إنّ الله تبارك وتعالى أرسل الأنبياء (عليهم السلام) إلى الناس ليدعوهم إلى الصراط المستقيم وليبينوا لهم أوامره ونواهيه ، وكانت سُّنّته أن لا يجبر الناس على طاعته قهراً بل أراد أن يكون لهم الخيرة في ذلك ؛ لأنّه جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، فلم تكن الغلبة لأولياء الله تعالى دائماً ، بل كثيراً ما تقتضي المصلحة أن لا يمنع من غلبة الكفار والمشركين والفسّاق على الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وأتباعهم فيغيرون عليهم ويقتلونهم ويأسرونهم ويؤذونهم ، وقد يطول مُدّة ملك الطواغيت إلى ما شاء الله ، وبذلك يبتلي عباده كي يميز الخبيث من الطيب والمنافق من المؤمن والمدعي الكاذب من الصادق الصابر .
كما أنّ العلم بالغيب لا يعني مُخالفة المحتوم ، بل هناك أموراً محتومة لا بُدّ من وقوعها ، وهذا لا يعني تقدير وقوعها على نحو الجبر ، بل هي ممّا جرى في عِلمِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى أنّها ستقع حتماً لِحضور أسبابها ومسبباتها . والتكليف في دار الدنيا إنّما يجري وفق قانون الأسباب والمسبّباتِ ، وإِنّ دفع الأسباب بعد حضورها ليس مقدوراً لأحدٍ لأنّه يرتبط بمسألة القضاء والقدر ؛ لذلكَ لم ينه النبي الكريم مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولدهُ الحُسين (عليه السلام) عن الذهاب إلى كربلاء حتى لا يُقتل فيها ، ولم يمنعِ الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه من الذّهاب إليها ، وعلمه (عليه السلام) بذلك لا يقتضي مُخالفتهُ لهذا الأمر المحتوم ، لاسيما وأنّهُ (عليه السلام) يعلمُ بأنّهُ سيُقتلُ وهوَ يُمارسُ وظيفتهُ الشّرعيّةَ في الأمرِ بالمعروفِ والنّهي عنِ المُنكرِ ، كما لَم يمنع نبي الله إبراهيم (عليه السلام) نفسهُ من تحطيم أصنام النمرودِ رغم علمه بأنّه سيُقتلُ إنْ قام بتحطيمِها ، فلَم يمنعهُ ذلك العلم من أداء وظيفته الشرعية ، ومَا كانَ علمه بما سيحلُّ به مُبرّراً للتخلي عن أداء واجبه .
فالأجل أو الموت يقينٌ يطرد الإنسان ويلحقه أينما يحلّ ولو كان في بروجٍ مشيدة ، يقول أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) : «اعْلَمْ يا بُنَيَّ إنَّكَ إنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيا ، ولِلْفَناءِ لَا لِلبَقاءِ ، ولِلمَوتِ لَا لِلحَياةِ ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدارِ بُلْغَةٍ وَطَريقٍ إِلَى الْآخِرَةِ ، وَأَنَّكَ طَريدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْهُ هارِبُهُ وَلَا يَفُوتُهُ طالِبُهُ ، وَلَابُدَّ أنَّهُ مُدْرِكُهُ ، فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأنْتَ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ ، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذلِكَ ، فَإذَا أنْتَ قَدْ أهْلَكْتَ نَفْسَكَ» .
وكذلك الإمام الحسين عليه السلام له أجلٌ لابد أن يلاقيه ، إلّا أنّه قد ادخر الله تعالى له درجة عنده لا ينالها إلّا بالشهادة ، فعن الإمام علي السجاد (عليه السلام) قال في قصّة كربلاء وسفره من الحجاز إلى العراق : «فَهَمّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِالخُرُوجِ مِن أَرضِ الحِجَازِ إِلَى أَرضِ العِرَاقِ ، فَلَمّا أَقبَلَ اللّيلُ رَاحَ إِلَي مَسجِدِ النّبِيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لِيُوَدّعَ القَبرَ ، فَقَامَ يصُلَيّ فَأَطَالَ فَنَعَسَ وَ هُوَ سَاجِدٌ ، فَجَاءَهُ النّبِيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَ هُوَ فِي مَنَامِهِ ، فَأَخَذَ الحُسَينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَ ضَمّهُ إِلَي صَدرِهِ ، وَ جَعَلَ يُقَبّلُ عَينَيهِ وَ يَقُولُ : بِأِبَيِ أَنتَ كأَنَيّ أَرَاكَ مُرَمّلًا بِدَمِكَ بَينَ عِصَابَةٍ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ ، يَرجُونَ شفَاَعتَيِ مَا لَهُم عِندَ اللّهِ مِن خَلَاقٍ ! يَا بُني ، إِنّكَ قَادِمٌ عَلَي أَبِيكَ وَ أُمّكَ وَ أَخِيكَ وَ هُم مُشتَاقُونَ إِلَيكَ ، وَ إِنّ لَكَ فِي الجَنّةِ دَرَجَاتٍ لَا تَنَالُهَا إِلّا بِالشّهَادَةِ» .
فاختار الإمام الحسين (عليه السلام) طريق الشهادة الذي يريده الله تعالى ويحبّه ، ويقول الإمام الحسين (عليه السلام) : «كَأنّي بِأوْصَالِي تُقَطِّعُها عُسْلانُ الْفَلَواتِ بَيْنَ النَّواويسِ وَكَرْبَلاءَ ، فَيَمْلأَنَّ مِنّي أكْراشاً جَوْفَاء وَأجْرِبَةً سَغْبَى ، لَا مَحيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ ، رِضَى اللهِ رِضانا أهْلُ الْبَيْتِ ، نَصْبِرُ عَلى بَلائِهِ وَيُوَفِّينا أجْرَ الصّابرينَ ، لَنْ تَشِذَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لُحْمَتُهُ ، وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ في حَظيرَةِ القُدْسِ ، تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ وَيُنْجِزُ بِهِمْ وَعْدَهُ ، مَنْ كانَ باذِلاً فينا مُهْجَتَهُ ، وَمُوَطِّناً عَلى لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ ، فَلْيَرْحَلْ مَعَنا فإنَّني راحِلٌ مُصْبحاً إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى» .
هو وإن كان (عليه السلام) لم يربح النصر عسكرياً لقلّة العدد وخذلان الناصر ، إلّا أنّه انتصر نفسياً وجرّع أعدائه الويل والثبور وزنخ حياتهم وجعل دارهم بوراً . وانتصر إعلامياً ففضح طواغيت السلطان وأذهب ماء وجوههم وعجّل كثيراً في نهاية الدولة الأمويّة ، وذاع صيته في مشارق الأرض ومغاربها ، حتّى أنّ الأرض فارت واسودّت السماء اسوداداً عظيما وظهرت الكواكب نهاراً حتى رؤيت الجوزاء عند العصر ، وسقط التراب الأحمر ومكثت السماء بلياليها كأنّها علقة ، ولم يبق ممّن قتل الحسين (عليه السلام) إلّا عُوقِب في الدُّنيا إمّا بقتلٍ أو عمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدّةٍ يسيرة . وانتصر روحياً وفاز هو وشيعته في جنّات النعيم السرمديّة ، وكان يقول (عليه السلام) : "ألا مِنْ نَاصِرٍ يَنْصرنا" ، (أي يقصد هل من طالبٍ للجنّة معنا؟) ؛ لأنّه (عليه السلام) كان قد كشف الغطاء عن جميع أنصاره وأراهم منازلهم في الجنّة ، ولو لا ذلك لما قاتلوا ببسالة . فهذه انتصارات الإمام الحسين (عليه السلام) للإسلام والمسلمين ، وسينتصر الإمام الحجّة بن الحسن (عجّل الله فرجه) للحسين (عليه السلام) في آخر الزمان ويأخذ بثأر جميع أولياء الله الصالحين .