لماذا خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من الحجاز إلى العراق ؟ ولماذا أخذ الإمام الحسين (عليه السلام) أهله وعياله معه في مسيره ونهضته المباركة ؟
أنّ خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة المنورة كان بهدف تجنّب تقديم البيعة ليزيد بن معاوية الفاسق ، فيزيد بن معاوية كان قد أمر ولاته بأخذ البيعة من الإمام الحسين (عليه السلام) أو قتله في المدينة أو مكّة في حال رفضه للبيعة ، لذلك اضطر الإمام الحسين (عليه السلام) للخروج من مدينة جدّه المصطفى المقدّس (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وتوجّه إلى الكوفة عاصمة أبيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وكان أهل الكوفة قد تعهدوا له بالبيعة والنصرة ، فخرج ليستقر في الكوفة خليفةً للمسلمين وأميراً للمؤمنين ، وهذا كلّه يقتضي اصطحاب الأهل والعيال .
وشاء الله تعالى أن يرى الإمام الحسين (عليه السلام) قتيلاً شهيداً في رمضاء كربلاء المقدّسة ، وشاء تعالى أن يرى أهله وعياله سبايا . عَنْ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ : جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَرَادَ الْحُسَيْنُ الْخُرُوجَ فِي صَبِيحَتِهَا عَنْ مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهُ : «يَا أَخِي إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ عَرَفْتَ غَدْرَهُمْ بِأَبِيكَ وَأَخِيكَ ، وَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ حَالُكَ كَحَالِ مَنْ مَضَى ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُقِيمَ ؛ فَإِنَّكَ أَعَزُّ مَنْ بِالْحَرَمِ وَأَمْنَعُهُ ؟ فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَا أَخِي قَدْ خِفْتُ أَنْ يَغْتَالَنِي يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِالْحَرَمِ ، فَأَكُونَ الَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ حُرْمَةُ هَذَا الْبَيْتِ . فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ : فَإِنْ خِفْتَ ذَلِكَ فَصِرْ إِلَى الْيَمَنِ أَوْ بَعْضِ نَوَاحِي الْبَرِّ ؛ فَإِنَّكَ أَمْنَعُ النَّاسِ بِهِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْكَ أَحَدٌ . فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَنْظُرُ فِيمَا قُلْتَ . فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ ارْتَحَلَ الْحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ ، فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ وَقَدْ رَكِبَهَا فَقَالَ : يَا أَخِي أَلَمْ تَعِدْنِي النَّظَرَ فِيمَا سَأَلْتُكَ ؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : بَلَى ! قَالَ : فَمَا حَدَاكَ عَلَى الْخُرُوجِ عَاجِلًا ؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بَعْدَ مَا فَارَقْتُكَ فَقَالَ يَا حُسَيْنُ : اخْرُجْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلًا . فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ! فَمَا مَعْنَى حَمْلِكَ هَؤُلَاءِ النِّسَاءَ مَعَكَ وَأَنْتَ تَخْرُجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ ؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : قَالَ لِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : إِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايَا ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَمَضَى‏ . وَجَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، فَأَشَارَا عَلَيْهِ بِالْإِمْسَاكِ فَقَالَ لَهُمَا : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ وَأَنَا مَاضٍ فِيهِ . فَخَرَجَ ابْنُ الْعَبَّاسِ وَهُوَ يَقُولُ‏ : وَا حُسَيْنَاهْ ! ثُمَّ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِصُلْحِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَحَذَّرَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ ، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أُهْدِيَ إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟! أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ سَبْعِينَ نَبِيّاً ؟! ثُمَّ يَجْلِسُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ كَأَنْ لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئاً ! فَلَمْ يُعَجِّلِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَلْ أَخَذَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْذَ عَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ، اتَّقِ اللَّهَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَا تَدَعْ نُصْرَتِي» . (البحار : ج44، ص364، عن كتاب الملهوف: ص53-56، وص26-27.)

وهذا يعني أنّ الله تعالى شاء أن يخرج الإمام الحسين (عليه السلام) على القوم فيحاربوه فيكون قتيلاً شهيداً ، وشاء أن يصحب الأهل والعيال لتكميل المسيرة ويكنّ سبايا بعد مقتله ، ويقومون بدورهم في تكميل الثورة . وبالفعل فقد كان سبي نساء واطفال الحسين (عليه السلام) والطواف بهنّ من بلدٍ إلى بلدٍ أثراً من اسوأ الآثار على الأمويين ودولتهم ، وكان الجزء المتمم للغاية التي أرادها الإمام الحسين (عليه السلام) من نهضته ، فلقد أثار الأحزان والأشجان في نفوس المسلمين وكشف أسرار الأمويين وواقعهم السيء للقاصي والداني ، وأظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل ، وأوضح للمسلمين في كل مكان وزمان أنّ الأمويين من ألدّ أعداء الإسلام ، يبطنون الكفر والالحاد ويتظاهرون بالإسلام رياءً ودجلاً ونفاقاً ، فكان السبي من أكبر الأثر في بقاء الثورة الحسينية ، وتعريف الناس لحقيقة الحكم الأموي ومخالفته لأحكام الدّين . وفي الوقت ذاته فلقد كان سبيهم من جملة الوسائل لنشر الدعوة الى العلويين ومبدأ التشيع لأهل البيت (عليه السلام) ، ولعن من شايع وتابع وبايع على قتل الحسين (عليه السلام) .
قد جاء في كتاب المنتخب أنّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضم إليهم الف فارس وأمرهم بإيصال السبايا والرؤوس إلى الشام . ويدّعي أبو مخنف أنّهم مروا بهم بمدينة تكريت ، وكان أغلب أهلها من النصارى ، فلمّا اقتربوا منها وأرادوا دخولها اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزناً على الإمام الحسين (عليه السلام) وقالوا : «إنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم» ، فلم يجرأوا على دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها في البرية . وهكذا كانوا يقابلون بالجفاء والإعراض والتوبيخ كلّما مروا بدير من الأديرة أو بلدٍ من بلاد النصارى ، وحينما دخلوا مدينة لينيما وكانت عامرة يومذاك ، تظاهر أهلها رجالاً ونساء وشيباً وشبانا وهتفوا بالصلاة والسلام على الحسين وجده وأبيه ولعن الأمويين وأشياعهم وأتباعهم وأخرجوهم من المدينة ، وتعالى الصراخ من كل جانب ، وأرادوا الدخول إلى جهينة من بلاد سورياً فتجمّع أهلها لقتالهم ، فعدلوا عنها واستقبلتهم معرّة النعمان بالترحاب ، وحينما أشرفوا على مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم : «والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد أن منعتم الحسين وأصحابه منه» . واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين : «أكفراً بعد إيمان وضلالاً بعد هدير» ، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم 26 فارساً ولم تستقبلهم سوى مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة ، فدقّت الطبول وقدّموا لهم الطعام والشراب . وجاء عن سبط بن الجوزي عن جدّه أنّه كان يقول : «ليس العجب أن يقتل ابن زياد حسيناً ، وإنّما العجب كل العجب أن يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ، ويحمل نساءه سبايا على أعقاب الجمال!» .

ولو افترضنا أنّ السيدة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة (صلّى الله عليهما وسلّم) بقيت في المدينة ، وقُتِلَ أخوها في كربلاء ، فما عساها أن تصنع وأي عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب وإقامة العزاء ؟ وهل كان يتسنّى لها الدخول على مجلس يزيد اللعين في قصر الخضراء ، وهو مزهوٌ بملكه وسلطانه ، وتلقى تلك الخطب التي أعلنت فيها فسقه وفجوره ولعنت فيها آبائه وأجداده ، وقالت له :
« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى جَدِّي سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ، صَدَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ يَقُولُ: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ . أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْنَا آفَاقَ السَّمَاءِ ، فَأَصْبَحْنَا لَكَ فِي إِسَارٍ ، نُسَاقُ إِلَيْكَ سَوْقاً فِي قِطَارٍ ، وَأَنْتَ عَلَيْنَا ذُو اقْتِدَارٍ ، أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً وَامْتِنَاناً ؟؟ وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وَجَلَالَةِ قَدْرِكَ ؟؟ فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فِي عِطْفٍ ، تَضْرِبُ أَصْدَرَيْكَ فَرِحاً وَتَنْفُضُ مِدْرَوَيْكَ مَرِحاً حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً وَالْأُمُورَ لَدَيْكَ مُتَّسِقَةً ، وَحِينَ صَفِيَ لَكَ مُلْكُنَا وَخَلَصَ لَكَ سُلْطَانُنَا !
فَمَهْلًا مَهْلًا لَا تَطِشْ جَهْلًا ! أَنَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ :
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا ؟؟ قَدْ هَتَكْتَ سُتُورَهُنَّ وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ ، يَحْدُو بِهِنَّ الْأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاقِلِ وَيَبْرُزْنَ لِأَهْلِ الْمَنَاهِلِ ، وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْغَائِبُ وَالشَّهِيدُ وَالشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ وَالدَّنِيُّ وَالرَّفِيعُ ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيمٌ ، عُتُوّاً مِنْكَ عَلَى اللَّهِ وَجُحُوداً لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَدَفْعاً لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَلَا غَرْوَ مِنْكَ وَلَا عَجَبَ مِنْ فِعْلِكَ . وَأَنَّى يُرْتَجَى مُرَاقَبَةُ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أَكْبَادَ الشُّهَدَاءِ ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ السُّعَدَاءِ ، وَنَصَبَ الْحَرْبَ لِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَجَمَعَ الْأَحْزَابَ وَشَهَرَ الْحِرَابَ ، وَهَزَّ السُّيُوفَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ، أَشَدُّ الْعَرَبِ لِلَّهِ جُحُوداً ، وَأَنْكَرُهُمْ لَهُ رَسُولًا ، وَأَظْهَرُهُمْ لَهُ عُدْوَاناً ، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى الرَّبِّ كُفْراً وَطُغْيَاناً . أَلَا إِنَّهَا نَتِيجَةُ خِلَالِ الْكُفْرِ ، وَضَبٌّ يُجَرْجِرُ فِي الصَّدْرِ لِقَتْلَى يَوْمِ بَدْرٍ ! فَلَا يَسْتَبْطِئُ فِي بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ مَنْ كَانَ نَظَرُهُ إِلَيْنَا شَنَفاً وَشَنْآناً وَأَحَناً وَضَغَناً يُظْهِرُ كُفْرَهُ بِرَسُولِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ، وَيُفْصِحُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ فَرِحاً بِقَتْلِ وُلْدِهِ وَسَبْيِ ذُرِّيَّتِهِ غَيْرَ مُتَحَوِّبٍ وَلَا مُسْتَعْظِمٍ : (لَأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحاً ... وَلَقَالُوا يَا يَزِيدُ لَا تُشَلَّ) ! مُنْتَحِياً عَلَى ثَنَايَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَكَانَ مُقَبَّلَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يَنْكُتُهَا بِمِخْصَرَتِهِ ، ‏قَدِ الْتَمَعَ السُّرُورُ بِوَجْهِهِ ! لَعَمْرِي لَقَدْ نَكَأْتَ الْقُرْحَةَ وَاسْتَأْصَلْتَ الشَّأفَةَ بِإِرَاقَتِكَ دَمَ سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَابْنِ يَعْسُوبِ الْعَرَبِ وَشَمْسِ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَهَتَفْتَ بِأَشْيَاخِكَ وَتَقَرَّبْتَ بِدَمِهِ إِلَى الْكَفَرَةِ مِنْ أَسْلَافِكِ ، ثُمَّ صَرَخْتَ بِنِدَائِكَ ! وَلَعَمْرِي قَدْ نَادَيْتَهُمْ لَوْ شَهِدُوكَ ، وَوَشِيكاً تَشْهَدُهُمْ وَيَشْهَدُوكَ ، وَلَتَوَدُّ يَمِينُكَ كَمَا زَعَمْتَ شُلَّتْ بِكَ عَنْ مِرْفَقِهَا ، وَأَحْبَبْتَ أُمَّكَ لَمْ تَحْمِلْكَ وَأَبَاكَ لَمْ يَلِدْكَ ، حِينَ تَصِيرُ إِلَى سَخَطِ اللَّهِ ، وَمُخَاصِمُكَ وَمُخَاصِمُ أَبِيكَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) .
اللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا وَانْتَقِمْ مِنْ ظَالِمِنَا ، وَأَحْلِلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا ، وَنَقَصَ ذِمَامَنَا وَقَتَلَ حُمَاتَنَا وَهَتَكَ عَنَّا سُدُولَنَا ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَمَا فَرَيْتَ إِلَّا جِلْدَكَ ، وَمَا جَزَزْتَ إِلَّا لَحْمَكَ ، وَسَتَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، وَانْتَهَكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ وَسَفَكْتَ مِنْ دِمَاءِ عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ ، حَيْثُ يَجْمَعُ بِهِ شَمْلَهُمْ وَيَلُمُّ بِهِ شَعَثَهُمْ وَيَنْتَقِمُ مِنْ ظَالِمِهِمْ وَيَأْخُذُ لَهُمْ بِحَقِّهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ . وَ لَا يَسْتَفِزَّنَّكَ الْفَرَحُ بِقَتْلِهِ ، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ . وَحَسْبُكَ بِاللَّهِ وَلِيّاً وَحَاكِماً وَبِرَسُولِ اللَّهِ خَصِيماً وَبِجَبْرَئِيلَ ظَهِيراً . وَسَيَعْلَمُ مَنْ بَوَّأَكَ وَمَكَّنَكَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا وَأَنَّكُمْ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وَمَا اسْتِصْغَارِي قَدْرَكَ ، وَلَا اسْتِعْظَامِي تَقْرِيعَكَ تَوَهُّماً لِانْتِجَاعِ الْخِطَابِ فِيكَ ، بَعْدَ أَنْ تَرَكْتَ عُيُونَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ عَبْرَى وَصُدُورَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِهِ حَرَّى ، فَتِلْكَ قُلُوبٌ قَاسِيَةٌ وَنُفُوسٌ طَاغِيَةٌ وَأَجْسَامٌ مَحْشُوَّةٌ بِسَخَطِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ الرَّسُولِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ، قَدْ عَشَّشَ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ وَمَنْ هُنَاكَ مِثْلُكَ مَا دَرَجَ وَنَهَضَ . فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ الْأَتْقِيَاءِ وَأَسْبَاطِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلِيلِ الْأَوْصِيَاءِ ! بِأَيْدِي الطُّلَقَاءِ الْخَبِيثَةِ ، وَنَسْلِ الْعَهَرَةِ الْفَجَرَةِ ، تَنْطِفُ أَكُفُّهُمْ مِنْ دِمَائِنَا ، وَتَتَحَلَّبُ أَفْوَاهُهُمْ مِنْ لُحُومِنَا ، وَلِلْجُثَثِ الزَّاكِيَةِ عَلَى الْجُبُوبِ الضَّاحِيَةِ تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ وَتُعَفِّرُهَا الْفَرَاعِلُ ، فَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَتَّخِذُنَا وَشِيكاً مَغْرَماً ، حِينَ لَا تَجِدُ إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى وَالْمُعَوَّلُ وَإِلَيْهِ الْمَلْجَأُ وَالْمُؤَمَّلُ .
ثُمَّ كِدْ كَيْدَكَ وَاجْهَدْ جُهْدَكَ ! فَوَ الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِجَابِ لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا . وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارُنَا . وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ ، وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ ، وَجَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ ، يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي أَلَا لُعِنَ الظَّالِمُ الْعَادِي ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَكَمَ لِأَوْلِيَائِهِ بِالسَّعَادَةِ ، وَخَتَمَ لِأَوْصِيَائِهِ بِبُلُوغِ الْإِرَادَةِ ، نَقَلَهُمْ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْمَغْفِرَةِ ، وَلَمْ يَشْقَ بِهِمْ غَيْرُكَ وَلَا ابْتَلَى بِهِمْ سِوَاكَ ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الْأَجْرَ وَيُجْزِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالذُّخْرَ ، وَنَسْأَلُهُ حُسْنَ الْخِلَافَةِ وَجَمِيلَ الْإِنَابَةِ إِنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ
» . (اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس : ص181.)

إلى غير ذلك من كلماتها (عليها السلام) التي غيرت اتجاه الرأي العام نحو يزيد بن معاوية وسائر بني أُميّة ، وقد كانت تنهال عليه كالصواعق مما اضطره لأن يتنصل من تلك الجريمة ويلعن ابن زياد ويحاول أن يُحمله مسؤوليتها ، بعد أن بلغته آثار تلك المأساة في المدن والقرى التي مرّ بها موكب السبايا واللعنات التي كانت تنهال عليه وعلى أهل بيته . ورحم الله بعض الشعراء الذي ذهب يعاتب الأمويين بقوله :-
وعليك خزي يا أمية دائم
*** يبقى كما في النار دام بقاك
فلقد حملت من الآثام جهالة
*** ما عنه ضاق لمن دعاك دعاك
هلا صفحت عن الحسين ورهطه
*** صفح الوصي ابيه عن أباك
وعففت يوم الطف عفة جده
*** المبعوث يوم الفتح عن طلقاك
أفهل يد سلبت اماءك مثلما
*** سلبت كريمات الطفوف يداك
ام هل برزن بفتح مكة حسرا
*** كنسائه يوم الطفوف نساك
ورحم الله القائل في وصف السبايا :-
وزاكية لم تلق في النوح مسعدا
*** سوى انها بالسوط يزجرها زجر
ومذعورة اضحت وخفاق قلبها
*** تكاد شظاياه يطير بها الذعر
ومذهولة من دهشة الخيل ابرزت
*** عشية لا كهف لديها ولا خدر
تجاذبها أيدي العدو خمارها
*** فتستر بالأيدي إذا أعوز الستر
سرت تتراماها العداة سوافرات
*** يروح بها مصر ويغدو بها مصر
تطوف بها الاعداء في كل مهمة
*** فيجذبها قفر ويقذفها قفر
فلو لم يخرج الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهله وعياله لما حصل السبي الذي أخزى دولة بني أُميّة ، ولما كان لقضية الإمام الحسين (عليه السلام) أن تبلغ هذا الصدى الذي هزّ العالم الإسلامي بكلّ فئاته وطبقاته ؛ لأنّ الحسين (عليه السلام) كان يرى من وراء الغيب بأنّ شهادته وحدها لا تعطي النتائج المطلوبة ولا تحقق له جميع أهدافه ما لم تقترن بسبي النساء والأطفال والطواف بهنّ من بلدٍ إلى بلدٍ . فلقد كان باستطاعة يزيد ومعاونيه لو لم يتعرض لأسر النساء والأطفال وسبيهن من بلدٍ إلى بلدٍ أن يموّه على الناس ويقول لهم (لقد نازعني الحسين ملكي وقاتلني فقتلته) ! ولكنه بعد أن صنع مع النساء والأطفال ما صنع من الأسر والسبي والامتهان ضاقت عليه الحجج والذرائع ، ولم يعد أمامه إلّا أن يتنّصل منها ويضع مسؤوليتها على غيره .