالات معيّنة .
والنبي الأعظم مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان عالماً بما يجري على أهل بيته (عليهم السلام) وأُمته ، وكان قادراً على إهلاك أعداء أهل بيته (عليهم السلام) في حياته ، إلّا أنّ ذلك كان مُضراً على الدّين ويجعل أعداء الإسلام يأخذونها ذريعة لافتعال الفتن ، فلا يجوز القصاص قبل الجريمة ، وهذا إعتقاد العامّة أيضاً ، فهم يعتقدون بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعلم المنافقين لكنه لا يتعامل معهم إلّا بالظاهر . إذ يقول الطبري في تفسيره - الجزء (11) - الصفحة (567) :- «أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَادِ الْمُنَافِقِينَ، بِنَحْوِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ تَرَكَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِ أَصْحَابِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ؟ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ أَظْهَرَ مِنْهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَقَامَ عَلَى إِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأَخَذَ بِهَا، أَنْكَرَهَا وَرَجَعَ عَنْهَا وَقَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ، أَنْ يُحْقَنَ بِذَلِكَ لَهُ دَمُهُ وَمَالُهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَتَوَكَّلَ هُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِسَرَائِرِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْخَلْقِ الْبَحْثَ عَنِ السَّرَائِرِ، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ وَاطِّلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادِ صُدُورِهِمْ، كَانَ يُقِرُّهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ، وَلَا يَسْلُكُ بِجَهَادِهِمْ مَسْلَكَ جِهَادِ مَنْ قَدْ نَاصَبَهُ الْحَرْبَ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَوْلًا كَفَرَ فِيهِ بِاللَّهِ ثُمَّ أُخِذَ بِهِ أَنْكَرَهُ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ، فَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُهُ إِلَّا بِمَا أَظْهَرَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ حُضُورِهِ إِيَّاهُ وَعَزْمِهِ عَلَى إِمْضَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ، دُونَ مَا سَلَفَ مِنْ قَوْلٍ كَانَ نَطَقَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَدُونَ اعْتِقَادِ ضَمِيرِهِ الَّذِي لَمْ يُبِحِ اللَّهُ لِأَحَدٍ الْأَخْذَ بِهِ فِي الْحُكْمِ وَتَوَلَّى الْأَخْذَ بِهِ هُوَ دُونَ خَلْقِهِ» .
وقد استعمل الولاية التكوينية الخضر (عليه السلام) مع النبي موسى (عليه السلام) في رحلتهم ، وكان يعلم علماً قطعيّاً بأنّ أمام السفينة ملكٌ يأخذ كل سفينة غصباً ، وأنّ السفينة لو أصبحت معيبةً لا يُطمع بها فيتركها الملك ، فقام بخرق السفينة أمام أعين صاحبها وركّابها ولم يره أحد ، كما أنّه قَتلَ غلاماً في الطريق وبنى الجدار ولم يعرف بفعله أحد ، ومن المعلوم جداً أنّ الخضر (عليه السلام) رفيق الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، وبذلك أراد القُرآن الكريم أن يوصل لنا رسالة مفادها أنّ الناس سيحاسبون على أعمالهم قبل أن يفعلوها إذا خرج المهدي ومعه الخضر . فالوحيد الذي سيحاسب الناس بالباطن ويقوم بالولاية التكوينيّة المطلقة هو الإمام الحُجّة بن الحسن (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، وهو الإمام القائد والحازم الصارم والمنتقم من شياطين الإنس والجن الذي سيأخذ بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) وثأر جميع الأولياء ويقيم دولة العدل الإلهي بعد أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَتْ ظُلماً وجوراً .
هذا ولقد حدثت عجائب وغرائب كثيرة في عالم التكوين ، فبعد أن تمّ قتل الحسين (عليه السلام) اسودّت السماء اسوداداً عظيماً ، وظهرت الكواكب نهاراً حتى رؤيت الجوزاء عند العصر ، وسقط التراب الأحمر ، ومكثت السماء بلياليها كأنّها علقة ، ومكث الناس سبعة أيام إذا صلوا العصر نظروا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنّها الملاحف المعصفرة من شدّة حمرتها ، ونظروا إلى الكواكب تضرب بعضها بعضا . ولم تكن في السماء حمرة حتى قتل الحسين (عليه السلام) ، ولم تطمث امرأة بالروم أربعة أشهر إلّا وأصابها وضح ، فكتب ملك الروم إلى ملك العرب : (قتلتم نبياً أو ابن نبي؟!) . وكانت العصافير قد امتنعت من الأكل يوم عاشوراء . ولم يبق ممن قتل الحسين إلا عُوقب في الدنيا إما بقتلٍ أو عمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدّة يسيرة . ولمّا قال رجل للحسين (عليه السلام) : أبشر بالنار، دعا عليه الحسين وقال : ربِّ حزه إلى النار، فاضطرب به فرسه في جدول فوقع عليه وتعلقت رجله بالركاب ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس فأخذ يمرّ به فيضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حتى مات . ولمّا قال رجل : (ما أحد أعان على قتل الحسين إلا أصابه بلاء قبل أن يموت) ، قال شيخ كبير : (أنا ممن شهدها وما أصابني أمر كرهته إلى ساعتي هذه) ، وخبا السراج فقام يصلحه فأخذته النار وخرج مبادراً إلى الفرات وألقى نفسه فيه ، فاشتعل وصار فحمة . ومنها عندما احتزوا رأس الحسين (عليه السلام) وقعدوا في أول مرحلة ليشربوا النبيذ خرجت عليهم يدٌ من الحائط معها قلم حديد ، فكتبت سطراً بدم : (أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب) ؟! ولمّا جيء برأس عبيد الله ابن زياد وأصحابه وطرحت بين يدي المختار ، جاءت حية وتخللت الرؤوس حتى دخلت في فم ابن زياد وخرجت من منخره ودخلت في منخره وخرجت من فيه ، وجعلت تدخل وتخرج من رأسه بين الرؤوس ، وصار الناس يقولون : (خاب عبيد الله وأصحابه وخسروا دنياهم وآخرتهم) ! ثم تباكى الناس حتى انتحبوا من البكاء على الحسين (عليه السلام) وأولاده وأصحابه . ولما قُتِلَ الحسين (عليه السلام) جاء غُراب فوقع في دمه ، ثم تمرّغ ثم طار فوقع بالمدينة على جدار دار فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) ، وقالت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) :
نعق الغرابُ، فقلت: مَن تنعاه ويحك يا غراب
قال: الإمام، فقلت مَن قال: الموفق للصواب
قلت: الحسين، فقال لي بمقال محزون أجاب
إن الحسين بكربلاء بين الأسنة والحراب
أبكي الحسين بعبرة ترضى الإله مع الثواب
ثم استقلّ به الجناح فلم يطق ردّ الجواب
فبكيت مما حلّ بي بعد الرضى المستجاب